أوروبا... الثقافة في قبضة اليمين المتطرف

بعد موجة صعوده في أكثر من بلد

مظاهرة المانية ضد صعود اليمين المتطرف
مظاهرة المانية ضد صعود اليمين المتطرف
TT

أوروبا... الثقافة في قبضة اليمين المتطرف

مظاهرة المانية ضد صعود اليمين المتطرف
مظاهرة المانية ضد صعود اليمين المتطرف

بكثير من القلق والتوجّس تستقبل النخبة الفكرية في أوروبا أخبار تقدّم الآيديولوجيات الشعبوية سياسياً، ليس بسبب قيمها المبنية على التمييز العنصري والكراهية، وضيق الأفق، وخطر الانغلاق على الذات فقط، بل بسبب تغييب القضايا الثقافية في برامجها أيضاً. والواقع أن التجارب السابقة للدول التي وصلت فيها هذه التيارات إلى مراكز السلطة والنفوذ فيها من العِبَر ما يبعث القلق فعلاً، ففي إيطاليا مثلاً، حيث وصل تكتّل «فراتيلي دي إيطاليا»، أو «إخوة إيطاليا»، إلى الحكم منذ نحو سنتين، بدأت معالم مشروع «إنهاء هيمنة اليسار على القطاع الثقافي» تتضح جلياً.

عدة تقارير صحافية أكّدت هذا التوجه، من بينها «لوموند» الفرنسية، التي نقلت في مقال بعنوان «في إيطاليا اليمين يقتحم الثقافة» تصريحاً لرئيسة الوزراء ميلوني، جاء فيه ما يلي: «أريد أن أحرّر الثقافة الإيطالية من النظام الذي لا يسمح لأي أحد بالعمل فيه إلا إذا كان من معسكر سياسي معين»، في تلميح صريح منها إلى اليسار.

وعلى أرض الواقع هذا يعني تعزيز وجود شخصيات قريبة من اليمين المتطرف على رأس المؤسسات الثقافية الواسعة النفوذ، على غرار «بينالي البندقية» مثلاً، وهي واحدة من أكبر الفعاليات الثقافية والفنية في البلاد، التي أصبح يديرها بيتراجيلو بوتافوكو، وهو إعلامي سابق من اليمين المحافظ، أو رناتا مازانتيني، التي تسلّمت إدارة متحف روما الكبير للفن المعاصر.

مجلة «لوكوتديان دو لا» الفرنسية كشفت في طبعة يونيو (حزيران)، في مقال بعنوان: «عندما يصل اليمين المتطرف إلى الحكم»، أن الحكومة الإيطالية شرعت في تطبيق «الأفضلية الوطنية» في القطاع الثقافي، ففي الفترة ما بين ديسمبر (كانون الأول) 2023، وفبراير (شباط) 2024، تم إنهاء مهام 10 من مديري المؤسّسات الثقافية من الأجانب، معظمهم ذوو خبرة كبيرة، مثل الفرنسيين: سيلفان برجي (متحف نابولي)، وستيفان ليسنر (مسرح سان كارلو)، ودومينيك ميير (دار أوبرا سكالا)، إضافة للأنجلو كندي جيمس برادبورن (متحف ميلانو)، أو الألمانية سيسيلي هولبرغ (غاليري دال أكاديميا لفلورنسا).

المشكلة، حسب كاتب مقال بمجلة «تيلي راما» الثقافية، بعنوان «جورجيا ميلوني تستعيد السيطرة على متاحف إيطاليا»، ليست في تكليف كوادر إيطالية بهذه المهام، فمن حق كل حكومة تطبيق البرنامج الذي انتُخبت من أجله، المشكلة هي أن نصف هذه الشخصيات اختيرت بسبب ميولها المعروفة لليمين المتطرف، والنصف الآخر يفتقد للخبرة الكافية لإدارة مؤسسات متحفية بهذا المستوى، وكل ما نجحت فيه وزارة الثقافة في حكومة ميلوني بتركيزها على مسألة «الجنسية»، هو التهرب من المشكلة الأساسية لقطاع المتاحف في إيطاليا، وهو نقص الموظفين، وخصوصاً في جنوب البلاد.

مجلة «لوكوتديان دو لا» تحدثت أيضاً عن «جو خانق» بالنسبة للمبدعين، الذين أصبحوا عرضة للمضايقات والرقابة، على غرار الكاتب أنطونيو سكوراتي، الذي مُنع من إلقاء خطاب بمناسبة عيد الاستقلال، كان من المنتظر أن يهاجم فيه النظام الفاشي، إضافةً للدعاوى القضائية التي رفعتها جهات رسمية ضد بعض المثقفين، أمثال كاتب رواية «غومورا» روبيرتو سافيانو، والمؤرخ لوشيانو كونفورا.

