الحياة لعبة خطِرة

عبد الرحيم كمال يجعلها مسرحاً لروايته الجديدة

الحياة لعبة خطِرة
TT

الحياة لعبة خطِرة

الحياة لعبة خطِرة

في روايته الصادرة أخيراً «كلُ الألعاب للتسلية» يفتح الكاتب والروائي المصري عبد الرحيم كمال غرف الألعاب القديمة، وصناديقها المغلقة، في رواية تسعى لتقصّي جذور الملل والخواء البشري.

تؤسس الرواية، الصادرة عن دار «العين» للنشر بالقاهرة، للآصرة المُبكرة بين الكتابة و«اللعب»، عبر تمهيد بصوت راوٍ عليم يُحيلنا للكُتّاب بوصفهم «الأشرار الطيبين» في العالم، الذين قطعوا طريقهم للملعب المُتسع «الكتابة»، في كسر لحاجز الموت والفوز بوهم الخلود. وإن كانت تلك اللعبة بدأت تشق قوانينها الخاصة مع اختراع الكتابة، إلا أنها سرعان ما تحوّلت إلى لعبة خطرة، لعبة بلا رابح أو خاسر، هدفها الأول هو التسلية والمتعة، إلا أنها تسلية لا تخلو من ألم.

سرعان ما تُحيلنا تلك التوطئة إلى فصول الرواية (239 صفحة) التي تنهض على مسرح «لعبة» عبثية، حيث يجد كاتب روائي شهير يُدعى «حازم صفوت» نفسه في قبضة رجل يعمل في جهة أمنية «سامر بك الشرقاوي» الذي يحتجزه في مكان مجهول، ويجعل شرط منح حريته الوحيد هو أن يكتب له أولى رواياته، رواية يكون هو كاتبها وبطلها ومحورها. وسرعان ما يُحوّل هذا الطلب الفضاء الروائي إلى ملعب، طرفاه لاعب موهوب مُحترف منزوع الحرية، وآخر مُراوغ وصاحب سلطة ومهووس بفكرة الألعاب، حيث يطلعنا السرد على مفارقة احتفاظه بغرفة ألعاب طفولية في بيته، يقضي بها أوقاتاً وهو يتفحص ألعابه القديمة، وتحديداً لعبة القطار، لنبدو أمام بطل طفل بملامح رجل سلطوي: «بينما يظل سامر بك يمضي جُلّ وقته في غرفة الألعاب يحدّق نحو القطار اللعبة وهو يجري على القضبان ويصيخ لصوت صَفَارته الشهيرة، وينتقل بعده من لعبة إلى أخرى، حتى يشعر بالإنهاك فينام في غرفة اللعب».

توقيع السجّان

يُحاصر عبد الرحيم كمال بطله الكاتب «حازم صفوت» بحدود مكانية بالغة الإحكام والتقييد، فهو يتنقل بين ممرات طويلة وبين غرف مختلفة في المكان المُحتجز فيه، معصوب العينين، تلتقطه كاميرات مراقبة مُعلقة في سقف الغرفة. وتؤدي تلك التعقيدات المكانية والنفسية في الرواية إيقاعاً موازياً لعملية الكتابة المُحاصَرة داخل تلافيف عقل البطل ومُخيلته، وهو «مأمور» بكتابة رواية عن «سجّانه» سامر الشرقاوي وبتوقيعه، وبشرط أن تكون رواية شيقة.

يبدو فعل كتابة رواية عن «سامر الشرقاوي» عملاً يستحضر معه عدة ألعاب سردية، بداية من مراوغة سيرته الذاتية، وتقصي تاريخه العائلي، والاستعانة بالتخييل لتحويل شخصية «سامر الشرقاوي» الأمنية الجافة إلى شخصية بملامح روائية، فيُطلق الكاتب له صوتاً داخلياً، ويتخيّل ندوب طفولته، ويصنع له علاقة قديمة مُتخيّلة بروايات اللص الظريف (أرسين لوبين).

