«كتاب الشعر»... من ملحمة جلجامش إلى ديريك والكوت

اشترك في وضعه 13 ناقداً وباحثاً وأستاذاً جامعياً

«كتاب الشعر»... من ملحمة جلجامش إلى ديريك والكوت
TT

«كتاب الشعر»... من ملحمة جلجامش إلى ديريك والكوت

«كتاب الشعر»... من ملحمة جلجامش إلى ديريك والكوت

لماذا كانت القافية والتكرار والروي من الأمور المهمة في الشعر؟ ما الفرق بين شكل سوناتة (قصيدة من أربعة عشر بيتاً) للشاعر الإيطالي بترارك، وسوناتة بالعدد نفسه من الأبيات للشاعر الإنجليزي شكسبير؟ لماذا تُعد قصيدة ت. س. إليوت «الأرض الخراب» من أهم وثائق الحداثة في شعر القرن العشرين؟ هذه وغيرها أسئلة يجيب عنها «كتاب الشعر» (The Poetry Book) الذي يمثل جهداً جماعياً، إذ لا يحمل اسم مؤلف أو محرر، وإنما اشترك في وضعه ثلاثة عشر ناقداً وباحثاً وأستاذاً جامعياً، وصدر في لندن خلال العام الماضي 2023، عن دار «دورلنج وكندرسلي» للنشر في 336 صفحة، في إخراج طباعي جميل مُحلى بصور ملونة تضم صوراً فوتوغرافية لعدد من الشعراء وأغلفة دواوينهم، ولقطات من أفلام، ولوحات من الفن التشكيلي بريشة كبار الفنانين.

يقدم الكتاب أهم نماذج الشعر العالمي بمختلف اللغات، شرقاً وغرباً، منذ ملحمة جلجامش السومرية، من الألفية الثانية قبل الميلاد حتى يومنا هذا. وينقسم الكتاب زمنياً إلى ستة أقسام تحمل هذه العناوين: أساطير وأبطال، عالم العصور الوسطى، الإحياء والميلاد الجديد، العقل والجليل، العصر الحديث، حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية والحقبة المعاصرة، مع نماذج من شعر كل قسم.

أساطير وأبطال (نحو 2100 ق.م - نحو 700 م)

تمثل هذه الحقبة طفولة الإنسانية وخطوها نحو الرشد، وتجسد ميل الإنسان الغريزي إلى الحكي والجمع بين معطيات الواقع وسبحات الخيال. وقد وصلتنا آثارها في هيئة لوحات طينية من بلاد ما بين النهرين، وصلوات وترانيم وأهازيج فولكلورية من الصين، وملحمة مهابهاراتا السنسكريتية، وملحمتيْ هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسا»، وقصائد سافو أول شاعرة إغريقية عظيمة، وأناشيد الشاعر الإغريقي بندار، وأناشيد الشاعر اللاتيني هوراس، وسفر «نشيد الإنشاد» في «العهد القديم» من الكتاب المقدس، وكتاب «التحولات» (أو «مسخ الكائنات» بترجمة الدكتور ثروت عكاشة) للشاعر اللاتيني أوفيد.

من أقدم هذه الآثار ملحمة جلجامش التي تحمل اسم بطل سومري كان ملكاً على مملكة أوروك، بعد طوفان اجتاح الأرض (للملحمة ترجمة عربية بقلم طه باقر، وأخرى بقلم عبد الغفار مكاوي). عندما بلغ جلجامش طور الرجولة، استعاد مملكته بعد حصار طويل. واتسمت الفترة الأولى من حكمه لها بالصرامة والقسوة فجلب له سكان المملكة رجلاً يُدعى إنكيدو كي يصرفوه عن البطش بهم. ونشأت صداقة عميقة بين الرجلين، كانا يذهبان معاً إلى الغابات لقطع الأشجار كي يزوّدا المدينة بما تحتاج إليه من أخشاب. ولكن الكوارث لا تلبث أن تنهال على المدينة، خصوصاً بعد أن بعثت الإلهة عشتار بثور السماء الذي يتسبب في جفاف الأرض سبع سنوات. ويلقى إنكيدو مصرعه فيضحى جلجامش وحيداً. وينطلق باحثاً عن حكمة الأسلاف، ويخوض عدة مغامرات قبل أن يقفل راجعاً إلى مملكته.

