حسناء فيلكا تشبه تمثال أفروديت الشهير

وجهها صافٍ نضر وفي منتهى الدقة

تمثال أنثوي من الطين المحروق محفوظ في متحف الكويت الوطني مصدره جزيرة فيلكا
تمثال أنثوي من الطين المحروق محفوظ في متحف الكويت الوطني مصدره جزيرة فيلكا
TT
20

حسناء فيلكا تشبه تمثال أفروديت الشهير

تمثال أنثوي من الطين المحروق محفوظ في متحف الكويت الوطني مصدره جزيرة فيلكا
تمثال أنثوي من الطين المحروق محفوظ في متحف الكويت الوطني مصدره جزيرة فيلكا

من جزيرة فيلكا الكويتية، خرجت مجموعة صغيرة من التماثيل الطينية تحمل طابعاً يونانياً جلياً، أشهرها تمثال أنثوي صغير احتلّت صورته غلاف كتاب نشرته وزارة الإرشاد والأنباء في ستينات القرن الماضي تحت عنوان «تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة فيلكا». في هذا التقرير، قيل إن رأس هذا التمثال «في غاية الروعة ودقة الصناعة، ويشبه إلى حد بعيد تمثال أفروديت المشهور»، واشتهر هذا المجسّم بهذا الاسم منذ ذلك التاريخ، غير أن هويّة صاحبته تبقى غير معروفة، وتحديدها ليس بالأمر الهيّن.

عُثر على هذا التمثال خلال أعمال التنقيب التي قامت بها بعثة دنماركية في جزيرة فيلكا بين 1961 و1962، في التل المعروف باسم تل سعيد، حيث تمّ الكشف عن قلعة يونانية. واتّضح أن النصف الشرقي من هذه القلعة «كان مقدسّاً، ويحتوي على معبدين ومذبحين، بينما النصف الغربي عبارة عن منطقة سكنية». عُثر على رأس هذا التمثال في ركن من هذا الموقع، و«اكتُشف الجذع في مكان آخر»، وبدا «أنه مكمل للرأس»، فتمّ جمع القطعتين، وبات المجسّم بعد ترميمه أشبه بتمثال نصفي ضاع الجزء الأسفل من تكوينه الأصلي.

يبلغ طول هذا المجسّم المرمّم 11 سنتيمتراً، وهو مصنوع بتقنيّة الطين المحروق، ويبدو أنه مقولب بالتأكيد، أي أنّه خرج من قالب جاهز، وخضع بعدها للمسة يدوية أضفت عليه طابعاً خاصاً. الرأس بيضاوي، وأسلوبه كلاسيكي بامتياز، ويتبع النسق المعروف بطراز تاناغارا، وهذا الاسم يعود إلى بلدة تقع في مقاطعة بيوتي في إقليم وسط اليونان، حوت مقبرة أثرية خرجت منها مئات من التماثيل اليونانية، منها مجموعة كبيرة من التماثيل الأنثوية الصغيرة تميّزت بطابع خاص. تمّ هذا الاكتشاف في عام 1870، وعُرف هذا الطراز منذ ذلك التاريخ باسم هذه البلدة، وظلت هذه التسمية شائعة ومعتمدة حتى يومنا هذا، مع العلم بأن الاكتشافات اللاحقة أظهرت أن مدينة أثينا شكّلت أساساً لهذا الطراز منذ منتصف القرن الرابع قبل الميلاد.

الوجه الأنثوي صافٍ ونضر، ويتميّز بأنف معقوف، وثغر صغير ترسم شفتاه ابتسامة رقيقة. تلتفّ ضفائر الشعر حول هذا الوجه، وتشكلّ كتلتين هلاليّتين يفصل بينهما شقّ في الوسط. الخُصل الخلفية مجدولة ومعقودة على شكل كعكة تبرز من خلف وشاح شفاف خفي، وتُعرف هذه التسريحة تحديداً بـ«التسريحة الكنيدية»، نسبة إلى مدينة كنيدوس في إقليم كاريا في جنوب غربي آسيا الصغرى، وهي التسريحة التي عُرفت بها في وجه خاص أفروديت، في تمثال صنعه قديماً براكستيليس، النحات الذائع الصيت الذي يختصر اسمه جمالية النحت الإغريقي القديم.