يُوازي عبد الرحيم كمال بين معاناة بناء بطله «حازم صفوت» لعالم روائي بتوقيع سجانّه، وبين حالة «التسلية» التي يستشعرها «سامر بك» في المقابل. ويعزز بناءَ الرواية فصولٌ تتناول سيرة التسلية عبر التاريخ، التي ارتبطت بالحلبات التي كان يصطنعها الملوك لتزجية الملل عنهم، والتي يزجّ فيها العبيد لمواجهة الأسود، فـ«ترتفع الأقداح والصيحات ويشرب الملك والحاشية خمورهم الممزوجة بدماء العبيد». ثم تستمر مسيرة تطوير «ألعاب» دامية أخرى، صارت تُسمى بالمسدس والبندقية والقنبلة: «لم يشعر اللاعبون المهرة بأي ذرة من ضمير وهم يضغطون على زر صغير داخل لعبتهم المسماة بالطائرة فتسقط منها اللعبة التي تسمى القنبلة الذرية التي تُفني مئات الآلاف من البشر». وتطرح الرواية سؤالاً افتراضياً حول ما إذا كان أشرار العالم هم الأطفال الذين حُرموا من اللعب في طفولتهم؟ أوهم «هؤلاء الأطفال الذين لم يخرجوا من طفولتهم بسلام؟».

لعبة مسرحية

ويُوظّف السرد فصول سيرة الألعاب واللاعبين، بضمير الراوي العليم، فيتوازى مع مراحل تطوّر «اللعبة» بين البطلين المركزيين في الرواية، صراع «اللاعب المحترف» مع «تسلية صاحب اللعبة»، وتتضاعف فانتازية تلك اللعبة، بأن ينضم إلى «حازم» عدد من الموهوبين تباعاً منهم لاعب كرة شهير، وممثل كوميدي، الذين يجدون أنفسهم في «سجن» السلطة دون أن يعرفوا السبب، ليتحوّل سرد الرواية بالتدريج إلى لعبة مسرحية، يجمع الأبطالَ فيها مكانٌ مغلق، وسط مراجعات للحياة، وأسئلة عن جدوى الموهبة، وانتظار الموت.

ويرتفع عبد الرحيم كمال بسقف اللعبة مع نهاية الرواية بأن يُدخل الرأي العام كطرف فيها، بعدما يتصاعد الفضول حول اختفاء كل تلك الشخصيات العامة، فيُصبح مطلوباً من «حازم صفوت» اختراع قصة تُفسّر للرأي العام سبب اختفائهم دون توريط للسلطة، بعد أن يتحوّل لغز اختفائه هو والمحتجزين معه إلى «ترند» يتواطأ الجمهور في تشكيل سرديته، فيبدو «الترند» اللعبة الرقمية الأكثر شعبية التي يُزجي بها الناس أيامهم الرتيبة مع الحياة، تماماً كما يلعبون لعبة «الاستغماية» مع الأمل والانتظار: ‫«المواطنون والمواطنات في علبهم الصغيرة المغلقة يلعبون كل نهار وليلة لعبة واحدة مُكررة، هي لعبة الاستغماية المعروفة، حيث يضع المواطن يده على عينه ويعطي وجهه للجدار وينادي في صوت خفيض: خلاص؟».‬‬‬



هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟
TT

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

قلّ أن حملت قصة من قصص الحب ذلك القدر من المفارقات والملابسات الملغزة، كما هي حال القصة التي ربطت بين شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية. ولعل رسوخ تلك القصة في المخيلة الإنسانية الجمعية لا يعود إلى عدِّها جزءاً لا يتجزأ من السردية التوراتية فحسب، خصوصاً أن قصص الحب المتصلة بالخيانة والعشق الشهواني والعلاقات الآثمة في «العهد القديم» أكثر من أن تُحصى، ولكن ما أكسبها طابَعها الشعبي الواسع هو وقوعها على خطوط التماس الفاصلة بين الدين والأسطورة من جهة، وبين الولاء للقلب والولاء للوطن من جهة أخرى.

