ريتشارد رورتي... براغماتية الأدب

كان الشعور والخيال عنده مفهومين مترابطين

ريتشارد رورتي
ريتشارد رورتي
TT

ريتشارد رورتي... براغماتية الأدب

ريتشارد رورتي
ريتشارد رورتي

في مثل هذه الأيام رحل ريتشارد رورتي؛ أحد أعظم الفلاسفة الأميركيين في القرن العشرين، ولعل هذه المناسبة تكون فرصة للتعرف على إنجازه الفلسفي، خصوصاً حين نعلم أنه يمثل براغماتية غير التي نعرفها من تاريخ الفلسفة؛ «براغماتية جديدة» ينبو عنها الذهن. فعندما تذكر البراغماتية لا يخطر على البال سوى روادها الأوائل. وكم هو قليل الانتباه إلى البراغماتية الجديدة التي يمثلها رورتي وعدد ليس بالقليل من مفكري الفترة المعاصرة. التمييز ضروري؛ فالبراغماتية بكل صورها هي ركن ركين في طريقة تفكير معظم البشر اليوم.

في أميركا هناك نوعان من الفلاسفة؛ قسم بقي مخلصاً للتقليد الأنجلو - أميركي، وقسم قاري - أميركي، بمعنى أنه يملك ميولاً تجاه الفلسفة الأوروبية؛ والألمانية بدرجة أقوى. مع رورتي يقف هيوبرت دريفوس وجون كابوتو، وأسماء أخرى. وما يميز رورتي معرفته العميقة بالأدب المقارن ودراساته في هذا المجال، بالإضافة إلى معرفته بالفلسفة التحليلية، وبالبراغماتية التقليدية، وميله نحو نظرية التطور.

ككل مفكر حر بذهن متوقد، مر بمحطات فكرية كثيرة؛ من الأفلاطونية إلى التحليلية، ثم قرر الاشتغال بفلسفة بلاده البراغماتية التي وجد في جون ديوي خير ممثل لها. كان واسع الثقافة إلى حدٍ كبير، لكنه رفض طريقة فلاسفة العلم الذين يريدون للفلسفة أن تكون خادمة للعلم، أو كما يقول ويلارد كواين: «على الفلسفة أن تكون فلسفة للعلم؛ أو لا تكون».

وكما فعل ملهمه هايدغر، انتقل رورتي بالفلسفة إلى آفاق رحبة لم تكن معروفة من قبل، وكان ميالاً إلى أهل الأدب أكثر منه إلى الفيزيائيين والعلماء بعامة.

من العلامات التي تعرفنا على اتجاهه أنه مفكر توفيقي إلى حد كبير، يحاول أن يجمع الفلسفة الأميركية والأوروبية، رغم أن كثيرين لا يرون كيف يمكن أن يجري هذا الجمع، ولسان حالهم يقول: كيف تجتمع المدرسة التحليلية مع المثالية الألمانية؟

في فكر رورتي لا توجد جواهر ولا ماهيات، فقد تجاوز الفلاسفة هذا المسار من قبله، لكن يوجد في فلسفته صدق من دون تطابق مع العالم الخارجي. كما لا توجد في فلسفته الأخلاقية «مبادئ» ولا «أسس»، وهي بهذا تستند على البراغماتية التي تعرّف الحقيقة بأنها «ما ينفع». هذا معناه أنه يرفض التسليم بوجود نظرية في الصدق كما يوجد عند الفلاسفة الآخرين، أي إن براغماتيته لا تشترط الصدق بمعناه الفلسفي.

