ملك فيلكا مستوياً على عرش كبير

عناصره فارسية شرقية وأسلوبه يوناني غربي

مجسّم من جزيرة فيلكا يمثّل ملكاً جالساً على عرشه
مجسّم من جزيرة فيلكا يمثّل ملكاً جالساً على عرشه
TT
20

ملك فيلكا مستوياً على عرش كبير

مجسّم من جزيرة فيلكا يمثّل ملكاً جالساً على عرشه
مجسّم من جزيرة فيلكا يمثّل ملكاً جالساً على عرشه

ازدهرت جزيرة فيلكا في العصور البرونزية، يوم كانت حاضرة في إقليم امتد على ساحل الخليج العربي عُرف باسم دلمون، كما ازدهرت في العصر الهلنستي الذي أعقب سيطرة الإسكندر الكبير على بلاد فارس، حيث عُرفت باسم إيكاروس، وشكّلت مركزاً تجارياً تَميَّز بتعدديته الثقافية المدهشة، على ما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الأثرية التي تعود إلى تلك الحقبة، ومنها مجسّم من الطين المحروق يمثّل ملكاً مستوياً على عرش كبير، في قالب يجمع بين العناصر الفارسية الشرقية التصويرية والأسلوب اليوناني الغربي الكلاسيكي.

يعود اكتشاف هذا المجسّم إلى عام 1961، يوم كانت بعثة دنماركية تعمل على استكشاف جزيرة فيلكا منذ شتاء 1958، وهو من الحجم الصغير، وفقاً للتقليد المتَّبَع في نتاج التماثيل المصنوعة بتقنية الطين المحروق، وقد وصل بشكل مجتزأ، ويبلغ طوله 24 سنتيمتراً، وعرضه 17 سنتيمتراً، وهو على الأرجح من نتاج النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد. عُثر على هذا التمثال ضمن مجموعة من اللقى في التل المعروف باسم تل سعيد، حيث كشفت الحفائر عن قلعة يونانية الطابع تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، يحيط بها خندق، وتضم معبدين ومجموعة من المساكن.

خرج هذا التمثال من مسكن يقع عند جنوب معبد القلعة الكبير، وحسب التعريف المختصر الذي جاء في التقرير الخاص باكتشافات البعثة الدنماركية، عُثر على رأسه في ركن من هذا المسكن، وعُثر على جسمه في ركن آخر، وتمّ تركيب الرأس على الجسم «فكان مكملاً للتمثال». جمع رأس هذا المجسّم بين تقنية الصبّ في قالب جاهز، أي القولبة، وتقنية النقش اليدوي الحرفي التي تَبرز في إضافة عناصر أخرى مستقلة إلى الكتلة المقولبة، وتتمثّل هذه العناصر المضافة حرفياً في لحية وشاربين وتاج كبير فُقد الجزء الأعلى منه للأسف، وهي العناصر التي أسبغت على هذا الرأس طابعاً ملكياً.

يحضر هذا الملك جالساً على عرش بقي منه ظهره، ويتميّز هذا الظهر بحجمه الكبير، وهو على شكل كتلة مسطّحة، تحدّه مساحة مستطيلة أفقية ناتئة، وأخرى عمودية مماثلة. يخرج هذا العرش المجتزأ عن النسق اليوناني الغربي، ويشابه في تكوينه العرش الفارسي الشرقي المعروف بـ«التخت». تتأكّد هذه الهوية الشرقية الظاهرة في سمات وجه التمثال، كما في طراز اللباس الذي يكسو جسمه. في المقابل، يحاكي تجسيم هذا الوجه المثال الواقعي الحسي الذي شكّل أساس الجمالية الكلاسيكية اليونانية، غير أن سماته تخرج في ظاهرها على الأقل عن هذا المثال، كما يشهد الشاربان العريضان اللذان يحجبان شفة الفم العليا، واللحية الطويلة التي تنسدل على أعلى الصدر، وتؤلف مثلثاً تزيّنه خطوط غائرة ترسم خصلاً من الشعر. تعلو الرأس خصل أخرى مشابهة، تتبع كذلك الطراز الواقعي، مع شق في الوسط يفصل بين كتلتين متوازيتين تشكلان قوساً حول الجبين. يعتمر هذا الملك تاجاً عريضاً يستقر فوق قاعدة عريضة على شكل إكليل هلالي. الجزء الأعلى من هذا التاج الضخم مبتور، مما لا يسمح بتحديد طرازه الأصلي، والأكيد أنه تاج شرقي فارسي، قد يكون مسطّحاً وفقاً للطراز الذي عُرف به ملوك برسبوليس في زمن الإمبراطورية الفارسية الأولى المعروفة بالأخمينية، أو مسنّناً وفقاً للطراز الذي يُعرف بالقبعة الفريجية، نسبةً إلى إقليم فريجيا في الوسط الغربي من الأناضول، وهي القبعة المخروطية الشكل التي عُرف بها الفرس القدماء، وباتت رمزاً من رموزهم في الفنون الهلينية والهلنستية. يتجلّى هذا الطابع الشرقي في زيِّ هذا الملك المؤلَّف من رداء قصير يحده حزام عريض معقود حول الوسط يتدلى منه طرفاه، وبنطال فضفاض يكسو الساقين، إضافةً إلى معطف يلتفّ حول الحوض والفخذين. تكتمل هذه الحُلَّة الشرقية مع ظهور قطر يزين كل أذن من الأذنين، وفقاً للتقليد الذي عُرف في العالم الفارسي القديم.

