أنواع الحدس الأربعة

تعقيباً على موضوع «الحدس حقيقي وليس سحراً»

 ديكارت
ديكارت
TT

أنواع الحدس الأربعة

 ديكارت
ديكارت

نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» في 7 يونيو (حزيران) 2024 مادة بعنوان «الحدس حقيقي وليس سحراً... علم الأعصاب يشجع على تصديقه فكيف ننميه؟). وكان الحديث فيه عن تلك القدرة الغريزية التي قد يشعر بها الإنسان في لحظات حرجة معلنة أن ثمة خطراً ما يهدده، أو أن قراراً جوهرياً اتخذه لم يكن صحيحاً، وكأن يتقرب منك شخص مظهراً اللطف والمودة بينما هو في حقيقته عدو متربص.

التقرير نقل عن موقع «سيكولوجي توداي» قول العالمة النفسية وأستاذة الأبحاث إيما سيبالا أن المجتمع ينظر إلى القبول بالحدس على أنه من قبيل التفكير السحري. وكانت قد ذكرت في كتابها «السيادي» أن الحدس شكل من أشكال الإدراك المضبوط بدقة، وأنه قد صُمم لإنقاذ حياتنا، وأن 85 في المائة من الرؤساء التنفيذيين يستخدمون حدسهم عند اتخاذ القرارات. على الرغم من هذا يميل الناس إلى التفريق بين العقل والحدس ويرفضون معطيات الحدس لأنها تبدو لهم غير عقلانية أو لا تحظى بالعقلانية الكافية. وأشارت في كتابها ذاك إلى أن الجيش الأميركي قد أخذ الأمر بجدية وأنه يسعى إلى تطوير القدرات الحدسية لدى العسكر.

شوبنهاور

ويختم التقرير بالوصايا المعروفة بخصوص إسكات العقل عن طريق التأمل، والابتعاد عن الأجهزة الحديثة للخلاص من التوتر، والاقتراب من الطبيعة بهدف الوصول إلى رؤى مبتكرة، والتنفس بطريقة صحيحة خالية من التفكير، وتنمية حالة الصفاء الذهني، كما جاء في نصوص الطاوية وفلاسفة الزن. الجديد في الأمر هو التغير الظاهر في موقف علم الأعصاب الذي كان في بدايات اكتشافه كعلم يتصف بالعلمية التجريبية الصارمة والرفض والتصدي لمثل هذه الأفكار التي تبدو ميتافيزيقية بلا دليل. ويبدو أن العلم قد بدأ من جديد في تغيير رأيه، لكن قبل هذا ينبغي أن نتعرف على هذا الحدس وما معناه، خصوصاً أن هناك أربعة أنواع له. هناك الحدس التجريبي، والحدس العقلي، والحدس الكشفي الصوفي والحدس الفلسفي. معظم الناس لا يعرفون إلا الحدس الصوفي.

هناك الحدس الإشراقي وهو ارتفاع النفس البشرية إلى المبادئ العالية حتى تصبح مرآة مجلوّة تجاور جانب الحق فتمتلئ بالنور الإلهي الذي يغشاها، لكنها لا تنحل فيه بالكامل. وقد جرت العادة على تسمية هذا الامتلاء بالنور الإلهي كشفاً روحياً أو إلهاماً. حدس يرتقي من مشاهدة الصور الحسية إلى إدراك الحقائق المطلقة.

وهناك معنى ثانٍ للحدس عند أبي الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت؛ إذ يقرر أنه الاطلاع العقلي المباشر على الحقائق البديهية. وقد أوضح أنه لا يقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة، ولا الانخداع لخيال فاسد المباني، وإنما يقصد به التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه، بدرجة من السهولة والتميز لا يبقى معها مجال للريب، أي أنه يقصد به التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده، أي أن الحدوس أعمال عقلية يدرك بها الذهن بعض الحقائق تقع فيه بشكل مباشر من دون تعاقب. والأمور التي يدركها العقل بالحدس عديدة، منها أشكال الأشياء وحركتها. ومنها الحقائق الأولية التي لا تقبل الشك كعلمي أني موجود لأني أفكر. ومنها المبادئ العقلية التي تربط الحقائق بعضها ببعض. لكل هذا كان ديكارت يسمي الحدس «النور الطبيعي» وهو لا يقصد به إلا غريزة العقل. وبنى الفيلسوف الألماني لايبنتز على الأصل الديكارتي، وقرر أن الحقائق الأولى التي نعرفها بالحدس نوعان: حقائق العقل وحقائق الواقع.

وهناك اتجاه آخر يمثله إيمانويل كانط ينظر إلى الحدس على أنه الاطلاع المباشر على معنى حاضر بالذهن من جهة أنه حقيقة جزئية. وعند جون ديوي تكون الحقيقة الجزئية إما مثالية كما في الحدس العقلي الذي يجمع بين تصور الشيء ووجوده، وإما مستفادة من الإحساس بصورة قبلية كإدراك الزمان والمكان، وإما أن تكون بعدية كنتائج التجارب.

