جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية

يعرض المؤلف مزاياها في التعليم الجامعي

جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية
TT

جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية

جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية

جويس كارول أوتس، واحدة من أحبّ كُتّاب الرواية إليّ، ومعرفتي بها بعيدة، تمتد لعقود طويلة، قرأتُ لها كثيراً من رواياتها المترجمة وغير المترجمة. هي ليست كاتبة رواية فحسب؛ بل شخص متعدّد الانشغالات: أستاذة جامعية مرموقة، تشغل موقعاً مميزاً في جامعة برينستون النخبوية الأميركية، منذ ما يقارب أربعين سنة، فضلاً عن كونها مترجمة، وكاتبة مقالات وقصة قصيرة، وشاهدة على تحوّلات العصر الأميركي والعالمي.

أعرف من خبرتي الطويلة مع أوتس أنها تدرّسُ مادة «الكتابة الإبداعية» (Creative Writing) في جامعة برينستون؛ لكني اندهشتُ إذ وجدتها تروّجُ لمقرَّر دراسي رقمي عنوانه «MasterClass»، لا يكلِّفُ المرء سوى 15 دولاراً في الشهر، وتلك كلفة لا تُعدُّ شيئاً مذكوراً بالمقارنة مع آلاف الدولارات التي يتطلّبها القبول في برنامجها الدراسي بجامعة برينستون. الأمر لا يحصل بمحض صدفة، أو توجّهات رغبوية منفلتة، لا تجري الأمور على هذا النحو في المجتمعات المتقدمة تقنياً وعلمياً.

ثمة أمور دافعة لمثل هذه التحوّلات الدرامية في نمط التعليم الجامعي، وسرعة انفتاحه على التقنيات الرقمية، أظنُّ أنّ جواباً وافياً وجدته في كتاب منشور أواخر عام 2023، كتبه البروفسور مايكل دي. سميث (Michael D. Smith)، عنوانه: «الجامعة المتاحة للجميع... إعادة تشكيل التعليم العالي ليتناغم مع عالم رقمي» (The Abundant University: Remaking Higher Education for a Digital World).

يعمل مؤلف الكتاب أستاذاً للتقنية المعلوماتية والتسويق بجامعة كارنيغي- ميلون الأميركية، وهو مُولَع بدراسة الكيفيات التي يمكن عبرها للتقنيات الجديدة، (وبخاصة تقنيات صناعة الترفيه)، لعبُ الأدوار العظيمة في قدرة التأثير على الأفراد والشركات معاً.

الكتاب من منشورات معهد ماساتشوستس التقني، وتلك إشارة إضافية إلى جدّية التغيير الرقمي الذي سيطول التعليم العالي في الولايات المتحدة الأميركية والعالم بأسره، معهد «MIT» هو أقرب إلى الأب الأكبر، أو المطبخ التقني الأعظم إذا شئت، للتقنيات الحديثة، وسيكون لأي كتاب منشور عنه يبشرُ بالثورة الرقمية القادمة وقعٌ عظيم، لا يمكن التغافل عنه.

المدهش في مقدّمة الكتاب أنها تقدّمُ جواباً لتساؤلي السابق؛ حيث يؤكدُ المؤلف أنّ التعلّم من خبرة أوتس بطريقة مباشرة، وبالكيفية الجامعية التقليدية، يُعدُّ امتيازاً عظيماً، تحظى به قلّة مخصوصة فحسب، ولكي يوضّح المؤلف الأسباب التي تقف وراء هذا، يُورِد إحصائيات مثيرة؛ حيث تقدَّم عام 2021 بطلبات الدراسة في مقرّر أوتس للدراسة الإبداعية 37601 متقدم، قُبِل منهم 1498، أي ما نسبته المئوية 3.98 في المائة، وهي نسبة ضئيلة للغاية، هذه النسبة الشحيحة ستعمل -مثلما عملت في عقود سابقة- على ترسيخ سياسات «الشحّة» (Scarcity Policies) في التعليم الجامعي، ومن بعض مفاعيل هذه السياسات أنّ المرء يضطرُّ إلى التضحية بمال كثير، مشفوعاً بتوصيات عديدة، تؤكّدُ قدرته وتفوقه على الآخرين، واستكماله لشروط البرنامج الدراسي الذي يريد الالتحاق به.

