«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية
TT

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

صدر العدد العاشر من مجلة «الأديب الثقافية - صيف 2024»، وهي مجلة فصلية عراقية تُعنى بـ«قضايا الحداثة والحداثة البعدية»، يرأس تحريرها الكاتب العراقي عباس عبد جاسم، وقد تضمّنت دراسات وبحوثاً ومقالات ثقافية مختلفة.

كتب رئيس التحرير «افتتاحية» العدد بعنوان «أسلمة العروبة أم عوربة الإسلام».

وتضمّن حقل «بحوث» ثلاث دراسات؛ «أدونيس بين النص والشخص» للشاعر والناقد والمترجم عبد الكريم كاصد، إذ «يكرّر أدونيس في حديث له أخير، ما قاله سابقاً في مناسبات كثيرة، وهو أن القارئ العربي غير معني بالنص قدّر عنايته بالشخص الذي يقرأ له، وبعبارة أخرى أنه يقرأ النص، فما يشغله هو الشخص ذاته كما يفهمه القارئ من خلال الصورة التي كوّنها عنه، الصورة التي قد تكون مفارقة تماماً للصورة الحقيقية للشخص».

والدراسة الثانية «الخطاطة المعرفية: المفهوم وتعدّد التسميات» للناقدة الدكتورة وسن عبد المنعم، وذلك من خلال تفكيك «المتوالية القصصية» للدكتور ثائر العذاري، وفيه تسعى إلى التوصل لمفهوم جديد للنقد المتفكّر بآركيولوجية معرفية، من منطلق ما يصطلح عليه بـ«الخطاطة المعرفية» من حيث المفهوم العابر للنقد الأدبي، بوصفها تمثّل أهم الثيمات المفصلية في التحولات المعرفية ما بعد الحداثية بأفق سوسيو ثقافي أوسع.ونشر الدكتور فاضل عبود التميمي «قراءة في ضوء الدراسات الثقافية» لـ«يوميات الطفولة في سيرة - أمواج» للناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم.

وتقدّم «الأديب الثقافية» محور «الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية» بأفق نقدي موسع، يضم دراسات لنقاد وأكاديميين عرب وعراقيين، منها: مشروعية ما بعد الأكاديمية في النقد العربي المعاصر - للدكتورة آمنة بلعلي من الجزائر/ ما بعد المنهج: مسارات النقد العربي المعاصر من التمثل إلى الكاوس - للدكتور فيصل حصيد من الجزائر أيضاً/ المفاتيح الإجرائية للمرحلة ما بعد الأكاديمية - للدكتور محمد سالم سعد الله/ النقد العربي ما بعد الأكاديمي (قفزة نوعية برهانات كبيرة) - للدكتور عبد العالي بوطيب من المغرب/ المقاربات البينية أفقاً للدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية - للدكتور عبد الحق بلعابد من جامعة قطر/ النقد وسلطة المؤسسة - للدكتور سامي محمد عبابنة من الأردن/ الممهدات النظرية والفكرية للدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية - للدكتورة إنصاف سلمان/ مقدمة في الفكر النقدي لما بعد النظرية النقدية - عباس عبد جاسم.

وفي حقل «ثقافة عالمية»، نشر المترجم والكاتب المغربي عبد الرحيم نور الدين ترجمة لـ«حوار بين المفكر الأميركي مايكل ساندل والفيلسوف الاستراقام إلى بيتر سينجر»، وتضمن مستويات متعدّدة من الفكر والفلسفة: «العدالة في العالم/ الأخلاق/ منطق السوق/ الثقافة النفعية». وفي حقل «نصوص» أسهمت الشاعرة والروائية العراقية المغتربة نضال القاضي بقصيدة حملت عنوان «يممت وجهي».

وفي حقل «تشكيل» كتب عبد الكريم كاصد مقالة بعنوان «تعبيريون: كاندنسكي، مونتر، والفارس الأزرق» عن معرض تشكيلي شامل.