أما شوبنهاور، فقد ذهب إلى أن الحدس هو المعرفة الحاصلة في الذهن دفعة واحدة من غير نظر أو استدلال عقلي. وهذا المعنى لا يصدق فقط على عملية تمثل الأشياء وتصورها، بل يصدق أيضاً على تصور علاقات الأشياء كتمثل الأشكال الهندسية من جهة ما هي مُدرَكة إدراكاً مباشراً. ولشوبنهاور حديث بديع عن الحدس الجمالي الذي يراه أكمل صور الحدس، حيث ينسى الإنسان نفسه في لحظة من الزمان، فلا يُدرك إلا حقيقة الشيء الذي يتأمله.

أما هنري برغسون، فيعرّف الحدس على أنه عرفان من نوع خاص وتعاطف باطني، فهو ينقلنا إلى باطن الشيء ويطلعنا على ما فيه من طبيعة لا تعبّر عنها اللغة، ويجعلنا نتحد بصفاته المفردة. إنه النقيض للفلسفة المادية المحبوسة في ظاهر الشيء.

وفسره هنري بواكارييه بأنه الحكم السريع المؤكد أو التنبؤ الغريزي بالوقائع وبالعلاقات، وهو أيضاً نظام رياضي يكشف عن العلاقات الخفية.

ولم تلبث الحدسية أن صارت مذهباً معروفاً من مذاهب الفلسفة وهو المذهب الذي يرى أن للحدس المكانة الأعلى في تحديد المعرفة. المذهب الحدسي الفلسفي له مدرستان، الأولى التي تقرر اعتماد المعرفة على الحدس العقلي، والأخرى التي تقرر أن إدراك وجود الحقائق المادية إدراك حسي مباشر وليس إدراكاً نظرياً.

خلاصة القول، أن الميتافيزيقا قد تكون مضللة للغاية، لكنها ستوصلنا إلى نتائج مذهلة عندما يدعمها العلم وتصدقها التجربة، أقصد التجربة بمعناها الواسع. عندما نقارن بين تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة فلربما لاحظنا أن العلم عبر تاريخه قد اتخذ الأفكار الفلسفية موضوعاً للدراسة محاولاً إثباتها أو نفيها. العوالم الموازية التي تحدثت عنها الفيزياء الكمومية هي في الأساس فكرة لجوردانو برونو الذي قُتل حرقاً ذات نهار في سنة 1600. هذا هو أفضل ما يمكن أن يكون، العلم خادماً للفلسفة لا العكس. ومع ذلك، سيبقى الإنسان لغزاً محيراً ولا تزال قدراته العقلية وما وراء الحسية موضوعاً لمزيد من الدراسات التي ستأتي؛ فلا تزال طريق المعرفة طويلة.

* كاتب سعودي



الذكاء الاصطناعي بطلاً روائياً

الذكاء الاصطناعي بطلاً روائياً
TT

الذكاء الاصطناعي بطلاً روائياً

الذكاء الاصطناعي بطلاً روائياً

تدور أحداث رواية «فضاء البنفسج» للكاتب المصري عبد الرحمن عاطف، داخل منعطفات زمن «ديستوبي» يتشارك الحياة فيه «هجين» من بقايا بشر ناجين من كارثة نووية، مع كائنات ذكية اصطناعياً، وكائنات «سايبرغ» cyborg مُحسنة ميكانيكياً، وهي تتشارك معاً في مصير كارثي جديد يقودهم خارج كوكب الأرض بحثاً عن فضاء مكاني بديل بعد شيوع اقتراب كارثة كونية جديدة. وعلى مدار السرد تتقاطع مسارات شخصيات ثلاث رئيسية في مواجهة هذا المصير المجهول المشترك.

تفكيك الإنسان

صدرت الرواية حديثاً عن دار «العين» للنشر بالقاهرة، وتقع في 244 صفحة. واللافت أن المؤلف يستثمر «شطحات» التقدم العلمي في علوم الطب الحيوي، والميكانيكا، والهندسة الجينية، والمعلوماتية، في بناء عالمه المستقبلي، الذي يسعى فيه لتأمل وجه البشرية المُشوش والمطموس وسط تلك الخريطة الآلية المعقدة، حيث يبدو الإنسان قابلاً للتفكيك، وكأنه محض قطع غِيار آلية، فتتم رقمنة وعيه، وتطويعه بطريقة بيولوجية ليسهل تجميده وحفظه لسنوات في مرحلة معملية تسمى بمرحلة «السُبات».

كما يُعاد تجهيزه لحياة جديدة بعد تبديل شرائح ذاكرته، حيث تبدو الذاكرة الذاتية للإنسان بما تحمله من مشاعر عديمة القيمة، يتم التخلص منها وزرعها في أجساد أخرى بشكل وظيفي، في مفارقات روائية عبثية تجعل الإنسان طوع الآلة وتطبيقاتها، وليس العكس.

