تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة. غادرت وطنها في عام 2015، لتستقر في العاصمة الإسبانية مدريد. من أعمالها: « ميلاجرو» و«غدي الأزرق»، ورواية «خاتم سُليمى» التي وصلت إلى القائمة القصيرة في الدورة الأخيرة من جائزة «البوكر» العربية.
هنا حوار معها:
* في مستهل روايتك «خاتم سُليمى»، يبدو خاتم البطلة وكأنه ضال في «المطار»... هل يمكن فهم هذا الخاتم بوصفه رمزاً لسوريا الضائعة بين وجهات وطرقات العالم المتفرقة اليوم؟
- لنتفق في البداية على أن للقارئ حرية أن يفهم ما تبادر إلى ذهنه من خلال أي رمز وجد في هذا النص أو غيره، فالتأويل هو حق من حقوق القارئ، بل أيضاً هو واجب عليه تجاه وعيه الشخصي وفكره المتفرّد. وبالعودة للخاتم، فإن تشبيهه بسوريا أو السوريين المتخبطين بين البلدان والأصابع والمصائر، لم يجانب الصواب أبداً، إلى جانب ذلك، فإن الخاتم في الرواية كان يجسّد رمزياً عدة مفاهيم؛ أولها قلب سليمى، الذي يشير بدوره إلى اليقين والحب والاستقرار، ونصف الحقيقة الضائعة.
*يظهر في الرواية تكثيف لتفاصيل دقيقة كنقوش البساط، وزخارف الخاتم، والتخت الشرقي، وهي تفاصيل تبدو في ظاهرها جمالية، ولكنكِ منحتها وظائف سردية تصل بين عالم الواقع والأسطورة في بنائك لعالم «خاتم سُليمى»، حدثينا عن اشتغالك الفني بهذه المسافة بين العالمين.
- في رأيي هذه المساحة التي تحدثتِ عنها، هي في الحقيقة برزخ يفصل الواقع عن الخيال ويصل بينهما في الآن نفسه، ويختلف طوله ومساحته وشكله من شخص لآخر، هو فسيح رحب وخلاب عند البعض، بينما يكون ضيقاً أو مظلماً أو معدوماً عند البعض الآخر، وفي دهاليزه تكمن قدرة الإنسان على التخيل والتأمل والاستقراء والتأويل والتقاط الرموز والتلذذ بها واستشعار الفن وتذوق الجمال. أنا أعدّ هذه المساحة جزءاً من العالم المعيش وليست فانتازيا؛ لأنها قد تشكل جزءاً مهماً من شخصية ورؤية العديد من الأشخاص، وهو الجزء الأصدق والأجمل. وبالنسبة لي فأنا أنطلق في أعمالي كلها من هذه المنطقة بالذات، ومنها أتوجه إلى الواقع المادي الملموس وأزاوج بينهما.
*أبطالكِ مرتبطون بالتاريخ، فسلمى مُصابة بـ«لوثة التاريخ» كما تصف الرواية، و«لوكاس» يتقصى في «توليدو» الإسبانية تاريخ المكان بما في ذلك مرحلة الفتح العربي. فهل ترين الكتابة محاولة لفهم التاريخ؟
- التاريخ ليس مجرد (تأريخ) لأسماء وتواريخ وأحداث، وهو في الحقيقة ليس سؤالاً لنفككه، بل إجابة تفكك أحاجي الواقع وغموض المستقبل، ومن أغفل قراءة التاريخ وفهْمه بقي عاجزاً عن النمو والنضج الفكري والتحليل المنطقي للأشياء والظواهر. والكتابة بشكل أو بآخر هي تفكيك للواقع الذي ما هو إلا صنيعة التاريخ. وبالنسبة لشخصيات رواياتي فهي مرتبطة بالتاريخ بقدر ارتباط أي إنسان آخر يعيش في هذا العالم.
*تحمل شخصية «شمس الدين كارلوني» في الرواية ظلالاً من شخصية المستشرق والموسيقار الفرنسي «جوليان جلال الدين» المعروف بـ«عاشق حلب»...حدثينا عن هذا الرابط بين الاستلهام والتخييل هنا.
- جوليان جلال الدين فايس (لروحه السلام) هو بكل وضوح الشخصية التي استلهمت منها سليفيو شمس الدين كارلوني. لطالما كنت أجد فيه شخصية مغرية لخيالي الروائي، شخصية فريدة تثير التعجب ومليئة بالدهشة، وعندما بدأت بكتابة «خاتم سليمى»، حضرت في بالي شخصيته بكل سحرها، وأخذت مكانها متربعة في قلب الرواية، فبدت متماهية بشكل رائع مع النسيج العام للعمل.