عالم العصور الوسطى (نحو 700 م- 1450 م)

غلب الطابع الديني - إلى جانب قصائد البطولة والفروسية - على شعر هذه الفترة. وضمت ملحمة أنجلو-سكسونية عنوانها «بيولف» عن بطل يصرع وحشاً بحرياً، وقصائد صينية من عصر أسرة تانج الملكية في القرن الثامن، وقصائد يابانية، وأشعار التروبادور في بلاط الأمراء الإقطاعيين في جنوب فرنسا وأجزاء من إيطاليا وإسبانيا، وترانيم دينية في مدح السيدة العذراء مريم والسيد المسيح، وغزليات الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي، وقصيدة دانتي «الكوميديا الإلهية» بأجزائها الثلاثة (الجحيم، المطهر، الفردوس)، وقصيدة تشوسر القصصية «حكايات كانتربري».

وفي الصين أخرج الشاعر لي باي قصيدته المسماة «قتال» (نحو عام 750 م) في عصر أسرة تانج الملكية (618- 907) وهو العصر الذهبي في تاريخ الفن والأدب في الصين. وكان لي باي - وكذلك صديقه دوفو- أبرز شعراء ذلك العصر، كتبا عن الصداقة والأسفار وعن خبراتهما الشخصية.

كان لي باي من رجال الفعل قبل القول؛ فهو فارس بارع في المبارزة والصيد وركوب الخيل. ولكنه - وهنا المفارقة - كتب قصيدته «قتال» ليدين الحرب ويبين ما تنطوي عليه من غباء وقصر نظر، وكيف أنها لا تخلف إلا جثثاً: «الغربان والصقور تنقر أحشاء الآدميين/ وتحملها معها في مناقيرها». فالحرب عنده عقيمة بلا معنى لا بطولة فيها.

الإحياء والميلاد الجديد (1450- 1700)

هذا هو عصر النهضة الأوروبية الذي شهد إحياء لآثار الإغريق والرومان، وازدهاراً للفنون من تصوير ونحت وموسيقى. وأهم معالمه ملحمة «جنون أورلاندو» للشاعر الإيطالي آريوستو، وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي التي قادها مارتن لوثر ضد البابوية الكاثوليكية، وازدهار المسرح في عصر الملكة إليزابيث على أيدي كريستوفر مارلو وشكسبير وبن جونسون، وترانيم القديسة تريزا الأبيلية في إسبانيا، وظهور أول شاعرة أمريكية في العالم الجديد هي آن برادستريت في القرن السابع عشر، وملحمة ملتون «الفردوس المفقود»، وقصائد الهايكو (شعر غنائي من سبعة عشر مقطعاً) للشاعر الياباني باشو.

وتبرز في هذه الفترة ألغورية (أمثولة رمزية) شعرية للشاعر الإنجليزي إدموند سبنسر هي «ملكة الجان» (أو بترجمة لويس عوض: «الملكة الحورية») (1552- 1599). وملكة الجان رمز للعذرية والنقاء يقصد بها الشاعر هنا الملكة إليزابيث التي لم تتزوج ولم تعقب ولداً. ويعمد سبنسر إلى التوفيق بين الأضداد: الماضي والحاضر، والوفاق والشقاق، الخير والشر، الزمن والأبدية، النور والظلمة، مستخدماً منهج القص الرمزي ومستوحياً العديد من المصادر الأدبية: «تحولات» أوفيد الأسطورية، ومواضعات الشعر البطولي، والرومانثه (قصص العاطفة والمغامرات).

العقل والجليل (1700- 1900)

القرن الثامن عشر هو عصر التنوير الذي حمل لواءه رجال من طراز كانط وجوته في ألمانيا، وفولتير وروسو وديدرو ومونتسيكو في فرنسا، وإدوارد جبون وألكسندر بوب وصمويل جونسون وديفيد هيوم في بريطانيا.

وقد فرق بعض مفكري ذلك العصر – كالفيلسوف والسياسي الآيرلندي إدموند بيرك - بين «الجميل» و«الجليل»، وهما في فلسفة الجمال يشيران إلى الأشياء الرقيقة المرهفة، مثل زهرة أو حلية ذهبية دقيقة الصنع من ناحية، والأشياء التي توقع الرهبة في النفس بجلالها وعظمتها مثل بحر هائج أو هوة سحيقة أو جبل شاهق من ناحية أخرى. وانعكست هذه التفرقة على الشعراء فمنهم من صور ما هو جميل مثل كيتس، ومن صور ماهو جليل مثل وردزورث.

