أوهام العالم الرقمي

هبة عبد العليم تستعير الحياة من وراء قناع

أوهام العالم الرقمي
TT

أوهام العالم الرقمي

أوهام العالم الرقمي

تتأمّل رواية «الحياة السريّة لمها توفيق» (منشورات المتوسط - ميلانو) مراوحات التأرجح الإنساني بين قطبي الحياة بواقعيتها من جهة وافتراضيتها «الرقمية» من جهة أخرى، فيما يبدو انشطار الذات وتفتيت الهُوية، سواء بشكل علني أو سري، أحد أعراض هذا التيه وكوابيسه.

تختبر الكاتبة المصرية هبة عبد العليم تلك التأملات من خلال سيرة بطلتها «مها»، التي تصطنع لها حياة سريّة في لحظة مأزومة من حياتها، بعد أن يتملّك منها الشعور بأن الحياة قد لفظتها بعدما يهجرها الزوج بطلاق غيابي، ليتركها في مربع جديد تُعيد داخله استكشاف حياتها، ولكنها بدلاً من أن تواجه أشباح تلك الصدمة بتبعاتها، تختار في المقابل الهروب من ألم صدمتها من خلال تدشين صفحة رقمية على «فيسبوك» باسم وهُوية جديدين، وعلى الرغم مما كان يوحي به هذا التصرف من مغامرة بائسة لتزجية وحشتها، فإنها تجد نفسها، مع تقدم السرد، مُتورطة داخل ذلك النفق «الرقمي» الذي يُزيد من تعاستها، ويُعمّق بداخلها مشاعر الفقد بشكل أكبر.

تلصص على الحياة

تُسلِّم الكاتبة ناصية السرد إلى بطلتها، وتطلعنا منذ بداية السرد على بعض من يومياتها التي على الرغم مما تتضمّنه من نشاط ظاهري، فإنها تمثّل في الحقيقة غطاء لفراغ كاسِر في حياة البطلة. يعزّز ذلك أن الرواية، عبر 174 صفحة، تؤسّس منذ بدايتها لعلاقة البطلة الوطيدة بالواقع، الذي تبدو في هوس بتوثيقه، فيبدو شغفها الموصول بالتصوير الفوتوغرافي، وما يتبعه من تفريغ لذاكرة الكاميرا أقرب إلى حركة تنقيب مُوازية داخل عقلها، وكأنها تتوسل في الصور التي تلتقطها علامة، أو إجابة حائرة بين وجوه الناس، وزحام الشوارع، أو حتى في أفق الصحراء التي ترصدها بكاميرتها. بينما نراها من ناحية أخرى تتحدث عن «لعبتها» المُفضلة بتسجيل أصوات المحيطين بها خلسة كـ«لعبة طفولية»، ومنها أحاديثها مع عائلتها على منضدة الطعام، وحتى أحاديثها مع زوجها في مختلف اللحظات، فيما يبدو أننا أمام بطلة تتلصّص على حياتها، وتجد في بحر واقعها مساحات هائلة تُثير خيالها ودهشتها كل مرة، بكل تفاصيله المُكررة وبصماته الصوتية، فهي تتعامل مع واقعها بمنطق التملك فتقول: «حياتي شريط كامل أمسكه بيدي، لا أفلت لحظة أبداً».

صوتان مُنفصلان

يُمهد هذا الارتباط الوثيق بين البطلة وواقعها الشخصي إلى مُفارقة الرواية الرئيسية، بعد أن تختار في لحظة تمرد الانفصال عن هذا الواقع، لتمارس التلصّص بمنطق مختلف، تتحرّر فيه من هُويتها «مها توفيق»، لتنشئ صفحة باسم «ماتي»، وهو اسم التدليل الذي كان يناديه به والدها، ويبدو اختيارها لهذا الاسم مُبرراً؛ إذ تجترّ البطلة مشاعر انقسامها المبكر بين «مها» المُطيعة التي تُرضي تطلعات والدتها، و«ماتي» المتمردة التي تثير استياءها، بما يحمله ذلك من إسقاطات نفسية مُتجذرة لدى البطلة حول علاقتها بالأم من جهة، والتعاطف مع عجز الأب من جهة أخرى، وهي مسائل تُلمح إليها الكاتبة على هامش صراع الهُوية الذي تبدو البطلة على وعي كامل به، وهي تقرّر أن تفتح لنفسها نافذة افتراضية على العالم، الذي لا يعرفها ولا تعرفه، بوصفها حيلة هروب من واقعها المُعقد الذي وجدت نفسها فيه مجرد سيدة منبوذة ومتروكة، ليبدو أنها تحمل ندوبها العائلية والشخصية المُبكرة معها، وهي تجعل لكل من «مها» و«ماتي» صوتين منفصلين في الفضاء الرقمي.

اللافت أن البطلة تُظهر ما يبدو خطة واعية لإدارة حسابها الجديد، فغرضه الأساسي هو الحديث إلى أشخاص لا تعرفهم ولا يعرفونها لكسر عزلتها دون توّرط في أحاديث مُعمقة أو شخصية، وألا يتجاوز فيها الحديث مع أي شخص أكثر من يوم واحد، إلا أنه سرعان ما تتبدّد تلك الحدود، فيبتلع هذا الحساب حياتها، وتجد نفسها مُتورطة في عالم مُخيف، تنطوي فيه غرف المُحادثات على زيف واستغلال نفسي وجنسي، لتدخل بنا الرواية من بوابة مواقع التواصل الاجتماعي إلى عالم من الهُويات المُشوهة. فتستعرض من خلال «صندوق بريد ماتي» نماذج لشخصيات لا تنجح في جعل القارئ يتعاطف مع اختبائها ولا عالمها السري، وإن كانت في المقابل تُثير الفزع من تحوّل السيرة الشخصية للفرد إلى محض صفحة وهمية، تبدأ بطلب إضافة صداقة، وتنتهي بالحظر والاختفاء، واختارت الكاتبة أن تمنح تلك الشخصيات سمات ازدواجية حادة، مناقضة لواقعها الاجتماعي، وصورتها اليومية التي تتعاطى بها في حياتها العامة.

وهكذا، تُكرّس أحداث الرواية للحياة المُوازية للبطلة التي باتت رهن حركة «الإشعارات» و«الرسائل» الجديدة التي تصلها على صفحتها الجديدة، ويبدأ هذا الفضاء الافتراضي بملابساته الجديدة في الزحف على أرض واقعها، حتى يتآكل الجدار الهشّ بين «مها» و«ماتي» بمجرد تداخل الهُويتين مع تعقيد الأحداث، فينتاب البطلة شعور عارم بالتهديد والرثاء، وتمهد الكاتبة لها طريق الخروج من مأزقها عبر المُكاشفة النفسية، فتبدأ «مها توفيق» مع نهاية الرواية في ملامسة «روحها المريضة»، والتعرف على مشاعرها الحقيقية دون تشويش أوهام العالم الرقمي، لتعود إلى التقاط خيط الواقع من جديد، فتصبح جلسات العلاج النفسي آلية لتحرير صوت «مها» من سطوة «ماتي» في مواجهة حقيقية مع الفقد والوحدة، وتفريغ مشاعرها بالنبذ والهجر، فتبدو في حالة الاستسلام للبوح، كأنها تتهجّى اسمها من جديد، في حين نفسها تتراءى لها في تداعيها وكأنها «ورقة سقطت من شجرة».


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.