يستقرّ رأس هذه الصبية الحسناء فوق عنق عريضة، ويميل بشكل طفيف في اتجاه اليمين. تظهر في موازاة استدارة الذقن، استدارة ناتئة في أعلى العنق، توصف في قاموس الفن اليوناني بـ«الذقن المزدوج». تختزل حسناء فيلكا هذا الطراز اليوناني الكلاسيكي، وتحضر في ثوب فضفاض حُدّدت ثناياه المتوجة برهافة، ويتميّز هذا الثوب بزنار علوي عريض يلتفّ عند أسفل الصدر، وينعقد في الوسط. قيل بأن تمثال هذه الحسناء «يُشبه إلى حد بعيد تمثال أفروديت المشهور»، غير أنه في الواقع يشبه عشرات التماثيل الأنثوية اليونانية، ويختزل مثالاً جامعاً حمل أوجهاً متعدّدة، منها أفروديت، سيدة الجمال والغواية، ومعبودات أخرى تعدّدت أسماؤها في العالم اليوناني كما في العالم الهلنستي الشرقي الذي اتبع تقاليده. في هذا الميدان، تحضر أرتيميس، سيّدة البراري والصيد، وحامية العذرية والخصوبة، وهي المعبودة التي حظيت بمنزلة خاصة في فيلكا، في الزمن الذي عُرفت فيه هذه الجزيرة باسم إيكاروس؛ تيمناً بجزيرة إيكاروس الإغريقية الأصلية الواقعة في بحر إيجة، كما نقل العالِم الجغرافي الإغريقي إسطرابون.

دخلت فيلكا عالم الآثار في عام 1937، حيث عُثر من طريق المصادفة على حجر يحمل نقشاً يونانياً، يُعدّ اليوم أولى القطع المكتشفة في هذه الجزيرة، ويُعرف بـ«حجر سوتيلس». بحسب الرواية التي نقلها التقرير الدنماركي، خرج هذا الحجر «أثناء عمليات البناء، ومن المؤكد أنه نُقل من مناطق الآثار، حيث كان أهالي الجزيرة ينقلون الحجارة لبناء بيوتهم. وحجر فيلكا هذا هو الحجر الوحيد الذي بقي محفوظاً»، ويحوي نصاً قصيراً يقول بأن «المواطن الأثيني» المدعو سوتيلس، قام «مع الجنود» بتقدمة إلى «زيوس المخلّص، وبوزيديون، وأرتيميس المخلّصة». وزيوس «أبو المعبودين والبشر»، وهو حاكم جبل الأولمب، أمّا بوسيدون فهو سيّد البحار والعواصف والزلازل، وهو مثل أرتيميس، من أسياد الأولمب الاثني عشر.

من جهة أخرى، عثرت البعثة الدنماركية خلال عملها في فيلكا على نصب ضخم طوله 116 سنتيمتراً يحمل رسالة طويلة موجهة إلى أهل إيكاروس، تتألّف من 44 سطراً ضاع قسم من كلماتها، وتحوي تعليمات بنقل معبد أرتيميس من موقعه. تشير هذه النقوش الكتابية اليونانية إلى حضور أرتيميس، سيّدة الصيد، في هذه الجزيرة، كما يذكر المؤرخ أريانوس أن الجزيرة كانت مليئة بمختلف أنواع الأشجار، وكانت مرعى للغزلان والإبل التي حُرّم صيدها؛ لأنها كانت مكرّسة للمعبودة أرتيميس في المعبد الخاص بها في الجزيرة.