ومن آثار النصف الأول من القرن التاسع عشر الشعرية «يوجين أوينجين» (1833) للشاعر الروسي ألكسندر بوشكن وهي رواية منظومة (حدثني الشاعر صلاح عبد الصبور يوماً أنه ينوي أن يكتب رواية منظومة، ولكن العمر لم يمتد به حتى يحقق هذه الرغبة).

العصر الحديث (1900- 1940)

شهدت هذه الفترة حربين عالميتين وصراع الآيديولوجيات ما بين رأسمالية وشيوعية ونازية وفاشية، وظهور أعمال شعرية كبيرة لإليوت وييتس وباوند، و«مراثي قلعة دوينو» للشاعر الألماني ريلكه، وقصيدة «المقبرة البحرية» للشاعر الرمزي الفرنسي بول فاليري، واستيحاء الشاعر الإسباني لوركا لموروث الأندلس وقصائد الغجر، والشعراء الأفرو- أمريكيين في هارلم بمدينة نيويورك، وقصائد و. ه. أودن التي أرَّخت للحرب الأهلية الإسبانية واندلاع الحرب العالمية الثانية.

ومن أبناء العصر الحديث الشاعر البنغالي رابندرانات طاغور أول شاعر آسيوي يحصل على جائزة نوبل للأدب في 1913. ومن أعماله التي أهلته للحصول على تلك الجائزة: ديوان «جتنتجالي» (ومعنى الكلمة: «القربان الغنائي»). يضم الديوان 130 قصيدة أشبه بقرابين تعبدية يتقدم بها الشاعر إلى الله. ولكنه يعالج أيضاً موضوعات من قبيل: الطبيعة والحب والفراغ والفقدان. ولا تخلو بعض القصائد من هجاء ساخر لنقائص البشر.

حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية والحقبة المعاصرة (1940- الحاضر)

هذه خاتمة المطاف في رحلتنا مع الشعراء، شهدت هذه الحقبة ازدهاراً للشعر في أسكوتلندا وويلز وآيرلندا، والشعر الزنجي تزامناً مع سعي بلدان أفريقية إلى الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي، وشعراً اعترافياً أميركياً لأمثال روبرت لويل وسيلفيا بلاث، وثقافة - ضد يمثلها متمردون على الحضارة الغربية - وقصائد الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا النابعة من معاناتها في ظل ديكتاتورية ستالين، وروايات الكاتب النيجيري تشنوا آتشتى على وقع حرب بيافرا 1967- 1970، والشعر النسوي المتمرد على القيم الأبوية، وشعراء من منطقة البحر الكاريبي.

يمثل هذه الفئة الأخيرة الشاعر ديريك والكوت الحاصل على جائزة نوبل للأدب في 1992 وقد ولد في جزر الهند الغربية (جزر الأنتيل الصغرى) منحدراً من سلالة تمتزج فيها الدماء الزنجية والهولندية والإنجليزية. ومن أهم قصائده قصيدة «أوميروس (هوميروس)» (1990) وهي قصيدة ملحمية طويلة، غنائية الطابع تدور أحداثها في منطقة البحر الكاريبي قبل مقدم الكولينالية الغربية وفي أثنائها وبعدها. إنها صورة تجمع بين الجمال والألم، خاصة صدمة نظام الرق. وتبدأ بوصف حي لمجموعة من الصيادين تقطع الأشجار لتصنع منها زوارق للصيد.

والقصيدة مقسمة إلى سبعة كتب تضم أربعة وستين فصلاً. وكل فصل مقسم بدوره إلى ثلاثة أناشيد متفاوتة الطول، وكل أنشودة مكونة من مقطوعات من ثلاثة أبيات على نحو ما نجد في كوميديا دانتي الإلهية. والأبيات سداسية التفاعيل بمعنى أن كل بيت يحتوي على ست نبرات، والقوافي متنوعة.

وينتهي «كتاب الشعر» – أي ثروة باذخة!- بتعريفات قصيرة بأعمال شعراء آخرين مثل هسيود (اليونان)، وكاتولوس (روما)، ورونسار (فرنسا)، وهايني (ألمانيا)، وكافافي (اليونان/ الإسكندرية)، وجابر يلا ميسترال (شيلي) مع ثبت بأهم المصطلحات النقدية، وتراجم قصيرة لسير الشعراء، مما يجعل من الكتاب واحداً من أهم الإصدارات وأكثرها جاذبية - شكلاً ومضموناً - في السنوات الأخيرة.


