الشعر ملاذاً أخيراً

طلعت شاهين في ديوانه «تتعرى الأشجار من عصافيرها»

الشعر ملاذاً أخيراً
TT

الشعر ملاذاً أخيراً

الشعر ملاذاً أخيراً

بعد غياب طويل وانخطاف مباغت إلى عالم الترجمة والرواية، يعود طلعت شاهين إلى عالم الشعر بئره الأولى، بديوان يحمل عنوان «تتعرى الأشجار من عصافيرها»، صدر حديثاً عن «دار العين» بالقاهرة. لكن لماذا الحنين إلى الشعر، كأنه المخلص الذي يفتح للنفس نوافذ جديدة للتنفس والشعور بالأمان، بخاصة بعدما ارتعدت مفاصل العالم وضاقت أوردته، في مواجهة لحظة محفوفة بالمخاطر والألم، حبسته في قفص وباء «كورونا» على مدار شهور، ولا تزال آثارها ممتدةً إلى الآن. هذه اللحظة الشائكة يجسدها عنوان الديوان في دلالة فنية لافتة، فالوباء لم يكتفِ بحصد أرواح مئات الآلاف من البشر، إنما أصبح يهدد الطبيعة، العصافير والشجر، الغيم والمطر، وكل مظاهر الحياة.

في تلك اللحظة المجنونة تذكر طلعت شاهين أنه «شاعر العشق، العاشق المعشوق»، هكذا كان يطلق عليه أقرانه من شعراء السبعينات في مصر، لفتهم إلى ذلك أنه في قصائده البسيطة الحانية، كان دائماً يعزف على متوالية العشق لغوياً وجمالياً، موحداً ما بين حضور العشيقة في القصيدة وبين حضور الطبيعة، فكلاهما مرتكز للجمال وإثارة الدهشة والأسئلة.

في غمرة المزاح الذي يكشف عن محبة أقرانه الشعراء له، وأنا واحد منهم، خدعنا جميعاً، وفي صمت درس اللغة الإسبانية بالمركز الثقافي الإسباني بالقاهرة، مقرراً أن يوسع فضاء عشقه، ويكتسب له أرضاً وجغرافيا جديدتين، أكثر جرأة وانفتاحاً على المستوى الإنساني والعاطفي. في عام 1980 حط رحاله على شواطئ إسبانيا، وواصل دراساته الأكاديمية للقانون في رحاب جامعاتها حتى حصل على درجة الدكتوراه؛ كما حصل أيضا على الجنسية الإسبانية.

وسمت روح العاشق - ولا تزال - مسيرته في الحياة، ففي ظلالها عمل لفترة بالصحافة، وكتب الرواية والقصة وترجم أكثر من 24 كتاباً، من عيون أدب أميركا اللاتينية، من أبرزها مذكرات ماركيز «أن تعيش لتحكي»، و«الشعر النسائي في أميركا اللاتينية»، ورواية «المطر الأصفر» لخوليو يا ماثاريس... ويظل أجمل ما في هذه الروح العاشقة أنها بعفوية شديدة ساعدته في أن يتخفف من صرامة الأكاديمي المحترف، ليتعامل مع الحياة وكأنه هاوٍ، يتلمس أغصانها للمرة الأولى، وهو ما برز على نحو لافت في معظم هذه الترجمات.

شكل ديوانه الأول المشترك مع الشاعر أمجد ريان، وهما في باكورة خطواتهما الشعرية «أغنيات حب للأرض» صرخة عشق للجذور، وبرعم اتساع المسافة والزمن لم تبتعد هذه الروح عن أجواء ديوانه هذا الذي يعود به للشعر، فنحن إزاء ذات أصبحت محاصرةً، في أنفاسها وخطاها وهواجسها، لا ترى العالم إلا من وراء موانع وحواجز فرضتها حتمية التوخي والحظر للوقاية من براثن الوباء المسعور.

يستهل شاهين الديوان الواقع في مائة صفحة بقصيدة «لمن تدق الأجراس»، وفيها يبرز نوعٌ من التناص الناعم مع رواية همنغواي الشهيرة «لمن تقرع الأجراس» التي يصور فيها أهوال الحرب العالمية الثانية، وما ألحقته من دمار وخراب بالعالم، يقول في النص:

«لمن تدق الأجراس؟

سألوه ..

تلفّت الكاهنُ حوله،

تحسَّس حبلَ الجرس،

شاهد السكونَ يلفُّ أرجاء المكان؛

والمذبح خالٍ.

قال: لا أحد

الجميع غادروا دون وداع.

تركوني وحيداً مع الفراغ

تعويضاً عن الغياب

أدق الجرس

بحثاً عن ونس..»

لا يذهب كاهن الكنيسة إلى الحرب كما فعل بطل همنغواي، إنما يواجه حرباً خاصة مع الفراغ الموحش والقاتل، الذي يلف المكان، وأصبحت مقدرته على شد حبل الجرس هي مقياس وجوده، وعلامة على أنه حي.

في القصيدة الثانية «كوفيد - 19»، التي تشعل نحو نصف مساحة الديوان، يتسع المشهد وتتنوع زواياه، وبعين الكاميرا تتجول القصيدة في كل دروب الحياة، راصدة ما طرأ عليها جراء هذا الوباء، في الشوارع والحدائق والمقاهي والحانات، تلتقط ما يدور على ألسنة المسؤولين السياسيين ورجال الشرطة والجيش من همهمات وإشارات مرتجفة وعابرة، وترصد كيف تحولوا إلى مرايا هشة مغبشة بالخوف والألم. ويبلغ المشهد ذروته الشعرية، حين يتحول الصمت الذي يخيم على كل هذه العناصر إلى لغة، ورغم أنها لغة غير منطوقة، خرساء، فإنها استطاعت أن تثبت الصورة في المشهد، وتكشف بسلاسة عما يتناثر في غبارها من مشاعر وعواطف وانفعالات محبطة وصلت إلى حد اليأس وفقدان الأمل... ومن القصيدة نقرأ:

«تتعرى الأشجارُ من عصافيرها

وتغادر الصحراءُ نجومها

يجفُّ النّهر

تاركاً أسماكه

تنزف ما تبقى

من صخب الحياة.