وفي حقل «نقطة ابتداء»، تناول الدكتور عبد العظيم السلطاني «محنة قصيدة النثر»، إذ استتبع فيها العلامات الفارقة في تاريخ قصيدة النثر من حيث التنظير لها والمنجز منها، ابتداء من كتابها في مجلة «شعر» في بيروت مثل أدونيس وأنسي الحاج، وغيرهما، ومحمد الماغوط قبلهما، وتوقف عند النقاط المفصلية لمأزق قصيدة النثر ومحنتها في المرحلة الراهنة.

وتصدر «الأديب الثقافية» بطبعتين؛ ورقية وإلكترونية في آن واحد.



قسطنطين كفافي: اسكب عاطفتك المصرية في لغة أجنبية

جانب من متحف كفافي في الإسكندرية
جانب من متحف كفافي في الإسكندرية
TT

قسطنطين كفافي: اسكب عاطفتك المصرية في لغة أجنبية

جانب من متحف كفافي في الإسكندرية
جانب من متحف كفافي في الإسكندرية

لعل إعادة افتتاح منزل قسطنطين كفافي - وُلد لوالدين يونانيين في الإسكندرية في 29 أبريل (نيسان) عام 1863 ورحل في 29 أبريل عام 1933- في ثوبه الجديد بالإسكندرية في مايو (أيار) من هذا العام مناسبة لزيارة نصوصه مجدداً وإن لم نكن يوماً في حاجة إلى ذريعة لكي نتآنس به. وقد جرت العادة في النقد الناطق بالإنجليزية بأن يتم التعريف بكفافي بصفته يونانياً سكندرياً وإهمال مصطلح «الإجيپتيوت» أي اليوناني المُتمصِّر الذي كان هو من صكَّه بحسب معاصريه من النقاد اليونانيين ومنهم ميماس كولايتس. وما هذا التغاضي عن تجليات هويته «الإجيپتيوت» إلا شذرة من الخطاب الغربي السائد عن الكوزموبوليتانية السكندرية الذي يعلي من شأن كل ما هو أوروبي في المدينة، كما حاججت في كتابي الذي صدر بالإنجليزية عام 2013 عن دار نشر جامعة فوردهام، والذي صدرت ترجمته العربية عن «المركز القومي للترجمة» تحت عنوان «الكوزموبوليتانية السكندرية: أرشيف» بترجمة عبد المقصود عبد الكريم وبمراجعتي العام الماضي وأستقيه في هذا المقال.

كفافي

ليس من شك في أن الإسكندرية الحديثة كانت وما زالت تزخر بممارسات كوزموبوليتانية تشهد عليها مثلاً النصوص السيرذاتية ليوسف شاهين وإدوار الخراط. إلا أن ما أطرحه هو أن الخطاب الأوروبي عن الكوزموبوليتانية السكندرية متواطئ مع الاستعمار بتقديمه للإسكندرية الحديثة شبه الكولونيالية - وذلك بالتركيز على الجالية اليونانية - بوصفها تعيد إنتاج العصر الذهبي للمدينة الهلينستية مع الحط من شأن كل ما هو مصري - عربي. ومن هنا يكرس النقد الأنجلوفوني هذا الثلاثي من الأدباء: كفافي وإ. م. فورستر وولورانس داريل، باعتبارهم عيون الأدب السكندري، ويؤول نصوصهم على أنها متفقة ومتوافقة مع هذا الخطاب، وهي ليست كذلك بحال من الأحوال. ومن ثم تُدرَج نصوص كفافي في ذلك الخطاب ذي المركزية الأوروبية كهمزة وصل بين الإسكندرية الحديثة والمدينة الهلينستية، ويصور شعره بأنه لا يُعنى بالعرب - الإسكندرية منذ الفتح العربي حتى حكم محمد علي - والمصريين في الفترة الحديثة على اعتبارهم برابرة.

إلا أن نصوص كفافي، شعراً ونثراً، تناقض جذرياً هذه القراءات الاختزالية. بينما تنم بعض نصوصه عن نظرة استشراقية مبنية على ثنائيات متقابلة أتناولها بإسهاب في كتابي، أرى أيضاً أن أعماله الشعرية والنثرية تطرح كذلك هويات متعددة، غير ثابتة ومنفتحة على بعضها بعضاً في متصلٍ تتجلى فيه حساسية يوناني من الشتات. لضيق المساحة؛ أقتصر هنا على ثلاثة نصوص يتضح فيها تماهي كفافي مع المصريين بصفته يونانياً متمصراً.