مقالات ذات صلة

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

ثقافة وفنون أراغون وإلزا

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تقع عيناك على كتاب معرّب، وله سابق ترجمة، هو: ما جدوى الجهد المبذول لمرة جديدة؟

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون «جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

«جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

ربما تأخر صدور روية فاضل خضير «الضحايا» (دار سطور، بغداد) كثيراً إلا أنّ كتابتها تعدُّ درساً خاصاً في مراجعة القطوعات التاريخية في العراق الحديث

محمد خضير سلطان
ثقافة وفنون كانط

إيمانويل كانط... كتب غيَّرت خريطة الفكر البشري

تحتفل ألمانيا هذا العام بمرور ثلاثمائة سنة على ولادة مفكرها الأعظم: كانط. ولكن هل هو أعظم من هيغل؟ كلاهما عظيم.

هاشم صالح
ثقافة وفنون «الفجيعة»... رواية ترصد التاريخ الألماني بحس شاعري

«الفجيعة»... رواية ترصد التاريخ الألماني بحس شاعري

حظيت هذه الرواية الصادرة عن دار «الكرمة» بالقاهرة باحتفاء لافت في الصحافة الغربية، باعتبارها أحد أهم الأعمال الأدبية الصادرة في ألمانيا بالسنوات الأخيرة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «عالمية الثقافة العربية» لمحمد غبريس

«عالمية الثقافة العربية» لمحمد غبريس

ضمن مشروعها الثقافي بـ«طباعة المنجز الإبداعي العربي (طبعة بغداد)»، صدر حديثاً عن سلسلة «ثقافة عربية»

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

أراغون وإلزا
أراغون وإلزا
TT

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

أراغون وإلزا
أراغون وإلزا

أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تقع عيناك على كتاب معرّب، وله سابق ترجمة، هو: ما جدوى الجهد المبذول لمرة جديدة؟ هذا أول ما تطرحه على نفسك، حين تمسك بديوان «عيون إلزا» للشاعر الفرنسي الشهير لويس أراغون، وهو يصدر طازجاً بقلم فارس يواكيم، عن «دار أطلس للنشر والتوزيع» في دمشق.

تسارع إلى القراءة لترى أهم ما أضاف، وما حذف، لتكتشف أنه جاء من الديوان بنسخة عربية جديدة، أهم ما فيها سلاسة اللغة، وجمالية الموسيقى والإيقاع، وتلك الدقة في متابعة وشرح الكلمات التي يصعب على القارئ معرفة خلفياتها. أضف إلى ذلك، المقدمة الوافية، وشروحات تتصدر غالبية القصائد، واضعة القارئ في أجواء الأبيات، ومناسبتها، مع إيضاح لأهم عناصرها، هذا عدا الهوامش. كل ذلك يجعل القارئ العربي ليس فقط مستمتعاً بقراءة قصائد منسابة، لكنه أيضاً يجعله مكتسباً زاداً تاريخياً مهمّاً، حول الظروف السياسية التي كانت تعيشها فرنسا، في ذلك الوقت، والحالة الشعورية العصيبة لصاحب الديوان، الذي أكثر ما يعرف عنه بين قراء العربية هو عشقه لإلزا تريوليه، تلك المرأة التي كتب فيها قصائده، واقترن اسمها بعناوين أربعة من دواوينه: «عيون إلسا»، و«إلسا»، و«ما كانت باريس لولا إلسا»، و«مجنون إلسا». وليس غريباً بعد ذلك أن يُعرف أراغون بـ«مجنون إلسا»، وتَنصبُّ غالبية الكتابات على تمجيد هذا الحب الخالد الذي يستحق أن يُسال من أجله كثير من الحبر.