*شخصياتك الأوروبية في الرواية تبدو مشدودة إلى سوريا وليس العكس من افتتان شرقي بالغرب كما تطرح الصورة النمطية، ظهر هذا في «ميلاجرو» و«غدي الأزرق» و«خاتم سليمى»، هل يحمل هذا جزءاً من هُوية ريما بالي المقيمة في مدريد لسنوات لكنها مسكونة بسوريا؟
- صحيح أنني مقيمة في إسبانيا منذ سنوات وأحبها، لكنني ما زلت سورية، وسأبقى كذلك، شئت أم أبيت، وعندما أكتب عن سوريا فإنما أكتب عن نفسي، فأنا أدرى بها وهي أولى بكتاباتي وفكري، ولا أظن أنه سيأتي يوم لا أكتب فيه عنها (إن لم أكتب أنا فمن سيفعل؟) أما بالنسبة لشخصياتي الأوروبية فهي شريحة حيّة من شخصيات حقيقية، نعم الكثير منها بدا مشدوداً للشرق، ولم لا يفعل؟ ففي الشرق ثمة ما يستحق، في الشرق هناك حلب مثلاً، وحضارتها وأناقتها وموسيقاها، وأولادها المبدعون.
*الحرب السورية موصولة في أعمالك... هل يمكن أن نرى أعمالك على أنها «ابنة الحرب»؟
- أعمالي هي ابنتي، وأنا ابنة الحرب، لم أختر هذا، بل هو واقع فرض نفسه، فالحرب في سوريا لم تكن حادثاً مؤلماً مرّ في فترة صغيرة ومضى، الحرب السورية صارت حقبة كاملة، طالت وتمددت وما زالت تلقي بأثقالها على الأرض والبشر في الوطن والمهاجر، وأنا إذ أكتب رواية تدور أحداثها في هذه الحقبة الزمنية أو ما حولها، سيكون من العبث ألا أذكر الحرب وآثارها وتبعاتها. الحرب هي الواقع الآن، وأنا أكتبه كما هو، وإن كنت أطرزه ببعض الخيال وبشيء من الأحلام وبالكثير من قصص الحب.
*تجعلين بطلة روايتك الجديدة «ناي» تختبر مواجهات جديدة مع الحرب والاغتراب، حدثينا عن ملامح بطلتك الجديدة في «التخت الغربي».
- الشخصية الأساسية في رواية «ناي في التخت الغربي»، هي امرأة تعودت أن تعيش في عالمين متوازيين، وإن كان لأحدهما وهو العالم الخيالي السري غلبة على الآخر العلني الواقعي والملموس. الحرب التي فاجأتها حطمت عالَمَيها الاثنين، وأطاحت بها إلى بلاد غريبة لتبدأ بتشكيل عالم ثالث مختلف، اضطرت من أجله أن تخوض حرباً من نوع آخر، وتتورط مع أجهزة مخابراتية غامضة. تلتقي «ناي» السورية بالصحافية والباحثة في علم الأعراق والسلوك الاجتماعي، «سيسيل» البلجيكية الأب واللبنانية الأم، والتي أنجبت طفلاً يجمع تحت جلده البشر أجمعين، وعملت على كتاب يُلخص حقيقة الكراهية، ويطلق صرخة تمرد في وجه صنّاعها.
*كيف تبدو لكِ الكتابة عن مسقط رأسكِ الحلبي وأنت على مسافة بعيدة منه منذ سنوات؟ هل يمكن فهمها بوصفها كتابة حنين أم كتابة استعادة للوطن؟
- أنا أعيش في مدريد وأحبها، لكنني حلبية القلب والهوى، وإذ أكتب عن حلب إنما أكتب عن نفسي. لا أعرف إن كانت هذه نرجسية أم حنيناً أم استعادة للوطن، ما أعرفه أن حلب منجم غني لا أكتفي من التنقيب فيه، ولا يكف عن إدهاشي وإمتاعي، ولا أقاوم شغفي في مشاركة القرّاء هذه الدهشة والمتعة.
*بعد انتهاء صخب جائزة «البوكر» حيث جاءت روايتك «خاتم سُليمى» في القائمة القصيرة، حدثينا عن حالة الاقتراب من هذا الصخب، وإلى أي مدى شعرتِ أنه ألقى بظلاله على قراءة روايتك؟
- نعم أصبتِ بالتعبير (صخب)، كان صخباً جميلاً لأكون نزيهة، ومن فضائله: الاحتكاك والتعرف إلى شخصيات أدبية جميلة من كتّاب ونقّاد وصحافيين وقرّاء (نوادي القراءة)، وتكريس اسمي روائيةً في المشهد الأدبي، ولعل فضيلته الأكبر أن الرواية صارت مقروءة أضعاف ما كانت عليه قبل ترشّحها. لكنني ومن ناحية أخرى، شعرت (بطريقة صبيانية بعض الشيء) بالغيرة من (خاتم سُليمى) على رواياتي الأُخريات اللاتي لم تنلن كل هذا الاهتمام، وخصوصاً روايتي الأخيرة «ناي في التخت الغربي» التي أعوّل عليها وأعدّها علامة فارقة في مسيرتي الإبداعية، وسرقت «خاتم سُليمى» الأضواء منها بمجرد إدراجها في القائمة القصيرة. بكل الأحوال أنا ممتنة للغاية، وأثق بأن الرواية الجيدة تفرض نفسها عاجلاً أم آجلاً، وإن اختلفت الطرق.