أما تمويل المشاريع الثقافية والفنية فإن نفس المصدر يكشف أنها انخفضت بنسبة 40 في المائة عن الأعوام السابقة، وفي المقابل أعلن وزير الثقافة عن إنشاء صندوق بقيمة 52 مليون يورو، يموّل بصفة حصرية الأعمالَ التي تمجّد «تاريخ الهوية الوطنية الإيطالية».

وفي المجر التي وصل فيها فيكتور أوربان إلى الحكم منذ 14 سنة، تنتهج الحكومة اليمينية المحافِظة سياسة متناقضة للغاية، فهي من جهة تسعى جاهدةً إلى تطوير البنية التحتية الثقافية للبلاد، حيث تم تشييد متاحف جديدة، كمتحف التصوير الفوتوغرافي، والهندسة المعمارية، وترميم متحف بودابست للفنون الجميلة.

ومن جهة أخرى تفرض رقابة شديدة على التظاهرات والأعمال الفنية، تحت شعار الدفاع عن «الثقافة الأم»، حيث حاولت جهات رسمية منع افتتاح معرض مخصّص للفنانة فريدا كاهلو، بحجّة الدعاية للشيوعية، كما كانت دار الأوبرا التابعة للقطاع العمومي وراء إلغاء 15 عرضاً من المسرحية الراقصة «بيلي إليوت»، بدعوى تحريضها على المثلية.

الرقابة السائدة في القطاع الثقافي المجري أصبحت - كما تصفها المؤرخة المجرية غابرييلا أوهل على صفحات مجلة «لوكوتديان دو لا» - «هيكيلية»، بعد أن أحكمت الحكومة قبضتها على المؤسسات الثقافية، عن طريق توزيع الدعم المادي أو حجبه، «على الورق يبدو المبدعون ومؤسساتهم وكأنهم أحرار، بينما هم في الواقع معرّضون لرقابة ذاتية غير مسبوقة، وشحّ كبير في الموارد، فهم إن لم يجدوا التمويل اللازم لتنظيم نشاطاتهم بأنفسهم فهي لن تتحقق، هذا كان هدف الحكومة منذ أن وصلت عام 2010، وقد وصلت إليه اليوم».

ورغم أن المجر من أكثر الدول دعمًا للقطاع الثقافي في أوروبا، حيث خصّصت له في 2023 نسبة 4 في المائة من ناتجها الداخلي الخام، (مقابل 1 في المائة لفرنسا)، فإن هذا الدعم يذهب أساساً للمؤسسات التي يروّج أصحابها للخطاب الشعبوي، وما حدث مؤخراً مع مؤسسة «أم سيسي»، التي يرأسها أحد مستشاري فيكتور أوربان، التي استولت على أكبر شركة نشر وتوزيع للكتب في المجر، يوحي بأن القطاع الثقافي يتوجه تدريجياً نحو مركزية كاملة.

أما البرنامج السياسي للتجمع الوطني الفرنسي فهو لا يخصّص للثقافة إلا مساحة ضئيلة، حتى إن مصطلح «الثقافة» نفسه مختفٍ تماماً، وبدلاً من ذلك يُطرح مفهوم «التراث» الذي يركّز على معالم الماضي، ويهدف إلى تقديس «الهوية الوطنية»، حارماً الثقافة من طابعها الحي المتحرك.

برنامج الحزب يَعِد بتخصيص مليار يورو (بدلاً من 330 مليوناً حالياً) لإعادة ترميم المعالم التاريخية للبلاد، مع التركيز على المعالم الدينية، كالكنائس والأديرة، وهي المهمة التي وُصفت، حسب التعبير الذي ورد في برنامج الحزب، بـ«الأساسية»؛ للوصول إلى ما يسميه تيار اليمين المتطرف بـ«التقويم الأخلاقي للبلاد».

حزب التجمع الوطني يُروج أيضاً لمنع ذوي الجنسية المزدوجة من تولّي مسؤوليات كبيرة في القطاع الثقافي، حيث يريدها حكراً على الفرنسيين المتأصّلين؛ للتعبير عن رفض المغايرة والاختلاف، وقد كان نوّابهم قد شنّوا هجوماً كبيرًا على وزيرة الثقافة السابقة ريما عبد الملك، وأيضاً على خليفتها رشيدة داتي، ووعدوا بتفعيل «الأفضلية الوطنية» في القطاع الثقافي، كما فعلت الحكومة اليمينية في إيطاليا.