لكنَّ فارس يواكيم في ترجمته لـ«عيون إلزا» من خلال مقدمته والشروحات، لا يميل إلى اعتبار أراغون شاعر حب وعشق وغزل، بقدر ما يُظهر روحه الوطنية المناضلة، المستبسلة في سبيل حرية فرنسا. ويقول يواكيم لـ«الشرق الأوسط»: «غير صحيح أنه كان شاعر حب وغزل أولاً. لقد عاش أراغون مناضلاً انضم إلى الحزب الشيوعي عام 1927، وبقي فيه فاعلاً، ملتزماً، ومنتمياً كعضو في الحزب لغاية وفاته. علماً بأن عديداً من زملائه الشيوعيين، كانوا قد انسحبوا، في تلك الفترة على اعتبار أن ستالين كان ديكتاتوراً، وهو ما لا يتناسب مع توجهاتهم. بعد سنة من انخراطه في الحزب التقى إلزا، ونشأت بينهما صداقة فعلاقة حب، فزواج عام 1939. «واحدة من ميزات أراغون الأدبية، هو أنه استطاع أن يستفيد من الغزل الذي يحبه الناس، ليمزجه بروح المقاومة، ويجعلها قريبة من الذائقة العامة، وهذا نلحظه في كثير من قصائده»، حسبما يقول يواكيم. فغاية أراغون، على ما يشرح نفسه، أن يكون شاعر الشعب وليس شاعر النخبة، ولربما ليس أفضل من الغزل للوصول إلى قلوب الجماهير، ليتمكن من تحميسهم للحاق بركب المقاومة، وطرد المحتلين.

عاش لويس أراغون خمسة وثمانين عاماً (1897 - 1982)، إضافةً إلى كونه شاعراً مبدعاً وناقداً وقاصّاً وصحافياً، كان مناضلاً وصاحب مواقف ومبادئ، وهو ما يُظهره الديوان بوضوح، ويركزّ عليه المترجم في شروحاته الجليلة.

بعد زواجه من إلزا نشبت الحرب العالمية الثانية، وانخرط أراغون مقاتلاً متطوعاً ومحارباً ضد النازية، وقد اعتُقل وسُجن ولاذَ بالفرار وأمضى النصف الثاني من سنوات الحرب في جنوب فرنسا، حيث استولت حكومة فيشي على الشمال، والمقاومة الشعبية على جنوب البلاد.

وشاءت الظروف قبل ذلك أن يقاتِل كمجند في الجيش الفرنسي، وكان لا يزال في السابعة عشرة من العمر، خلال الحرب العالمية الأولى. «لقد كان منخرطاً كعسكري، خاض الحروب من أجل تحرير بلاده. ومن الظلم أن نتجاهل كل هذا التاريخ، والقتال في ساحات المعارك، والتضحية بالنفس، ونعدّه مجرد عاشق إلزا». يضيف يواكيم: «إن شعر أراغون فيه حب فظيع لفرنسا، وكمٌّ هائل من الوطنية، وحسٌّ عالٍ بالتضحية والإباء».

شاعر وطني ملتزم الفكر اليساري، اتخذ من الحب ركيزة جميلة ليدخل إلى هدفه الأساسي، وهو مقاومة المحتل النازي. ومما هو معروف عنه كحزبيّ أنه كان يحرص سنوياً على أن يكون حاضراً في عيد الحزب الشيوعي السنوي الكبير، الذي يقام في باريس، ويجمع اليساريين، وذلك كنوع من الدعم الشخصي من أراغون للحزب.

ديوان «عيون إلزا» أو «عينا إليزا» أو «إلسا» كما يكتبها البعض، سبق وتُرجم بعض قصائده متفرقةً إلى العربية، أما ترجمته الكاملة فقد قام بها شاعر العامية المصري فؤاد حداد، ولا توجد ترجمة أخرى. لكنَّ التعريب لم يرُقْ لفارس يواكيم، حين اطلع عليه، لذلك لم يتردد في أن يُقبل على ترجمة جديدة بكل ما أوتي من حماسة. فهو يرى أن حدّاد «وقع في مطبات كثيرة، ووقف في أحيان عدة عند المعنى الأول أكثر مما اهتم بالمجاز، مع أنه شاعر رائع، ويجيد الفرنسية بشكل ممتاز».

وبالفعل بالمقارنة بين الترجمتين، تشعر كم أن ما وضعه حدّاد قد ضيّع كل شعرية وانسيابية في شعر أراغون، حتى إنك تفقد الرغبة في استكمال القراءة. ثمة معانٍ غامضة وغير مفهومة، وأخرى تُرجمت حرفياً، وفقدت أي رابط بما قبلها أو بعدها. فيما حرص يواكيم، رغم أنه تخلى عن الوزن في ترجمته، على سلاسة، وشاعرية، وموسيقى داخلية عذبة. وازن يواكيم بشكل لافت بين المعنى البسيط والواضح الذي يحترم الأصل والأسلوب العذب الدفاق الذي لا يعكّر ذهن القارئ ويربكه، وهذا يُكتب له. فليس شائعاً أن تقع على ترجمة شعرية عربية فيها هذا الكم من احترام المعنى الأصلي مع الحرص على إبقاء الشعرية نابضة في القصائد.