في قصيدة «عن أمونيس مات في التاسعة والعشرين، في عام 610» نلتقي مجموعة شبان سكندريين قد يكونون مثليين يتوسلون إلى شاعر اسمه رافاييل أن يبذل أقصى ما في وسعه ليصقل المرثية التي سيكتبها لشاهد قبر الشاعر المتوفى. يحيلنا التاريخ، عام 610، إلى نهايات الحكم البيزنطي في مصر بضعة عقود قبل الفتح العربي، كما يشير اسم أمونيس إلى شاب قبطي، مثله مثل رافاييل من الصفوة المصرية التي تكتب باليونانية، اللغة الأدبية السائدة.

اللافت، أن مجموعة الشبان - وذلك بعد مرور ما يقرب على ألف عام بعد فتح الإسكندر لمصر - غير مُتأغرقين؛ فهم يناشدون رافاييل: «إغريقيتك جميلة وموسيقية دائماً. / لكننا بحاجة الآن إلى كل مهارتك/ ففي لغة أجنبية سوف ينتقل حزننا وحبنا، / اسكب عاطفتك المصرية في لغة أجنبية... بحيث يكشف الإيقاع وكل جملة أن إسكندرانياً يكتب عن إسكندراني» (في ترجمة بشير السباعي في «آهِ يا لونَ بشرةٍ من ياسمين»!).

من المدهش أن تشير القصيدة إلى اليونانية مرتين بـ«لغة أجنبية» كما يرد في الأصل اليوناني. كفافي إذن ينظر إلى لغته الأم من خلال أعين من يظلون خارج مجالها ويخلق متصلاً يربطهم، مروراً بالشعراء المصريين المتأغرقين، بالشاعر اليوناني المتمصر. والقصيدة في رأيي «عن إمكانية نصية عبر ثقافية... مصرية - يونانية». ومن هنا تجعل القصيدة الإسكندرية - ليس الشعر اليوناني - فضاءً أمثل لإبداع كتابة عبر ثقافية.

كتب كفافي قصيدة «27 يونيو 1906، 2 بعد الظهر» عام 1908، أي أن حادثة دنشواي ظلت تشغله لأكثر من عام ونصف العام. والقصيدة تصف لحظة شنق يوسف حسين سليم (وقد كتب الشاعر اسمه في مخطوطة للنص) وهو اصغر الرجال الأربعة الذين أعدمهم البريطانيون وتتمحور حول أسى أمه وانهيارها. «حِينَ جَاءَ المسيحيُّونَ بالشَّابِّ البريء ذي السَّبعَة عشرَ عاماً لِيَشنُقُوه، زَحَفَت أُمُّه، القَرِيبَةُ منَ المِشْنَقَة، / وَارْتَمَت على الأرض» (في ترجمة رفعت سلام في «قسطنطين كڤافيس الأعمال الشعرية الكاملة»). اختيار كفافي مفردة «المسيحيون» في رأي رجاء النقاش، في كتابه «ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء»، «يقصد... السخرية من الإنجليز، فالمسيحية تعني الرحمة والتسامح والمحبة، ولكن الإنجليز تصرفوا في دنشواي بمنتهى القسوة والوحشية». ونلمس في المفردة أيضاً - إذ تعكس نظرة القرويين المسلمين إلى البريطانيين - التماهي نفسه الذي رأيناه في عبارة الـ«لغة أجنبية» في قصيدة «عن أمونيس».