تطلّب الالتحاق ببرنامج أوتس في الكتابة الإبداعية لعام 2021 (وهو جزء من المتطلبات المالية للالتحاق بجامعة برينستون) 80 ألف دولار في السنة! إلى جانب متطلبات أخرى مُجهِدة.

تغيَّر الأمر عندما أعلنت أوتس عن برنامجها الدراسي «MasterClass» لتعليم فن القصة القصيرة، لقاء 15 دولاراً في الشهر، وفرة في المادة التعليمية ووسائط اكتسابها، مقابل شحة في الدولارات التي يدفعها المرء.

يبدو أنّ السياسة التعليمية الجامعية انعكست؛ إذ بهذه الدولارات الشحيحة يمكن للراغب ولوجُ تجربة تعليمية عالمية مرموقة المواصفات، متاحة كل حين وفي كلّ مكان، باستخدام هاتف ذكي، أو حاسوب محمول، أو أي مشغّل وسائط رقمية أخرى، ربما لن يحصل المنخرطون في هذه التجربة التعليمية الرقمية على الخبرة ذاتها التي سيحصلون عليها لو حضروا الصفوف الدراسية التي تُحاضِر فيها أوتس شخصياً.

هذا صحيح، وصحيحٌ أيضاً أنّ أوتس لن تخصّص لهم من وقتها مثلما تفعل مع طلبتها في برينستون؛ لكن تبقى التجربة الرقمية مثيرة وواعدة بكثير من النتائج الطيبة. هذا ما يؤكّده كثير ممن حضروا الصفوف الرقمية.

أحدُ مؤشرات نجاح التجربة أنّ كثيراً من كُتّاب الرواية العالميين جعلوا من أوتس نموذجاً صالحاً للتمثل والمحاكاة، ومن هؤلاء: مارغريت آتوود، ومالكولم كالدول، وآمي تان.

ولم يقتصر الأمر على كُتّاب الرواية؛ فهناك مثال عالم الاقتصاد المميز بول كروغمان، وأستاذة التاريخ الأميركي دوريس كيرنس غودوين، وأستاذ الصحافة الشهير بوب وودوورد، المعروف بحنكته الاستقصائية اللامعة.

ينتابُ كثيراً منا كثيرٌ من الشكوك والريبة بشأن قدرة التعليم الجامعي الرقمي، ولنا معاذيرنا المسوِّغة لشكوكنا. لو وضعنا جانباً أننا نميل لمعاكسة كلّ انعطافة تقنية بفعل ضواغط التقاليد الراسخة، فإنّ الأمر يتطلبُ بعض المراجعة التاريخية.

ظلّت الجامعات والكليات عبر القرون الخمسة الماضية (دعونا نتذكر أنّ جامعتَي أكسفورد وكمبردج تأسَّستا بدايات القرن الثالث عشر!) مؤسسات تتمتع باستقرارية راسخة؛ كونها جزءاً من الحكاية الوطنية (National Story) لكلّ بلد تأسست فيه، وفي هذا الشأن يُورِد كلارك كير، وهو رئيس سابق لإحدى جامعات كاليفورنيا، أنّ الجامعات والكليات كانت بين القلة القليلة من المؤسسات الخمس والثمانين التي بقيت محافِظة على هيكليتها الأساسية منذ عام 1520؛ لذا كانت لها كلّ السطوة الثقافية والهيمنة الفكرية التي عُرِفَت بها.

ومن الواجب والبديهي أن نتساءل: كيف حافظت الكليات والجامعات على سطوتها الثقافية والفكرية كل هذه القرون؟ الجواب يكمن في إدارتها لسياسة «الشحة»، واعتمادها نموذجاً يقوم على «الشحة»، ويتأسس نموذج «الشحة» الجامعية على معالم ثلاثة:

المَعْلَم الأول: شحة المدخلات الجامعية (محدودية أعداد الطلبة المقبولين، بالمقارنة مع أعداد المتقدمين للدراسة، ومحدودية أعداد الدارسين في الصف الدراسي).

المَعْلَم الثاني: شحة الوسائل التعليمية (محدودية أعداد خبراء التعليم والأساتذة الجامعيين المؤهَّلين تأهيلاً عالياً).