في أثناء حديثنا معه، يعطي فارس يواكيم أمثلة عدة، على السقطات التي وقع فيها حداد، من بينها أنه ترجم تعبير «رأس عصفور» بالفرنسية حرفياً، مما جعل الجملة تفقد معناها، مع أنه تعبير معروف لدى الفرنسيين يعني «الطائش» أو «الهائج». هذا عدا أن حداد لم يصدّر ترجمته بمقدمة توضح رؤيته للديوان، وهناك قصيدة تركها بلا عنوان، وثمة أخطاء لغوية، كان يمكن تلافيها بسهولة، بمراجعة النص.

يُعيد يواكيم بعض الأخطاء التي ارتُكبت إلى خيار فؤاد حداد أن يُعرّب الديوان كله على التفعيلة. هذا ضَيَّق أمامه خيارات الترجمة. ففي إحدى القصائد ترجم (النبيذ الأبيض) بأنه (نبيذ أحمر) مع أنه غير مضطر إلى ذلك. وفي أحد المواقع استخدم عبارة (قبعات مثل الأرز) متأثراً بعبارة (زي الرز) المصرية التي تعني الكثرة، فيما ارتأى يواكيم أثناء ترجمته أن يبسّط الأمر ويلجأ لعبارة (قبعات لا حصر لها) للدلالة على كثرتها. هذا عدا أن الترجمة لم تلقَ العناية الكافية بعد الطباعة وقبل النشر، ولم تخضع للتدقيق اللازم.

تستغرب حين تعرف أن فارس يواكيم الذي أصدر عديداً من الكتب في السنوات الأخيرة، كان قد عكف على ترجمة ديوان «عيون إلزا» عام 1976، أي بعد عام واحد على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. ترجمه حينها ووضعه جانباً، وهو لا يزال ينقّحه إلى أن وصل إلى الصيغة التي بين أيدينا اليوم. ويحتفظ اليوم بالدفتر الأول الذي سجل عليه ترجماته، وعليه التعديلات والتبديلات التي كانت تطرأ تباعاً، كلما اختمرت.

يكاد يكون نصف قرن قد مرّ على بدء الترجمة. أيُّ صبر؟ وأيُّ انتظار؟ هل يغيِّر الكثيرَ مرورُ زمن يساوي عقوداً على نص؟

تستغرب حين تعرف أن فارس يواكيم الذي أصدر عديداً من الكتب في السنوات الأخيرة، كان قد عكف على ترجمة ديوان «عيون إلزا» عام 1976 أي بعد عام واحد على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية

يروي لنا يواكيم أنه حار طويلاً كيف يترجم مطلع القصيدة الأولى في الديوان. في البدء ترجمها «عيناك عميقتان جداً». احتاج الأمر إلى تأمل طويل ليقرر أن يجعلها «عيناك ما أعمقهما» ويكمل: «حين انحنيت لأشرب، رأيت فيهما الشموس جميعاً جاءت تتمرى، وكل اليائسين يرتمون فيها منتحرين. عيناك ما أعمقهما... فيهما أفقد الذاكرة». تحرّره من التفعيلة سمح له بالتحرك في المفردات والجمل، ومنحه حرية.

يضرب يواكيم مثلاً قصيدة «البحيرة» للشاعر الفرنسي لامارتين. يقول إن نقولا فياض عرَّبها على أنها شعر عمودي ونجح أيّما نجاح، حتى كاد ما كتبه بالعربية يضاهي جمال نص لامارتين بالفرنسية، وذلك لأنه وجد مخرجاً ليمنح نفسه حيوية الحركة اللغوية، حين قال إنه ترجم القصيدة بتصرف.

كُتب عديدة لفارس يواكيم، كان قد تركها سنوات طوال لتختمر، بينها أنطولوجيا لقصائد ألمانية مترجمة إلى العربية، من لسينغ إلى بريخت، ستبصر النور قريباً. واللطيف أن يواكيم الذي كتب في مختلف الأصناف الأدبية، من المسرحية إلى السيناريو، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، لم يكتب الشعر، ومع ذلك كانت له جرأة ترجمة كبار الشعراء، وها هو يُصدر ديواناً للويس أراغون، ومن بعده سنقرأ له قصائد لكبار الشعر الألماني.