يصعب القول بأن تمثال حسناء فيلكا يمّثل بشكل أكيد هذه المعبودة التي تظهر في الغالب هي ترتدي ثوباً قصيراً ينسدل عند ركبتيها، وتعتمر تاجاً على شكل هلال فوق شعرها المعقود إلى الخلف، وتحمل قوساً وسهاماً تمثّل سلاحها الذي كانت تجول به. في المقابل، يتميز هذا الرداء بحزام علوي يلتفّ عند أسفل الصدر، كما في مجسّم فيلكا، غير أن هذا العنصر لا يكفي لتحديد هوية هذا التمثال الأنثوي بشكل أكيد.

يبلغ طول المجسّم المرمّم 11 سنتيمتراً، وهو مصنوع بتقنيّة الطين المحروق ويبدو أنه مقولب وخضع بعدها للمسة أضفت عليه طابعاً خاصاً



«سفنكس» عُمان

سفنكس من موقع سلوت يقابله سفنكس من موقع الدُّور وآخر من موقع الفويدة
سفنكس من موقع سلوت يقابله سفنكس من موقع الدُّور وآخر من موقع الفويدة
TT
20

«سفنكس» عُمان

سفنكس من موقع سلوت يقابله سفنكس من موقع الدُّور وآخر من موقع الفويدة
سفنكس من موقع سلوت يقابله سفنكس من موقع الدُّور وآخر من موقع الفويدة

خرجت من موقع حصن سلوت الأثري في سلطنة عُمان مجموعةٌ من القطع البرونزية المنحوتة، تتميز بطابعها التصويري، منها قطعة صيغت «على شكل حيوان هجين بوجه بشري»، كما قيل عند الإعلان عن اكتشافها منذ بضع سنوات. يمثّل هذا الكائن الغريب على الأرجح نموذجاً تصويرياً يُعرف في كل اللغات باسم «سفنكس»، تعدّدت أشكاله على مدى قرون من الزمن في سائر أنحاء العالم القديم، غير أن حضوره في جنوب شرق الجزيرة العربية يبدو نادراً للغاية، كما توحي المكتشفات الأثرية التي ظهرت إلى يومنا هذا.

يقع حصن سلّوت الأثري في سهل وادي سيفم، بالقرب من ملتقى وادي بهلاء، ويتبع محافظة الداخلية. ظهر اسم هذا الموقع للمرة الأولى في عالم الآثار، حين أشارت إليه بعثةٌ استطلاعيةٌ تابعةٌ لجامعة هارفارد في تقرير نُشر سنة 1973، وبعد ثلاثة عقود، تمّ تكليف بعثة تابعة لجامعة بيزا الإيطالية تنفيذ برنامج متكامل للمسح والتنقيب في هذا الموقع، وتواصلت أعمال هذه المهمة منذ ذلك الحين، وأدّت إلى الكشف عن معالم مدينة أثرية مطمورة تحت الرمال، وحدّدت مراحل تاريخها الطويل، كما خرجت بمجموعة كبيرة من المكتشفات متعدّدة الأشكال والأنواع.

في مطلع عام 2019، تحدثت العالمة أليسندار أفزيني، رئيسة البعثة الإيطالية لجامعة بيزا، عن آخر الاكتشافات التي عُثر عليها في هذا الموقع، وأشارت إلى مجموعة من القبور الأثرية حوت مجموعةً من اللقى الأثرية «ارتبطت بمظاهر الترف والبذخ كأواني الشرب البرونزية، أهمّها إناء ذو مصب على شكل حصان، وإناء آخر على شكل حيوان هجين بوجه بشري، بالإضافة إلى الزمزميات وجرار التخزين، والأواني النحاسية، والأواني الزجاجية الرومانية، ومجموعة كبيرة من السيوف ورؤوس السهام والحراب الحديدية والبرونزية، وهو ما يدل على أنها مدافن مخصصة للمحاربين ارتبطت بمعركة حربية على ما يبدو».