وبالتوازي مع إظهار البشر كمحض فئران تجارب تفر من تبعات كارثة نووية إلى أخرى كونية بعد تردد اقتراب كارثة «انطفاء الشمس»، يضئ السرد حالات الاغتراب الجمعي التي تُخيم على أجواء الرواية. فالبشر يتواصلون عبر تقنيات ودوائر كهربائية، وتظهر مفارقات عبثية بين التطرف العلمي والرقمية الباذخة، وبين سيادة أوضاع تُحاكي العصور الوسطى في ظُلمتها، وكأن حضارة العالم تعود لبدائيتها، فتتم استعارة «هيراركية» قوانين الغابة، حيث يتم تقسيم المواطنين إلى طبقات متدرجة وفقاً لنظام هرمي يتم تقسيمه جينياً، فيجد بطل الرواية نفسه مُصنفاً بسبب جيناته ضمن الطبقة الأدنى، وهي طبقة «غاما»، ومحكوماً بقوانين تلك الطبقة الدنيا. ويتم توظيفه واستغلاله كترس في آلة ضخمة في سبيل قضايا لم يخترها ولا يفهمها دون مجال للتعاطف مع فردانيته، لتبدو قيم الجدارة، والأحلام، والتنافسية، والعدالة مُشوشة في ميزان هذا المجتمع الديستوبي، الذي فاقم من حصار الإنسان، وسط بطالة، وعوز، ورقابة تحاصره في الشارع والعمل، برصد كل قول وفعل لتقييم مدى استحقاقه لأن يكون «مواطناً صالحاً»، ليصبح تقييم الإنسان رهن تقييم الذكاء الاصطناعي له الذي يمنحه نقاطاً لصالحه ويخصم من رصيده إذا لزم الأمر، فالكل خاضع للتحليل تحت رحمة إحصاءات ونقاط رقمية.

محض أرقام

ويختار المؤلف تقنية تعدد الأصوات للاقتراب من واقع الاغتراب عن الذات والمكان، حيث يبدو «كل فرد محض رقم»، فيما تعكس شبكة العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع طبيعته المفتتة والفانتازية، فنرى فيه أبطال الرواية البشريين في تآلف كامل مع آلات الذكاء الاصطناعي؛ يتحدثون ويتجادلون، ويألفون القطط والكلاب الآلية في الشوارع، في زمن تلاشت فيه ملامح الحياة الطبيعية، حتى في أزهد صورها؛ حيث يتناول الناس الطعام في صورة «كبسولات». أما بطل الرواية المُصاب برُهاب اجتماعي، والواعي بأنه سليل البشرية التي انهارت بسبب كارثة نووية، فيبدو مستسلماً لحديثه المُتصل مع مُجسم لسيدة افتراضية بتقنية اصطناعية، تُبادله الحديث و«التعاطف» حيال صدمته بقرار تسريحه من العمل المفاجئ. وفي أحد مشاهد الرواية تدعوه للرقص معها فيستجيب: «مددت يدي وتظاهرت أنني ممسك بيد بشرية، رغم أنني كنت في الحقيقة قابضاً على امتداد بصري وهواء»، فيما تتناقش بطلة أخرى مُغرمة بتاريخ الفن مع مساعدتها الإلكترونية «أوليمبيا 9»، التي تفشل خوارزمياتها المتقدمة في تحليل لوحات «سلفادور دالي»، فيما يبدو «دالي» و«سيرياليته» ومضة من تاريخ بعيد لم يعد له أثر.

شرائح بدل العقول

يبدو هوس التحكم الرقمي من خلال تجريب «حكومة العالم» للبحث عن سبل للنجاة، التي باتت هاجساً كابوسياً بعد الكارثة النووية، فيجد أبطال الرواية أنفسهم منقادين لخوض رحلة خارج نطاق كوكب الأرض إلى آخر مجهول مع ترقب وقوع كارثة أخرى مع اقتراب «انطفاء الشمس»، وفرص وجود كائنات في هذا الكوكب الجديد، ورسم خريطة بديلة لفرصة الحياة في مكان مادي واقعي، في وقت تبدو فيه الرقمية قد ضاعفت من تعقيد علاقة الإنسان بالمكان، بعد أن مكنته عبر «الوهم» من كل شيء كما يصف بطل الرواية: «بنيت قصوراً وقلاعاً بها كل شيء أرغب فيه، صممت ألعاباً افتراضية، وتخيلت نفسي بداخل بعضها، لعبت وكنت أزيد من صعوبة المستويات حتى أجرب محاولات أخرى وأنجح فيها، حلقت في الهواء وتنفست تحت الماء، ولعبت الغولف على سطح القمر، جربت كل شيء حتى مللت، سألت نفسي ما الهدف من كل ذلك؟».

وهكذا، تضعنا الرواية أمام تلك المعضلة التي استحالت معها أجساد البشر لأطياف «هولوغرام»، وعقولهم لشرائح ذكية، وخيالهم لساحات افتراضية، وكأنها تضاعف الاشتياق لعالم بشري مألوف، وأجسام عادية غير خارقة، ربما لاستعادة مشاعر حقيقية لم يعد لها أثر، أو ربما حدثت في أضغاث حياة سابقة.