وفي مقال بعنوان «أي مكان للثقافة في برنامج التجمع الوطني؟»، يشرح الباحث إيمانويل نيغري، من المعهد الوطني للأبحاث (سي إن آر إس) ما يلي: «لليمين المتطرف توجّه ليبرالي، يظهر جلياً من خلال سياسته الثقافية، فهو لا يحبّذ دعم المؤسسات بالمساعدات الحكومية، وبالأخص تلك التي تسعى لتثمين العناصر الثقافية الأجنبية، وفي المقابل فهو يدعوها إلى تنمية تمويلها الذاتي بالرعاية الإشهارية والخصخصة ورفع الأسعار».

الأهم، كما يشرح الباحث، هو ما لُوحِظ من تدخّل الشخصيات السياسية لفرض وجهة نظر معينة على كوادر القطاع الثقافي، مذكّراً بأن أطرافاً رسمية في عدة بلديات، يشكّل فيها اليمين المتطرف الغالبية الساحقة، تضغط باستمرار على المكتبات العامة، من أجل انتقاء الإصدارات التي تروّج لقيم اليمين المتطرف، كما تتدخّل لمنع عدة تظاهرات فنية ثقافية معاصرة، كالفنون التشكيلية، وموسيقى الراب الشبابية، ويتوقع المراقبون أيضاً أياماً صعبة للجمعيات الصغيرة التي تمثّل التعددية الثقافية، والتي ستقطع عنها المساعدات تحت مسمى «الأفضلية الوطنية».



ليزا جيرارد واللغة الخاصة

ليزا جيرارد واللغة الخاصة
TT

ليزا جيرارد واللغة الخاصة

ليزا جيرارد واللغة الخاصة

من وجهة نظر الموسيقار الألماني هانز زيمر، قلائل في العالم من يُتقنون الغناء، منهم المغنية الأسترالية ليزا جيرارد. ولعل أشهر أغنياتها هي التي عُرفت بعنوان «الآن قد أصبحنا أحراراً»، تلك التي عرفها العالَم من خلال فيلم ريدلي سكوت «المجالد» 2000، الذي سيُعرض الجزء الثاني منه هذا الشهر وستكون ليزا من يُلحنه ويضع موسيقاه التصويرية، من دون هانز زيمر هذه المرة.

في سنة 2000 استمتعت الجماهير بالصوت العميق العذب لكنهم احتاروا في اللغة التي تغني بها السيدة. بدت لأناس شبيهة بالعبرية، وآخرون ظنوا أنها تشبه اليديشية، لكنها ليست من هذه ولا من تلك. ولا علاقة لها باللاتينية ولا باللغات الميتة ولا الحية. لقد ألقت بنا في حيرة لفترة من الزمن. لكن المؤكد أنها فازت بجائزة «غولدن غلوب» على تعاونها مع زيمر في إبداع موسيقى الفيلم، ورُشحت لـ«أوسكار» ذلك العام.

بعد البحث عن لغة هذه الفنانة، اتضح أن ليزا جيرارد تغني بلغة خاصة بها، لغة اخترعتها هي للحديث بواسطتها إلى الله، عندما كانت طفلة صغيرة. تقول ليزا:

«أغنِّي بلغة القلب، لغة مخترَعة امتلكتها منذ زمن طويل. أعتقد أنني بدأت الغناء بها عندما كان عمري 12 عاماً تقريباً. وحينها اعتقدت أنني كنت أتحدث إلى الله، عندما غنيت بهذه اللغة. الموسيقى هي مكان للجوء. إنها ملاذ من الرداءة والملل. إنها شيء بريء للغاية، ومكان يمكن أن تتوه فيه عن نفسك، في الأفكار والذكريات وكل التعقيدات. أعلم أنني سأغني لبقية حياتي. سأغني ما حييت، لأنني أؤمن بأنها هبة من الله ويجب التشارك فيها مع الآخرين».