والواقع أن أي قراءة متأنية لعلاقة شمشون بدليلة لا يمكن أن تتم على أرض العاطفة والحب اللذين تحرص التوراة على استبعادهما عن سياق الأحداث، بل يتضح للقارئ أن الخلفية التي تُروى من خلالها الوقائع هي خلفية المواجهة الضدية بين الخير العبري والشر الفلسطيني. ويكفي أن نعود إلى الجملة التي يستهل بها «سفر القضاة» القصة بقوله: «ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة»، لكي نقرأ المكتوب من عنوانه، إذ ستكون علاقتا الزواج اللتان ربطتا شمشون بامرأتين فلسطينيتين متتاليتين ترجمة بالغة الدلالة لامتداح الذات الجمعية الفحولية، مقابل تأنيث العدو وتشويه صورته، ولو أن العقاب الإلهي قد توزع مناصفةً بين طرفَي الصراع.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن شمشون قد ولد، وفق الرواية التوراتية، بتدخل مباشر من الرب الذي استجاب لرغبة أبيه منوح وأمه العاقر في الحصول على طفل يوفر لهما أسباب السعادة والاستمرار. وبعد تجاوز الفتى سن البلوغ، التقى صدفة بفتاة فلسطينية حازت على إعجابه، فسارع بالطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها زوجة له. وعلى الرغم من أن أبويه واجها طلبه باستنكار بالغ، لأن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا «متسلطين على إسرائيل»، فإنهما أذعنا لطلبه في نهاية الأمر. وبينما كان ذاهباً للزواج التقى شمشون بشبلٍ مفترس فشقّه باليد المجردة كما يُشقّ الجدي. على أن عروسه الفلسطينية ما لبثت أن خانته مرتين؛ الأولى حين أطلعت الفلسطينيين على حل الأُحجية التي طرحها عليهم، والثانية حين تركته بغتةً لترقد في أحضان أحد أصدقائه المقربين.

ومع انتقاله إلى غزة تُنبئنا السردية التوراتية بأن شمشون لم يكد يقع في حب امرأة أخرى اسمها دليلة، حتى «صعد إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها تملّقيه وانظري بماذا قوته عظيمة»، عارضين عليها مبلغاً مغرياً من المال. على أن شمشون المتوجس من السؤال أعطى دليلة ثلاث إجابات كاذبة حول سر قوته، حتى إذا بالغت في إلحاحها «وضاقت نفسه إلى الموت» أخبرها بأن قوته كامنة في خصل شعره الطويلة، فإن تمّ قصُّها فارقته هذه القوة بالكامل.

وإذ نجحت دليلة في الوقوف على سر بطلها العاشق، أنامته على ركبتيها وطلبت من أحد الرجال قص جدائله السبع، حتى إذا أيقظته وأراد الانقضاض على الفلسطينيين، اكتشف أنه بلا حوْل، وأنه وقع ضحية المرأة المخاتلة التي أسلم لها قلبه. بعد ذلك اقتلع الفلسطينيون عينيه وأوثقوه بالسلاسل وسجنوه، آمرين إياه أن يدير في سجنه حجر رحىً ثقيلاً. وبعد انتشاء الفلسطينيين بالنصر جاءوا بشمشون ليبهجهم بعروضه المسلية في أحد أعيادهم الوثنية، فدعا الأخير الرب ليساعده على الانتقام، وكان شعره قد نما على غفلة من أعدائه، حتى إذا أعاد الرب له قوته هتف من أعماقه «لتمتْ نفسي مع الفلسطينيين» ثم هدم الهيكل على نفسه، وعلى الآلاف الثلاثة من الفلسطينيين الذين لم ينجُ منهم أحد.

ولم تكن مثل هذه القصة الحافلة بالرموز لتسهوَ عن بال الشعراء والكتاب والفنانين، الذين تناولوها عبر التاريخ من زواياهم المختلفة، وأفردوا لها قصائد ولوحات وأعمالاً إبداعية كثيرة. ولم يَفُت منتجي هوليوود ومخرجيها الكبار استثمار هذه القصة المثيرة في المجال السينمائي، فتم استلهامها مرات ثلاثاً بين مطلع القرن الفائت ومنتصفه، إضافة إلى عشرات العروض المسرحية والموسيقية والأوبرالية.