المَعْلَم الثالث: شحة المُخرَجات الجامعية (محدودية أعداد حملة الشهادات الجامعية بالمقارنة مع غير الحاصلين عليها، ومحدودية أعداد الجامعات والكليات ذات الشهرة العالمية).

عنوان التعليم الجامعي الكلاسيكي هو الشحة، وهذه الشحة يراها راسِمو سياسات التعليم العالي وسيلة تنافسية، تُبقي على جذوة الرغبة في التعلّم متّقِدة في الأرواح، بعيداً عن الابتذال والاستسهال اللذَين يُوهِنان الأرواح الفتية.

من الطبيعي أن قانون حصر التعليم العالي بين قلّة منتخَبة سيكون هو السياسة المتبَعة؛ لعدم قدرة التعليم الجامعي المتّسم بالشحة على الإيفاء بكلّ الاحتياجات التعليمية للجميع. هل نتخيل المشهد الجامعي في ظلّ سياسات الشحة؟ أعداد هائلة من الراغبين في التعليم الجامعي الأوّلي والعالي ستتقاتلُ على مقاعد محدودة.

وسيدفع هذا الأمر لزيادة الأقساط الجامعية سنوياً، حتى بلغت مستويات فلكية، إنها سياسة العرض والطلب التي تعمل بكلّ قوتها طبقاً للاقتصاد الكلاسيكي. يكفي أن نعلم أنّ الخريجين الأميركيين عام 2020 حملوا على أكتافهم عبء قروض جامعية بلغت 1.7 تريليون من الدولارات، وهنا لن يكون غريباً أن نفهم السبب في كون هذه القروض عُرضة للألاعيب الانتخابية الأميركية، تماماً مثل برامج الرعاية الصحية.

صار من الواضح لصانعي السياسات التعليمية الجامعية في أميركا، أنّ النظام الجامعي الحالي يفشل، ومعالم هذا الفشل تكمنُ في ابتعاده عن تمثّل الحدّ الأدنى من العدالة والمساواة بين المتقدمين؛ لأنّه يحابي المقتدرين مالياً دون سواهم، وخصوصاً في نطاق جامعات النخبة (Ivy League)، ثمّ هناك الاستطلاعات الحديثة التي أبانت أنّ 11 في المائة فحسب من قادة الأعمال يرون أنّ خريجي الجامعات الأميركية يفُون بمتطلّبات دفع عجلة التقدم التقني والمالي في مشاريعهم الكبرى.

الجامعات والكليات الأميركية بتكاليفها الفلكية صارت على المحكّ القاسي، ولا بدّ على الأقل من مراجعة السياسات الجامعية. هنا من المفيد أن نتذكّر أنّ أقطاب التقنيات الأميركية الرقمية لم يكملوا دراساتهم الجامعية بصورة نظامية؛ الأمر الذي جعل منهم نماذج أيقونية كبرى يسعى الشباب الأميركي لمحاكاة تجاربها.

ما البديل المناسب والأكثر معقولية ومقبولية، والأقل كُلفة، والأنسب للاحتياجات الشخصية من التعليم الجامعي التقليدي؟ إنه التعليم الرقمي بلا شك، هذه هي كل الحكاية ببساطة.

*****

يمكن تلخيص فكرة الكتاب في المؤشرات الأربعة التالية:

- نظام التعليم العالي الحالي لم يَعُد من الممكن إدامته مالياً وأخلاقياً.

- معضلة التعليم العالي الحالي هيكلية، بمعنى ليس بالمستطاع علاج أمراضه باللجوء إلى نموذج الشحة. لا بدّ من نموذج وفرة (Abundance) بديلاً عن الشحة.

- التقنيات الرقمية تمثّل انعطافة ثورية تُتيح لنا اعتماد نظام تعليم جامعي بديل يقوم على الوفرة.

- للمساهمة في الثورة التعليمية الجديدة، يجب على العاملين في التعليم الجامعي إعادة تشكيل رؤاهم للتعليم الجامعي، بُغية تعظيم مشاركتهم فيه، بدلاً من أن يكونوا عصاً تُعيق مساره. التغيير قادم لا محالة، ومن المفيد للجميع تسهيل أمر التحوّل بأقلّ التكاليف الممكنة.