أتفق مع ستراتيس تسيركاس، الروائي والناقد اليوناني المتمصر، في ترجيحه أن «27 يونيو 1906» تستلهم المواويل الشعبية عن دنشواي - وترد في أحد هذه المواويل دونه پيير كاكيا لفظة «النصارى» إشارة إلى الإنجليز - وليس القصائد التي كتبت عن الحدث بالفصحى. لذا؛ وبعكس ترجمات القصيدة التي استخدمت الفصحى لعديد الأم، آثرت أن أترجم الأبيات إلى العامية المصرية: «سبعتاشر سنة بس عيشتهوملي يا ضنايا»، ثم، بعد شنقه في ذروة لوعتها «سبعتاشر يوم بس... سبعتاشر يوم بس اتهنيت بيك فيهم يا ضنايا». وأرجّح أن كفافي كان يعرف شيئاً من العامية المصرية، فمثلاً في قصيدته «شم النسيم» - عن مظاهر الاحتفال في الإسكندرية في المكس والقباري ومحرم بك والمحمودية - ترد كلمة «مغني» مكتوبة بالحروف اليونانية.

لكفافي نص نثري معنون «عن التقارب الثقافي بين مصر والغرب» أؤرخه بعام 1928 وفيها يطرح تصوره لدور المجموعة الأدبية La Lanterne sourde d’Égypte التي أسسها في القاهرة الشاعر والمحرر البلجيكي پول فاندربورت، امتداداً دولياً لمجموعة بدأها في بروكسل. يقرّ كفافي بأن مهمة المجموعة الرئيسية هي تعريف الجمهور الأوربي «بالأدب العربي المعاصر في مصر، ورؤية الكُتاب العرب المعاصرين لتيارات الفن الأوروبي» من خلال الترجمة ثم يوصي بالعناية بالأدب الفرانكوفوني الذي ينتجه مصريون، وكذلك يونانيون وشوام هم أيضاً «أبناء مصر». ثم ينتقل إلى الإنتاج الفكري لليونانيين المتمصرين الذين «تربوا في بيئة مصرية» و«ينتجون أو سوف ينتجون أعمالاً فيها، أو سوف يكون فيها، شيء من هذه البيئة» وهم أقرب إلى «أسلوب الحياة المصري» وإلى زملائهم المصريين. ويقترح إتاحة أعمال الكتاب الإجيپتيوت من خلال مقالات مختصرة بالفرنسية، لكنه يحبّذ العربية لتعريف القراء الناطقين بالعربية بها. في هذا النص، الذي ترجمه إلى الإنجليزية پيتر جيفريز ضمن أعمال كفافي النثرية، يُبرز الشاعر الإجيپتيوت التواصل الثقافي بين اليونانيين المتمصرين والأدباء المصريين ويبرهن على نظرة طليعية في وعيها بالأدب الهجين.

وحين تشرّفت بأن أشارك كمستشارة ضمن مجموعة أكاديميين في إعادة التصميم المتحفي لبيت كفافي بدعوة من مؤسسة أوناسيس التي اقتنت أرشيف الشاعر، لاقت مقترحاتي لمواد للعرض تبرز توجهاته الإجيپتيوت وسياقاته المصرية وأصداءه العربية ترحيباً من الجميع. يشتمل التقويم المعروض على حائط إحدى الحجرات، ضمن التواريخ المفصلية في سيرة الشاعر وتأريخ كتاباته وأحداث يونانية، أحداثاً تاريخية مصرية منها حادثة دنشواي. وفي حجرة أخرى عرضٌ على إحدى الحوائط حرصتُ على أن يسلط الضوء على اليوناني المتمصر، فهو يضم استنساخاً لمخطوطة قصيدة «27 يونيو 1906» ونصاً نثرياً لكفافي يعكف فيه بتعاطف على مظاهر حزن المصريين على إعدام إبراهيم ناصف الورداني الذي اغتال بطرس غالي رئيس الوزراء الموالي للبريطانيين ورسالة من پول فاندربورت بخصوص حدث أدبي تكريماً لكفافي تزمع جماعة «اللانتيرن سورد» في القاهرة تنظيمه ثم قصاصة من صحيفة لا «پاتري» تذكر فيه الاجتماع الأول للجماعة نفسها، بحضور عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني وتعلن عن فعالية على شرف كفافي. رأيت أنه من المهم أيضاً أن يضم العرض كتاب إدوارد سعيد عن الأسلوب المتأخر، حيث يتناول كفافي ضمن كتاب وفنانين آخرين، ونذكر هنا أن قصيدة اليوناني المتمصر «في انتظار البرابرة» ألقتها ابنة المفكر الفلسطيني في جنازته.