أما في مجال الشعر فقد استند الشاعر الإنجليزي جون ميلتون إلى قصة شمشون ودليلة في عمله الدرامي «سامسون أغونيستس» الذي استلهم من خلاله التراجيديا الملحمية الإغريقية، مبتعداً عن قواعد المسرح الإليزابيثي وأعرافه. ومع أن ميلتون قد آثر الالتزام بالنص التوراتي، فإنه وهو المصاب بالعمى تماهى من نواحٍ عدة مع البطل العبري الذي سمل الفلسطينيون عينيه. على أن أكثر ما يستوقفنا كقراء هو قول دليلة لشمشون الغاضب والرافض للصفح بأن الفلسطينيين «سيمتدحونها عبر الأجيال»، كما لو أن ميلتون كان يستطلع، بحدسه الشعري الثاقب، مآلات الصراع الوجودي الذي لا نهاية له بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وإذا كانت ثنائية الجمال والموت هي التي حكمت قصائد الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة في ديوانه «أفاعي الفردوس»، فقد بدت قصيدته «شمشون» ذروة الديوان وواسطة عقده الأهم. وإذا كان أبو شبكة قد اكتفى بإعادة تظهير الواقعة كما وردت في التوراة، نائياً بنفسه عن أي بعد قومي أو آيديولوجي، فلأن معاناته القاسية مع المرأة لم تمكنه من أن يرى في دليلة سوى واحدة من الرموز الأنثوية الأكثر دلالة على الخيانة والغدر. وهو إذ يتقمص شخصية شمشون المخدوع، يخاطب دليلة قائلاً:

ملّقيهِ بحسنكِ المأجورِ

وادفعيه للانتقام الكبيرِ

إنما الحسْن يا دليلةُ أفعى

كم سمعنا فحيحها في سرير

ملّقيهِ ففي ملاغمك الحمرِ

مساحيقُ معدنٍ مصهورِ

وارقصي إنما البراكين تغلي

تحت رجليكِ كالجحيم النذيرِ

وبينما يرى الباحث العراقي فاضل الربيعي، الذي يعمل على تفكيك البنية التاريخية للسرديات الدينية والميثولوجية، أن الحادثة برمتها ذات جذور يمنية سبئية، إذ إن اسم شمشون مشتق من الشمس، واسم دليلة مشتق من الليل، وأن الصراع في عمقه الرمزي هو صراع بين التقويمَين الشمسي والقمري، يرى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو القصة القديمة من منظور معاصر، محولاً عمله المسرحي «شمشون ودليلة» إلى مناسبة لوضع التاريخ على سكته الصحيحة. اللافت في عمل بسيسو أن عنوان المسرحية قد ظل غريباً عن سياقاتها حتى فصلها الأخير، حيث تتم على نحو مفاجئ إماطة اللثام عن الحقيقة المُرة. فالفلسطينيون المحشورون في عربة معطلة لم يعودوا يملكون، وقد أسفرت كل إشارات المرور عن لونها الأحمر، سوى قرارهم بإعلان الثورة دفاعاً عن هُويَّتهم المهددة بالامّحاء. أما سكان العربة الذين يتحكم بهم جبروت سائق حاقد ومبهم الملامح، فبينهم الأم والأب وابناهما عاصم مازن وريم، التي لم تستطع أثناء إجبارها على النزوح أن تميز بين طفلها يونس وصرة ثيابها، فتركت الأول وحملت الثانية، لتربي في داخلها مرارة الفقد وشهوة الانتصار على الجلاد.

وسرعان ما نكتشف أن من يمسك بزمام العربة هو شمشون الإسرائيلي الذي لا يكف عن تجديد وجهه الكالح من عصر إلى عصر، والذي يهتف بالفلسطينيين بنبرة هازئة:

هل تنتظرون دليلة؟

تكشف سرّي وتجزُّ ضفائر شَعري

تفقأ عينيَّ وتربطني كالثور أجرُّ الطاحون

عبثاً تنتظرون دليلة

أنتم في راحة كفّي

كلُّ قنابلكم تتفجر في داخل هذي الخوذة

كصواريخ الأطفال

وإذ يتابع النص المسرحي مفاجآته، تتقمص ريم شخصية دليلة الفلسطينية محذرة شمشون من التمادي في بطشه المتغطرس، ومبلغة إياه بأن دليلة الجديدة ستكون أكثر دهاءً من الأولى وأكثر شراسةً في الدفاع عن حقوق شعبها المهدورة. وفيما يُسمع من وراء العربة دوي الانفجارات وأزيز الرصاص، تتماهى ريم مع صورة الأرض نفسها، هاتفة بشمشون:

صار لنا دفتر يومياتٍ آخرُ يا شمشونْ

صرنا يا شمشونُ نوقّع فوق الأربطة البيضاء على الجرحِ،

الأربطةُ البيضاءُ تغطّي الأرض

فوق جبين الزيتونة صار رباطٌ أبيضُ،

والشمس ممرّضةٌ تسعى بين الجرحى