الذراع اليمنى مرفوعة نحو الأمام، غير أن نصفها الأسفل مبتور، والذراع اليسرى ملتصقة بالصدر، ويدها مبتورة. وتوحي حركة اليدين بأن هذا الملك يقبض بيده اليمنى على صولجانه، ويمسك بيده اليسرى برعم زهرة اللوتس، وفقاً للتقليد الذي عُرف به ملوك برسبوليس، غير أن هذه القراءة تبقى افتراضية بسبب فقدان يدي التمثال. يبدو هذا الملك شرقياً في الظاهر فحسب، إذ إن الأسلوب المتَّبَع في التجسيم والنحت والصقل يبدو يونانياً بشكل لا لبس فيه. في العالم الفارسي، كما في العالم الشرقي المتعدد الأقاليم، لا تلتفّ الأثواب حول الأجساد التي تلبسها، بل تحجبها وتتحوّل إلى نظام هندسي من النقوش والزخارف الهندسية. تحافظ هذه الزخارف على صورتها المسطحة، فلا تخضع لاستدارة مفاصل الجسد وأعضائه، بل تُبقي تناسقها الدقيق، فيغيب الجسد ويتحوّل إلى عمود يحمل الوجه. على العكس، يبرز هذا الجسد في العالم اليوناني، وتتبع ثنايا اللباس تكوينات مفاصله بشكل واقعي، وفقاً للمثال المادي المحسوس الذي شكّل أساساً للكلاسيكية الغربية. من هنا، يبدو ملك فيلكا هلنستياً في الدرجة الأولى، رغم معالمه الشرقية الظاهرة، ويعكس حضوره اتجاهاً فنياً يشهد لافتتان اليونانيين القدماء بفنون أعدائهم الفرس وبتقاليدهم العابرة للحدود الجغرافية. شكّل هذا العالمان على المستوى الحضاري ثقافتين متضادتين على جميع الأصعدة، ورأى اليونانيون أن انتصارهم على عدوّهم الذي تفوّق عليهم في القوة والبذخ والترف كان انتصاراً لديمقراطيّتهم، غير أن هذا الانتصار لم يمنعهم من الانبهار بهذا الخصم «البربري»، والسير على خطاه في هذا الميدان. ويتجلّى هذا الانبهار بشكل لافت في شهادة شيخ المؤرخين الإغريق هيرودوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ونقل فصول هذه الحرب في موسوعته المعروفة بـ«تاريخ هيرودوت».

بلغت هذه «التبعية» الثقافية ذروتها في عهد الإسكندر الكبير وورثته، وأدت إلى ولادة تقاليد فنية زاوجت بين الأساليب الفارسية والقوالب اليونانية في المرحلة الهلنستية. بلغت هذه التقاليد الجديدة نواحي متباعدة جغرافياً، وشكّلت استمرارية للأنماط الفارسية في ميدان الفنون اليونانية التي تبنّتها وأسبغت عليها طابعاً مبتكراً. في هذا الميدان، يبرز ملك فيلكا الذي تبقى هويّته مجهولة، ويحضر مثالاً يشهد لهذا التزاوج الحضاري في هذه البقعة الواقعة في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي.