قد يبدو الكتاب غارقاً في المحلية الأميركية؛ لكنه يحكي حكاية سنواجهها جميعاً أينما كنا، وسيكون من المفيد التحسّبُ لها ومواجهتها، والاستفادة العظمى من تجارب من سبقونا في التعامل معها.



بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون
TT

بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون

كنتُ أحسبُ أنّ العبارة الأيقونية الشائعة التي سادتْ في عقود سابقة بصيغة تساؤل: هل الفن للفن أم الفن للحياة؟ قد ماتت وتلاشى ذكرُها في لجج هذا العصر الذي تعاظمت فيه الفردانية بدفعٍ مباشر من المنجزات التقنية غير المسبوقة؛ لكنْ يحصل أحياناً أن تقرأ في بعض وسائل التواصل نقاشات قد تستحيلُ معارك سجالية يبدو أطرافها وكأنّهم لم يغادروا بعدُ أجواء الحرب الثقافية الباردة التي كانت جزءاً فاعلاً في الحرب بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

ربما من المهم الإشارةُ إلى أنّ مفردة «الفن» في التساؤل الإشكالي تعني كلّ الضروب الإبداعية المتصوّرة من كتابة (تخييلية أو غير تخييلية) وشعر وفنون تشكيلية. أعتقدُ أنّ التساؤل السابق فاسدٌ في أساسه المفاهيمي لأنّه يُخفي رغبة مضمرة في تأكيد قناعة مسبقة سعى المعسكر الاشتراكي إلى ترسيخها ومفادُها أنّ الشيوعية تتناغم مع تطلعات الإنسان على العكس من الرأسمالية التي تعظّم فردانيته وجشعه ونزوعه الشخصي.

التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية

علّمتْنا تجاربُ كثيرة أنّ التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية، ولستُ في حاجة إلى إيراد أمثلة عن أعمال كُتِبت في ظلّ «الواقعية الاشتراكية»، وكانت غاية في السخف والرداءة. ما سأسعى إليه في الفقرات التالية هو محاولة تفكيك الأساس الفلسفي الدافع للإبداع في حقل الأدب على وجه التخصيص رغم أنّ المقايسة يمكن تعميمها على جميع ضروب الإبداع الفني.

إلهاءات تستحيل معها الفلسلفة

الحياة مشقّة رغم كلّ اللذّات الممكنة والمتاحة فيها، وخبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة باتت تتزايد مناسيبها مع تعقّد الحياة وتطوّرها. قارن نفسك مع أفلاطون مثلاً: بوسعك اليوم أن تحوز خبرات تقنية أعظم ممّا عرفها أفلاطون وكلّ فلاسفة الإغريق؛ لكنْ هل بمستطاعنا كتابة «مأدبة» حوارية فلسفية تتناغم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين؟ أشكّ في ذلك كثيراً؛ فهذا جهد أقرب إلى الاستحالة لأنّ الإلهاءات في حياتنا باتت كثيرة، وجعلت ملاحقة القضايا الوجودية الأساسية ووضعها في مقايسة فلسفية مناسبة - مثلما فعل أفلاطون - مهمّة مستعصية.

ربما سيتساءل سائل: ولماذا لا نكبحُ هذه الإلهاءات من حياتنا ونعيش بعيداً عنها لكي نكون قادرين على امتلاك الإحساس الفلسفي اللازم لكتابة أفلاطونية بثياب معاصرة؟ لا يمكننا هذا لأنّه يعني - بالضرورة - العيش في جزيرة مهجورة. دعونا نتذكّر ما كتبه الشاعر اللاهوتي الإنجليزي جون دَنْ (John Donne): «ما مِنْ إنسانٍ جزيرةٌ لوحده». من غير هذه الإلهاءات تبدو الحياة وكأنّها تفكّرٌ طويل لا ينقطع في موضوعات الموت والشيخوخة والمآلات النهائية للوجود البشري المقترن بحسّ مأساوي. لا حياة بشرية تسودها متعة كاملة.