لقد خيم الخراب؛

فلا المدنُ دانت لناسها

ولا الأجساد تمسكت بأرواحها

صار البين بياناً وعلامة.

صورةٌ ثابتةٌ

يقرأ المتحدث الرسمي أرقاماً باردةً

عن مصابين ينتظرون أسِرّة تأويهم،

عن موتى

أو سائرين على طريق الموت

يردد: اليوم أفضل

وغداً ربما لن يكون.

الشوارعُ خاليةٌ،

لا بشرَ، لا سمرَ، لا حياةَ

لا شيءَ على الأسفلت

على الطوار

تحت الأشجار

على حافة الأغصان .

الصمت يعانق سكون الرافعات

لا يهم.

يتساقط القرميد عن أسطح البيوت

لا يهم.

تعوي الرياح أحياناً

نابحة الغياب

لا يهم.

يهطل مطر ثقيل

يضرب النوافذ بقطرات حزينة

لا يه .

في كل صباح

تجاهد الشمسُ كي تجفِّف ما تساقط على وجهها

لا يهم.

يراكم النص مأساوية الحالة، ويكشف عن أبعادها الإنسانية الشائكة، معتمداً على توالي الصور، وتلاحق المشاهد، ويوظف الشاعر آلية التكرار (صورةٌ ثابتهٌ - لا يهُمّ) في بداية المقاطع، وفي اللطشة الأخيرة، لتكثيف المعنى والدلالة، ما بين الثبات والعبث والإحساس باللاجدوى، وفي لهاث شعري، كأنه في سباق مع الزمن لاحتواء الصورة التي أصبحت تستنسخ نفسها في قبضة الموت، وتتكرر مئات المرات يومياً. إنه اختطاف قاسٍ للحياة، بلا وداع ومعزين، بلا صلوت، أو حتى نظرة أخيرة، تعلق في سقف الذاكرة.

لا يرسخ التكرار المعنى فحسب من خلال آلية التشابه، إنما يحاول القبض على اللامعنى، المستتر والمخفي وراء الأشياء والعناصر، والذي لا يقترن بالفقد والغياب المباغت فحسب أيضاً، إنما يقترن أساساً بتراجع الملذات والمسرات، فالإنسان قابع في قبو نفسه، لا يستطيع أن يخرج، أو حتى يفتح النافذة، ليطل على الوجود والحياة. لكن اللافت هنا أن هذه القصيدة الطويلة أصبحت بمثابة اللحن الأساس في الديوان، وما يأتي بعدها من قصائد هو عزف منفرد عليها؛ يلعب على التيمات والعلامات نفسها، لكن بإيقاع خاطف، حيث تتسع المسافة قليلاً بين الذات والموضوع، فلم تعد الذات مشغولة بتثبيت الصورة/ الموضوع في المشهد، بقدر ما أصبحت تتأمله، ليس في حضوره الطاغي المباشر، إنما فيما يخلفه من فجوات وتشققات، تترك ندوباً على العين، وتبقى أثراً على ماض، لم يتخلص بعد من ربكته.

يوحد الشاعر ما بين حضور العشيقة في القصيدة وبين حضور الطبيعة فكلاهما مرتكز للجمال وإثارة الدهشة والأسئلة

وفي مقابل شعرية الموضوع أو الحالة التي طغت على اللحن الأساس في الديوان، تكرس قصائد القسم الأخير منه لما يمكن تسميته «شعرية الذات»، فمن خلالها يحاول الشاعر الخلوص لنفسه، لعالمه الخاص وأشيائه الحميمة، وهو ما يبرز في العناوين الخاطفة لمعظمها مثل «العلامة، غربة، إبحار، ماء، ادعاء، تعميد».. يقول في نص بعنوان «وجهان»:

«لي في هذا العالم وجهان

وجهٌ ارتديته باحثاً عن بدايةٍ للحياة

وظل يرتديني قناعاً لسبعين عاماً.

ما منحني سوى التعب،

وحياة مخضبة بدمٍ

انداح على الرمال بلا ثمن،

وألقى بي إلى واحة الغربة.

في الغربة ارتديتُ وجهاً آخر

اختبأتُ خلفه أربعين عاماً.

حاول أن يغسل الدماءَ التي علقت بملابسي،

ومنحني قلباً ورؤية،

فيما ظلَّ التعبُ كامناً خلفه،

لا راحةَ في القلب»

بنبرة شجن يعري الشاعر أقنعته في الغربة والحياة، وبحكمة الشعر يواجه الاثنين معاً كما يواجه الوباء، ما يذكرنا بصرخة أبي العلاء المعري «تعبٌ كلها الحياةُ فما أعجبَ.. إلا من راغبٍ في ازدياد»، لكنه مع ذلك لا يفقد المقدرة على التصالح معهما، فالحياة بيته، سواء في الغربة أو الوطن، ولا بأس أن يشاكسهما، في هذا الديوان الشيق بمحبة الشعر وروح العاشق معاً.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق مسلسل «مئة عام من العزلة» يعيد إحياء تحفة غابرييل غارسيا ماركيز الأدبيّة (نتفلكس - أ.ب)

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.