«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

وفود من المدارس المغربية تزور المعرض
وفود من المدارس المغربية تزور المعرض
TT
20

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

وفود من المدارس المغربية تزور المعرض
وفود من المدارس المغربية تزور المعرض

شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، ومن مختلف مدن المغرب قدموا إلى الرباط وتمركزوا في ساحة «أو إل إم» بالسويسي يقودهم شغف البحث، ويسترعي اهتمامهم برنامج متنوع ضم أكثر من 240 فعالية ثقافية من ندوات وتقديم كتب وحوارات مفتوحة ومسابقات وجلسات تكريم، وبمشاركة كبيرة من مئات الناشرين المغاربة والأجانب الذين توافدوا من 48 بلداً. الدورة الحالية بدأت بافتتاح رسمي حضره الأمير مولاي رشيد والشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، احتفاءً بحضور إمارة الشارقة ضيفَ شرفٍ للنسخة الثلاثين من معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب.

هذه المناسبة شكَّلت فرصة لتسليط الضوء على العلاقات الثقافية التاريخية بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية؛ حيث خصَّص فضاء العرض عدداً من الأجنحة لألبومات الصور والوثائق الرسمية التي تؤرخ لبدايات التواصل الثقافي والمراحل المختلفة من هذه العلاقة العريقة بين بلدين عربيين متباعدين جغرافيّاً، لكن بقواسم ثقافية مشتركة. وباعتبارها ضيف شرف الدورة، كان برنامج الشارقة الأكثر تنوعاً بين جميع الضيوف، إذ تضمن أكثر من 50 فعالية مزجت بين أماسي الشعر والجلسات الفكرية واللقاءات التواصلية بين المبدعين والناشرين، إضافة إلى خلوات مطالعة وورشات كتابة خُصصت لصقل مهارات اليافعين من طلاب المدارس والقراء الشباب.

الإقبال على الكتب المعرفية التي لها علاقة مباشرة بالتحصيل المدرسي والبحوث الأكاديمية كان كبيراً، حسب ما أفاد به العارضون المرتبطون بالمؤسسات التعليمية والمكتبية المشاركة، مؤكدين الحضور القوي لكتب الجامعة داخل بنية العرض المقدَّم في أنشطة النشر لهذا العام. يُضاف إلى ذلك طلب كبير سُجل على كتب التنمية الذاتية، وكتب السرد من روايات وقصص قصيرة، وأجناس أخرى من التأليف. وكان من اللافت أن مساهمة الفئات الناشئة من الأطفال والشباب في نسبة الشراء كانت كبيرة، وهو ما له علاقة على ما يبدو بحجم التسويق الإعلامي الذي حظي به المعرض هذه السنة، إضافة إلى الدور الذي لعبته الشراكات المبرمة مع المؤسسات التعليمية ونسيج المجتمع المدني المرتبط بقضايا الطفولة والشباب في جذب أعداد كبيرة من قراء الجيل الجديد. ويفسر ذلك أيضاً ما لُوحِظ من تنافس تسويقي كبير بين دور النشر المشاركة، التي عززت من جماليات فضاء العرض بألوان وتصاميم مميزة للكتب، واشتغال كبير على العناوين، وكذا اختيار أجناس محددة من المؤلفات ذات الطابع التشويقي من روايات عالمية مترجمة وأخرى عربية وكتب فلسفية تضع على صفحتها الأولى أسئلة كبرى مكتوبة بخط عريض، ودواوين شعر لأسماء معروفة وغير ذلك من أساليب إغراء القراء العامين الذين يشكلون في الغالب معظم الزوار المعنيين باقتناء ما يُعرض.