الإلهاءات تتّخذ في العادة شكليْن: شكل اختياري، نحن من يختاره (لعب، مشي، سفر، تجوال ليلي في الشوارع المضاءة...)، وشكل يتخذ صفة المواضعات القانونية (دراسة، عمل...). نفهم من هذا أنّ الإلهاءات مفيدة لأنها تبعدُنا عن الجلوس المستكين والتفكّر في ثنائيات الموت والحياة، والبدايات والنهايات، والطفولة والشيخوخة... إلى جانب تمكيننا من إدامة زخم متطلبات عيشنا اليومي.

أسباب لتفادي الغرق في الإلهاءات

الغوص في لجّة الإلهاءات اليومية حدّ الغرق فيها ليس بالأمر الطيب متى ما صار ممارسة روتينية نفعلها من غير تدبّر أو مساءلة. أظنّ أنّ أسباباً كثيرة تدفعنا لخرق هذه الممارسة أحياناً:

أولاً: الغرق في بحر إلهاءات المعيش اليومي يحيلُنا إلى الشعور البديهي بأنّنا كائناتٌ محلية مآلها الفناء، وقتية الوجود، محكومة بقوانين المحدودية الزمانية والمكانية. قد نكون كذلك في التوصيفات الواقعية؛ لكنّ أحد شروط العيش الطيب هو الطَرْقُ على هذه المحدودية بمطرقة ثقيلة بغية تكسير قشرتها السميكة التي تحيط بنا حتى لو تمّ الأمر في النطاق الذهني. أظنّ أنّ المسعى الغلغامشي في طلب الخلود حاضرٌ في كلّ منّا بقدر صَغُرَ أم كَبُرَ. العيش بغير ملامسة المثال الغلغامشي يبدو عيشاً باعثاً على أعلى أشكال الملل والشعور بخسارة الزمن والعبثية المطلقة لتجربة العيش البشري.

ثانياً: تقترن الإلهاءات اليومية للعيش بمناسيب متصاعدة من الضوضاء حتى بات الكائن البشري يوصف بالكائن الصانع للضوضاء. نتحدثُ اليوم عن بصمة كاربونية لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى ما يطرحه الواحد منّا في الجو من غازات مؤذية للبيئة. أظنُّ أنّ من المناسب أيضاً الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟

نحنُ كائنات ضوضائية بدافع الحاجة أو التسلية أو الضجر. نصنع الضوضاء بشكل أو بآخر وبمناسيب متفاوتة. ثمة دراسات متخصصة ومعمّقة في علم النفس التطوري تؤكدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياساً تطورياً للأفراد. كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته العقلية والتخييلية أدنى من نظرائه ذوي البصمة الضوضائية الأدنى. ربما التسويغ الأقرب لهذه النتيجة أنّ مَنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل.

ثالثاً: هذا التسويغ يعتمد مقاربة غريبة توظّفُ ما يسمّى مبرهنة غودل في اللااكتمال، وهي مبرهنة معروفة في علوم الحاسوب والرياضيات، وأقرب إلى أن تكون رؤية فلسفية قابلة للتعميم، وهو ما سأفعله هنا. جوهرُ هذه المبرهنة أنك لن تستطيع البرهنة على صحة نظام شكلي باللجوء إلى عبارات من داخل نطاق النظام دوماً. لا بدّ أن يحصل خطأ ما في مكان ما. يبدو لي التعميم على نطاق العيش اليومي البشري ممكناً: لن تستطيع عيش حياة طيبة إذا ما اكتفيت بالقوانين السائدة والمعروفة للعيش. لا بدّ من نوافذ إضافية تتيحُ لك الارتقاء بنمط عيشك، وهذه النوافذ هي بالضرورة ميتافيزيقية الطابع تتعالى على الواقع اليومي.

رابعاً: العيش اليومي فعالية شهدت نمواً مضطرداً في مناسيب العقلنة حتى لامست تخوم العقلنة الصارمة المحكومة بخوارزميات حاسوبية. العقلنة مطلوبة في الحياة بالتأكيد؛ لكننا نتوق إلى كبح سطوة قوانين هذه العقلنة والتفكير في نطاقات غير معقلنة. اللاعقلنة هنا تعني عدم التأكّد اليقيني المسبق ممّا سيحصل انتظاراً لمكافأة الدهشة والمفاجأة بدلاً من الحدس الرتيب بالإمكانية الوحيدة للتحقق.