رغم عذوبة ما قالت والأفكار التي أثارتها فإنها من ناحية فلسفية قد دخلت في «أرض العمالقة» دون أن تشعر بذلك، فقضية اللغة الخاصة من كبرى قضايا فلسفة اللغة في القرن العشرين، ولطالما تَجادل الفلاسفة حولها بين مُثبتٍ ونافٍ. فهذا جون ديوي ولودفيغ فتغنشتاين في فلسفته المتأخرة وويلارد كواين، كلهم يُنكر اللغة الخاصة، لأنه إذا ثبت قيامها ثبت أن أسماء الإحساسات تكتسب معناها عن طريق الارتباط بموضوع عقلي لا نلاحظه إلا ملاحظة داخلية.

إنهم لا يعترفون بلغة يبتكرها شخص واحد لا يفهمها سواه، ويرفضون أيضاً القول إن ما يدور في الذهن أمر خاص بكل فرد بصورة جوهرية ولا سبيل إلى إيصاله إلى الآخرين. وعندما نفكر في أفكارنا الروحية الخاصة، فإننا نستخدم المفردات التي تتقيد بالتعبير العام. لا بد من قواعد عامة، حتى عند الحديث عن الألم. قد أصف ألمي، وقد أصف ألمك، لكن لن يشعر بالألم إلا من وقع عليه.

لا بد أن نلاحظ هنا أن اللغة الخاصة ليست مجموعة من الرموز التي يضعها شخص فيأتي آخر فيفك رموزها. اللغة الخاصة لا يمكن تعليمها للآخرين مثل سائر اللغات المعروفة، بل هي مثل شطحات الصوفية، لا يمكن اعتمادها معرفةً مكتسَبةً تُدرّس للطلبة. هي لغة تشير كلماتها إلى الإحساسات الخاصة الذاتية وإلى الحياة الداخلية المعروفة للمتكلم وحده، والتي تكون مغلقة في وجه أي شخص آخر.

في حقيقة الأمر، حجة اللغة الخاصة، لو وقع الاعتراف بقيامها، تفنِّد الكثير مما قامت عليه الفلسفة الحديثة فيما يتعلق بالعقل والمعرفة، مثل الثنائية الديكارتية، أو المعطيات الحسية وأهميتها عند التجريبيين الإنجليز. وهي أيضاً تفنّد وجهة نظر فتغنشتاين في فلسفته المبكرة التي تقول بفكرة «الأنا وحدية» أي «الأنا» وحدها هي الموجودة. يقول فتغنشتاين:

«ما تعنيه الأنا وحدية صحيح تماماً، ومع ذلك لا يمكن قوله، وإنما يُظهر نفسه. والقول إن العالم هو عالمي يُظهر نفسه في الحقيقة القائلة إن حدود لغتي تعني حدود عالمي».

إنه يرفض كل الافتراضات التي تقوم عليها اللغة الخاصة، وعنده أن فهم اللغة والتمكن منها يستلزم القدرة على استعمال كلماتها وفقاً لقواعد معينة. واتباع قواعد استعمال اللغة هي ممارسة اجتماعية، فهي فعالية نتدرب عليها بوصفنا أعضاء في جماعة لغوية، ولا يمكن أن يكون اتباع القاعدة مسألة خاصة، لأنه في الحالة الخاصة لا توجد طريقة للتمييز بين اتباع القاعدة بالفعل وأن نظن أننا نتبعها. عند فتغنشتاين تكلُّم اللغة يعني الاشتراك في صورة الحياة، ويعتمد هذا الاشتراك في صورة الحياة على تدريب الإنسان، وهذا التدريب يحدث علانية في المجتمع. ولهذا لا توجد «خبرة خاصة» ولا «لغة خاصة» تُستخدم للتعبير عن تلك الخبرة، فاستعمال اللغة يتطلب معايير عامة وعلنية. ولا يمكن أن تقوم لغة من دون وسط سياقي. وجود اللغة يعني وجود قواعد تحكم استعمالها، وهذا يستلزم إمكانية فحص ذلك الاستعمال. والكلمات الدالّة على الإحساس والمشاعر الخاصة لا يمكن فحصها. إذن اللغة الخاصة مستحيلة، ولو افترضنا وجودها، فإنها ستكون عديمة الفائدة تماماً، حسب عبارة فتغنشتاين.

بهذا التقرير يتضح أنه ليس من الصواب أن نسمي ترانيم ليزا جيرارد لغة، فاللغة يجب أن تكون مفهومة في وسط اجتماعي معين ويجب أن تقوم على قواعد. لكنَّ هذا لا ينطبق على شطحات الصوفية، فلغتهم ليست لغة شخص واحد، بل هناك قاموس كامل خاص بهم، وهو تداولي فيما بينهم، ويمكن تدارسه وفهمه.

* كاتب سعودي