حفلات التوقيع كانت صاخبة هذه السنة، وتوزعت أشكالها بين جلسات محورية لتقديم بعض الكتب المنتقاة ومناقشة محتواها؛ حيث اعتمدها المعرض ضمن برنامجه الرسمي. وانتهت بتوقيع النسخ وإهدائها للحضور، وأخرى نظّمتها دور النشر لفائدة كُتابهم الذين نجحوا في استقطاب زبائن لكتبهم المطبوعة حديثاً، فوجدوا ضالتهم في قراء تجمعهم بهم في الغالب علاقة الأستاذية، من قبيل طلبة الجامعات والباحثين الشباب الذين حضروا كي يحظوا بنسخ موقعة من كتب أستاذتهم. وفي الجانب المقابل، كانت هنالك حفلات توقيع أخرى نخبوية ونوعية، وقّع فيها شعراء وروائيون كتبهم لأصدقاء معدودين تجمعهم بهم تجربة الكتابة ممن جاءوا تكريماً للصداقة وللمنجز الإبداعي المشترك.

اللقاءات الفكرية في فضاء الندوات حظيت بين جميع الأنشطة التفاعلية بالنصيب الأكبر من متابعة الزوار، فبين قاعة «حوار» «وتواصل» و«أفق» نوقشت قضايا كثيرة محلية وعربية وعالمية، وأجريت حوارات مع كتاب وفنانين من أسماء بارزة في عالم الأدب والفلسفة والتاريخ وغيرها من حقول المعرفة الإنسانية. وفي هذا الاتجاه، كانت القضايا الراهنة في طليعة ما ركزت عليه فضاءات النقاش؛ حيث أعادت الأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية الجدل حول العدالة ومسألة المعايير الغربية المزدوجة في التعاطي مع الأحداث. حول هذا الموضوع، أعادت فعالية «ملتقى الكتاب» التي شارك فيها كل من الكاتب والناقد السوري صبحي حديدي والأكاديمي المغربي أنور المرتجي الذي طرح سؤال «الحاجة إلى فكر إدوارد سعيد»، في ظل المتغيرات في الرأي العام الغربي والتسويق الإعلامي المنحاز اتجاه قضايا المنطقة، لا سيما بعد أحداث غزة الأخيرة.

في الاتجاه ذاته، أُقيمت ندوة حملت عنوان «الإبداع الفلسطيني في مواجهة سياسة المحو»، وأثث نقاشها كل من الشاعر والناقد محمد بنيس والمفكر عبد الإله بلقزيز، اللذان حاورهما الإعلامي والشاعر ياسين عدنان حول دور الإبداع الأدبي والفني الفلسطيني في بناء الشخصية الفلسطينية التي احتفظت بكيانها الخاص وقاومت بقوتها الفنية المحتل ومحاولاته للتجاوز الهوياتي والمحو الثقافي.

وفي جلسة حوار أخرى اختار منظموها عنوان «الجماليات ومأزق العالم»، استعرض المغني والعازف اللبناني مارسيل خليفة جانباً من مشاغله الفنية على الصعيدين الفكري والوجداني؛ حيث بدأ بالتأكيد على أهمية القلق في التكوين النفسي للمبدع، ثم انتقل من الخاص للعام، حين شدد على أهمية أن تضطلع الموسيقى بمهمة المواجهة والسعي المستمر للتغيير.

على هذا النحو أيضاً ساهمت مؤسسات أخرى محلية ودولية من قبيل «إيسيسكو» والمجلس الوطني لحقوق الإنسان بعدد معتبَر من الأنشطة الحوارية التي زادت فضاء النقاش تنوعاً وثراء، فقدمت الأولى في ندوة رئيسية لها مفهوم الدبلوماسية الحضارية، واستعرضت الثانية الحق في المدينة وتحولات العمران.

وفي ظل توطد العلاقة بين المغرب وفرنسا ثقافياً ودبلوماسياً، وما صاحب ذلك من اتفاقيات الشراكة والزيارات المتبادلة بين وزيري الثقافة في البلدين، خصوصاً بعد حضور المغرب ضيف شرف لمعرض باريس للكتاب قبل أسابيع، ارتفع أداء الأروقة المخصصة للمكتبات الفرنكوفونية من حيث المشاركة والعدد، كما تعزز حضور الفعاليات الثقافية والحوارية وجلسات تقديم الكتب باللغة الفرنسية بشكل لافت، لعل توقيع اتفاقية أرشيفية بين مؤسسة «أرشيف المغرب» والمدرسة الوطنية للمواثيق بفرنسا داخل فضاء المعرض كان علامة من علامات تنامي التعاون الثقافي بين فرنسا والمغرب.