خامساً: العيش اليومي يقترن في العادة مع مناسيب عالية من المأزومية العقلية والنفسية. عندما لا تعيش بحكم الضرورة وحدك فأنت تتفاعل مع آخرين، وهذا التفاعل قد يكون هادئاً أو مشحوناً بقدر من الصراع الوجودي. لا ترياق لهذا النمط الصراعي المحتوم إلّا بكتابته وتحويله إلى مغذيات إبداعية أولية للكاتب. تحدّث كثيرٌ من الكتّاب عن أنّ الكتابة أضحت لهم مثل تناول حبة الضغط اليومية اللازمة لعلاج ارتفاع الضغط الدموي لديهم. إنّهم صادقون تماماً. من غير الكتابة يصبحون أقرب لكائنات شيزوفرينية يكاد يقتلها الألم والعذاب.

يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة

الأدب الجيّد مفتاحاً للتوازن

الأدب الجيّد بكلّ تلاوينه، مثلما كلّ فعالية إبداعية أخرى، ترياقٌ ناجع للتعامل مع الإفرازات السيئة المتلازمة مع وجودنا البشري. يخرجُنا الفن المبدع غير المأسور بمحدّدات الآيديولوجيا من محليتنا الضيقة ومحدّدات الزمان والمكان، ويؤجج جذوة المسعى الغلغامشي فينا طلباً لخلود افتراضي نعرف أنه لن يتحقق، ويكبح سطوة الإلهاءات في حياتنا ولو إلى أمد محدود كلّ يوم، مثلما يكبحُ مفاعيل الضوضاء البشرية فينا ويجعلنا نصغي بشهوة وتلذّذ إلى أصوات أعماقنا التي تقمعها الانشغالات البديهية والروتينية، ويفتح أمامنا نوافذ ميتافيزيقية تتيحُ لنا رؤية عوالم تخييلية ليس بمستطاعنا بلوغها من غير معونة الإبداع الفني.

بعد كل هذا يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة.

تترتب على هذه المقايسات نتائج مدهشة أحياناً وغير متوقعة، يمكن أن تجيب عن بعض تساؤلاتنا الممضّة. منها مثلاً: لماذا تمتلك الأعمال الأدبية والفلسفية الإغريقية خاصية الراهنية والاستمرارية في التأثير والتفوق على كثير من نظيراتها المعاصرة؟ يبدو لي أنّ الفلاسفة والأدباء الإغريق كانوا عرضة لتشتت أقلّ من حيث طبيعة وحجم الإلهاءات؛ لذا جاءت مقارباتهم أقرب للتناغم مع تطلعات الإنسان وقلقه الوجودي؛ في حين تغرق الأعمال المعاصرة في التفاصيل الجزئية ذات الطبيعة التقنية، وهي في عمومها تقدّمُ المعرفة التقنية في فرعيات دقيقة عوضاً عن التأكيد على الرؤية الإنسانية الشاملة.

أظنها متعة كبيرة لو دقّقنا في الأعمال الأدبية العظيمة، ورأينا كم تتفق سياقاتها مع معايير الوظيفة الإبداعية كما ذكرتها أعلاه. أظننا سنكتشف أنّ هذه الأعمال لم تكن مستعبدة لنسق آيديولوجي باستثناء إذا أردنا وضع الإنسان في مرتبة الاهتمام الآيديولوجي الأعلى مقاماً من كلّ ما سواه. ثمّ إنها أبعدتنا عن الإلهاءات اليومية الروتينية، وفتحت لنا نافذة في قشرة الوجود البشري الصلبة، وأنقذتنا من تسونامي الصراعات اليومية.

الفن للفرد الذي يعرف كيف يجعل الفن وسيلة للارتقاء بمعيشه اليومي، ومن ثمّ تحويله لخبرة جمعية منتجة. ربما قد يكون حاسوبٌ، وكوبُ شاي أو قهوة، وشيءٌ من طعام بسيط في مكان بعيد عن ضوضاء العالم لبعض الوقت الذي نستقطعه من زحمة انشغالاتنا اليومية هو كلّ ما نحتاجه لنصنع أدباً جيداً، وقبل هذا لنعيش حياة طيبة يبدو أنّ كثيرين يغادرون هذه الحياة وهم لم يتذوّقوا ولو القليل من لذّتها الكبرى.