تعود هذه المكتشفات كما يبدو إلى فترة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، وتُماثل مكتشفات أخرى خرجت من مقابر متفرّقة من شبه جزيرة عُمان. في سلطنة عُمان، ظهر المصب البرونزي المصوغ على شكل حصان في مقبرة تقع في سمد الشأن، في ولاية المضيبي التابعة لمحافظة شمال الشرقية، كما ظهرت مقبرة تقع في ولاية سمائل التابعة للمحافظة الداخلية. وفي دولة الإمارات العربية، ظهر هذا الحصان في موقع مليحة التابع لإمارة الشارقة، وموقع الدُّوْر التابع لإمارة أم القيوين، كما ظهرت مؤخراً في أبوظبي مقبرة تمّ اكتشافها في شعبية الكويتات، شرق متحف منطقة العين، في إمارة أبوظبي.

أخذ هذا النصب شكل رأس ثور في مجموعة أخرى من القطع المشابهة، أشهرها قطعتان من محفوظات مركز مليحة للآثار، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. في المقابل، ظهر هذا النصب برأس آدمي وجسم بهيمي في قطعة سلوت، وتبدو هذه القطعة فريدةً من نوعها في هذا الميدان إلى يومنا هذا. بدا هذا الرأس الآدمي أنثوياً، كما توحي ملامح وجهه الدائري المتمثلة بعينين دائريتين مفتوحتين، وأنف بارز ينسدل مستقيماً من أعلى الجبين، وثغر صغير يفصل بين شفتيه المطبقتين شق أفقي بسيط. تحيط بهذا الوجه كتلة من الشعر المرصوف على شكل مثلّث يستقرّ فوق خصل معقودة تؤلّف شبكة من الكتل المستطيلة المتراصة. تعلو هذا الرأس قامةٌ تخرج منها قائمتان أماميتان بهيميتان تمتدّان أفقياً إلى الأمام، مع انحناءة بسيطة في الوسط عند مفصل الكوع. تسبغ هاتان القائمتان على هذا الوجه طابع السفنكس بشكل لا لبس فيه، وتهبان هذا النصب التقليدي شكلاً فريداً.

في البدء، ظهر السفنكس أولاً في مصر، خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتكوّن من جسم أسد له رأس رجل آدمي يعتمر غطاء الرأس المخطط الذي يرتديه الملك. ثم ظهر في بلاد ما بين النهرين، خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، وتميّز بجناحين ورأس رجل يعلوه قرنا ثور. اتّخذ هذا الكائن طابعاً أنثوياً في الهلال الخصيب، ودخل بهذا الطابع العالم اليوناني، وبدا أشبه بلبوءة مجنحة لها رأس امرأة. دخلت هذه اللبوءة جنوب الجزيرة العربية في مرحلة متأخّرة، واتّخذت هناك طابعاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع الأثرية المتنوعة. وفي هذه الحقبة، بلغ هذا السنفكس مدينة الحِجر النبطية في إقليم الحجاز، حيث ظهر استثنائياً على واجهتين من واجهاتها البديعة.

في جنوب شرق الجزيرة العربية، يظهر هذا السفنكس في سلوت، ويشابه في تكوينه المثال الذي تكرّس في اليمن القديم، وتجلّى في قطع عديدة، منها على سبيل المثل مجموعة من خمس قطع جزئية محفوظة في المتحف البريطاني في لندن، مصدرها مدينة مأرب الأثرية. إلى جانب هذه القطعة الفريدة، يحضر هذا الكائن العجيب في قطعتين من الميراث العُماني، تتمثّلان بطبقين معدنيين زُيّنا بنقوش وفقاً لتقليد محلي ساد في هذه المنطقة.

خرج أحد هذين الطبقين من موقع الفويدة التابع لمحافظة الظاهرة في سلطنة عُمان، وفيه ظهر السفنكس على شكل أسد مجنّح له رأس امرأة ضمن سلسلة من الحيوانات رباعية القوائم. وخرج الطبق الآخر من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين، وفيه ظهر السفنكس في شكل مشابه ضمن مشهد صيد حلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين.