لذة الفهم

حوارات مع فلاسفة

سارتر
سارتر
TT

لذة الفهم

سارتر
سارتر

أعشقهم جميعاً، وإن كنتُ أميل إلى واحد أكثر من الآخر، لمجرد انجذابي إليهم بدرجات متفاوتة. لا أخصص الوقت الكافي لكل منهم قدر ما يستحق. لا من إهمال أو انشغال تافه ما أو لا مبالاة مقصودة، بل من انغماس في العمل لا مبرر له إلا الكدح الماسوشي. أحبهم في اختلافهم، وفي تشابه حرصهم على أن أبلغ مرادي، أو أقله... في محاولتهم ذلك، فهذا أكثر ما يجيدونه.

غالباً ما تستعر نار اللقاءات بين أخذٍ وردّ، وغالباً ما ألملم علامات استفهامي وأرحل بجلَبَة خائبة، بسببي لا بسببهم، أو بصمتٍ حائرة.

«اسعي إلى المعرفة لتبلغي أقصاها... هنا يكمن معنى الحياة»، قال لي أفلاطون ذات حوار.

«كلما سعيتُ، شقيتُ»، قلتُ له بتبرُّم.

أفلاطون

«كيف تشقين والخيرُ الوحيد في هذا العالم هو المعرفة، كما يقول معلمي؟ أراكِ سقراطيةَ التوجُّه، وحوارك مع ذاتك دليل»، ردَّ بهدوئه المعهود.

«ما لي وهذا البلاء؟ ولمَ أُثقل عقلي بأحاجيكم؟! على سيره، سرتُ. (اعرفي نفسك) قال لي، ففعلت، وما عرفته، حتى اللحظة، يقلقني. خيراً وعدلاً وصدقاً في هذا العالم أريد، وهذا عالم يتخثر شراً وظلماً ونفاقاً. لا سيف المحارب أحمل ولا ذلة الخانع أرتضي! ما جـ...؟»، قاطعني صوت قال: «أراك جزئية». التفتُّ إلى خلف. كان أرسطو يتكئ إلى أحد أعمدة الهيكل، يتأبط لفافات بردي كثيرة، وفي يديه ورقة يتفحص ما فيها.

وقبل أن تتسنَّى لي تحيته، أردف، ولا يزال نظره ممعناً في ورقته: «انظري إلى هذا العالم بكلِّيَّته؛ فهل هو مطلق الشر؟»، أدار ظهره وابتعد.

«سيكون لنا حديثٌ مطوَّل»، صرختُ له مشرئبَّة العنق، «فليس هذا مقصدي، بل الحياة». ومن بعيد، رمى لي بفكرة أخرى:

«العقل هو روحها... العقل يا صغيرتي!».

تركت أفلاطون وسكنتُ إلى سارتر، شاكية قانطة. ابتسمَ، نفثَ الدخان من لفافة السجائر وربَّت على «الكنبة» قربه لكي أجانبه: «ألم أقل لكِ أن تجدي ضالتك بنفسك؟».

وثبتُ في مكاني بحيث قابل وجهي وجهه: «وأجبتكَ بأن نفسي بذاتها ضالة فكيف أجد ضالتي؟».

ضَحِكَ، أمسكني برفق من عنقي وقرب جبهته من جبهتي، وبتحبُّبه الباسم قال: «لا معنى لهذه الحياة إلا المعنى الذي تُوجِدينه أنتِ لها... فافعلي ذلك. أنت لست بعبثية».

قلت بنبرة تقلد نبرته: «وأنا... أبحث عن أبعد من ذلك!». ضحكنا، ولسبب ما استرخيتُ قليلاً. استلَّ كتاباً من على الرفِّ المحاذي له. نفخ عنه الغبار، قلَّب بعض فصوله، واستقر على مكان ما. هز رأسه، ومد به إليَّ: «اقرأي».

«... فالروح لكي تكون حرة حرية أصيلة عليها أن تعتمد على نفسها فقط، أعني أنها يجب أن تكون الذات والموضوع في آن؛ أن تكون العارف والمعروف في وقت واحد».

قلتُ بتأفف: «هذا ما كان ينقصني! هيغل والوعي الذاتي!». أشعل سارتر لفافة أخرى، نظر إليَّ لبرهة وقبضة يده تسند خاصرته كأنه يختار لي الأنسب من فلسفته لعلني أهتدي إلى درب. قال أخيراً: «تحرري مِن ماهيتك يا وردتي... كوني موجودةً لذاتك، فلْتُشابِه حركتُك حركةَ الكون وما فيه، وليكن وعيُك لها فاعلاً ومدركاً ومسؤولاً. أنتِ حرة الإرادة ولك أن تقرري ما تصنعينه».

غفوتُ على ذاك البريق، وما إن صحوتُ حتى ثُرتُ على وعيي. كيف أكون حرة الإرادة وعقلي يسيِّرها على هواه؟ فكلما أردتُ أن أتخطى أمراً بعد تفكير مُضنٍ، ارتمت أمامي فكرة أخرى سلبت إرادتي الأولى! كأن أقرر بكامل قوة إرادتي وحريتي أن أتجاهل شرور الآخرين، كأقنعتهم وزيفِهم وحسدِهم وحقدِهم وعِلَلِهم النفسية، لاقتناعي - بفعل الوعي الذاتي - بأن الإدراك التامَّ لتلك الأفعال يُسقط عنها سطوتها، وبالتالي تأثيرها، فتتحول من مسألة جلل إلى مسألة صغرى، لتتلبَّسني فكرة أن التجاهل لن يحوِّل الشر إلى خير، وأن الانتصار على الشر أو إزالته يكون بمواجهته. أو أن أقرر أن الحياة بكل متاعبها مُرضية وأن سَيرها رهن دفتي، ليأتيني ما يصيبني بألمٍ وتعاسة يطيحان بكل تفاؤلي. وهذه القرارات الإرادية الحرة نابعة أساساً من عقلي. غير أن عقلي يتخبط مع عقله!

لم أستطع أن أكون لا فاعلة ولا مسؤولة، لعجزي عن الإجابة عن سؤالي المكدِّر. استنجدتُ بسبينوزا المتفائل. ورغم أنه الأكثر إقناعاً، أراني أجتنبه... ربما لعدم احتوائي تماماً قوله إن الخير والشر اعتباريان، لأن الشيء الواحد نفسه قد يكون في وقت واحد خيراً أو شراً، وأنهما نسبيان، ويعودان في الغالب إلى أذواق البشر وغاياتهم.

بنزق قلتُ له: «أجبني لأرتاح».

«أؤكد لكِ أنك، بهذا الموقف، لن ترتاحي، مهما تكن إجابتي، لكن سأصغي».

«ما جدوى الحياة؟ كلكم تستفيضون في الحديث عن معناها، عن الهدف منها... ولم أجد في كتاباتكم طرف خيط لما يرد على سؤالي رداً شافياً مباشراً».

«هذا لأنك تفضيلية. تقيسينها بما تريدين لا بما هي عليه. تنظرين إليها بالعاطفة، بعين واحدة، والعاطفة فكرة ناقصة لا تكتمل إلا بالعقل. إرادتك رغبة وُجدت لتحفظ وجودك. أحبي ما تصنعينه من وجودك. أحبي ما في الوجود على أوجهه، لا الوجه الذي تختارينه له لقلة معرفتك بالأشياء؛ فالأشياء كلها من الطبيعة، والطبيعة حقيقة ثابتة. التمسي الفضيلة لأنها معرفة، وفي المعرفة لذة الفهم. تعمقي في العلم فهو وحده قوة وحرية. الحياة يا ابنتي طبيعة لا تُجتزأ إلى معانٍ وأهداف و... جدوى بناءً على أشيائها الفردية المتغيرة».

بقيتُ على صمت، لكن هذه المرة، راضية.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.