من قبله، حسمت البراغماتية الأميركية مع روادها الثلاثة الكبار: تشارلز بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي، خلافاً استمر ألفي سنة، أو يزيد، عن الحقيقة، ما الشيء الحقيقي؟ فقال القدماء: الحقيقة هي «تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان»، وقال أصحاب النزعة الرياضية: «ما تناغم فهو حقيقي»، وأتى البراغماتيون بمقولة أصيلة تماماً فقالوا: «الحقيقي هو ما ينفع». ما نفع الفرد والمجتمع يجب التمسك به، وما لم يكن كذلك فهو زيف. فكرة جديدة رغم أنها قد تبدو ساذجة في البداية. لقد أراحت نفسها من كل الفلسفة النقدية التي جعلت العقل هو الذي يرسم تفاصيل وجه العالم.

أهم كتب رورتي فيما يبدو «الفلسفة ومرآة الطبيعة»، وفيه يعلن موقفه الواضح الذي يرفض فيه أن يكون العقل مرآة تعكس الطبيعة، بل يرفض نظرية التمثل بأكملها، فالأمر برمته لا يجاوز الممارسة الاجتماعية وقصة تحكي تطور المجتمع مع مرور الزمن، والفلاسفة أناس يعملون على بناء مستقبل أفضل نظراً إلى إيمانهم بضرورة التقدم نحو حاجات ذلك المجتمع.

لن تجد في فلسفة رورتي براهين. وأجدني أوافقه على هذا المذهب، فالبرهان مفهوم أتى به أرسطو وتابعه المشاؤون، رغم أنه لا يوجد على الحقيقة. كل كتب البرهان ليست سوى كتب سجال وجدل.

لقد دعا رورتي صراحة إلى موت الإبيستمولوجيا (نظرية المعرفة) بناء على نظرية هايدغر وغادامير التي لا تعوّل كثيراً على طريقة «التفكير الحسابي»؛ يقصدان بذلك منهج العلم الحديث. ولا شك في أنه فيلسوف شكوكي لا عقلانياً، فقد أرشد إلى ترك الحديث عن العقل لعله يختفي إذا سكت الناس عن ذكره. ويتميز أسلوبه بأنه يشبه الحكايات الأدبية، والخلو من الرغبة في البرهنة على أي شيء. إنه يرسم ولا يكتشف. ومع كل هذا لا يمكن لنا أن نقول إن رورتي كان مفكراً رومانسياً؛ لأنه لم يكتب الشعر قط. إنه مفكر براغماتي بنكهة أدبية. كان يعتقد أن التقدم الأخلاقي يمكن أن يعتمد على تطور الخيال وتعزيز العاطفة المتبادلة بين الناس، والشعراء يفوقون الفلاسفة في تنمية هذا الخيال وتعزيز تلك المشاعر الإنسانية. الأدب هو الذي يفتح الخيال الأخلاقي، وبه تتحقق إمكانية زيادة الأحاسيس والتعاطف مع معاناة الشعوب الأخرى في العالم، وهذا ما يشير إليه رورتي أحياناً تحت اسم «الأدب العاطفي». ويبدو أن المشاعر بالنسبة إليه مزيج دقيق من الأحاسيس والانطباعات التي تشكل أساساً للحكم والتصرف في براغماتيته الجديدة. وهكذا؛ فإن الشعور والخيال مفهومان مترابطان أدرجهما رورتي في رؤيته للفلسفة الأخلاقية. ثمة خط تطور يبدأ من فتح الخيال الأخلاقي، وينتقل إلى تعزيز التعاطف، والاستمرار في تنمية المشاعر الأخلاقية المناسبة بغرض الوصول إلى نوع من الولاء الإنساني الموسع وتحقيق عدالة أكبر. هذا هو «الأدب الملهم» أو «القراءة الملهمة» التي تندمج بقوة في هذا التطور. ثمة إلهام في هذا الأدب؛ لأنه يحدو الناس إلى الإيمان بأن في هذه الحياة أكثر مما تخيلوه. مع أن هذا التقدم الأخلاقي لا علاقة له بالزيادة في العقلانية، ولا يشمل تطوير الذكاء، بل يهدف إلى تحسين حياة الأفراد في المجتمع.

* كاتب سعودي



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.