النهاية البائسة لـ«التنوير»: إمبراطوريّات ونهب وأزمات متجددة

أستاذ التاريخ الحديث في جامعة «سانت أندروز» يعاكس النظريات السائدة

ديفيد هيوم
ديفيد هيوم
TT

النهاية البائسة لـ«التنوير»: إمبراطوريّات ونهب وأزمات متجددة

ديفيد هيوم
ديفيد هيوم

صدرت عشرات الكتب والدراسات التي تبحث في مرحلة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر الميلاديّ، وحاول كل منها القبض على المنظومة الفكريّة التي أنتجته، لكنّ الغالبية الساحقة من تلك الأعمال انتهت إلى أن كرّست، بشكل أو آخر، تلك الأسطورة الشعبيّة العنيدة حول عصر مثالي للعقلانيّة مثّل لحظة مفصليّة استثنائيّة في تاريخ البشريّة ومنارة للتسامح والديمقراطية والعلمانية، وعصراً ذهبياً تُدوولت فيه قيم تقدميّة الطابع من فئة الحريّة، والحقوق الطبيعية، والحكم الدستوريّ، فيما توافق العديد من المؤرخين على اعتبار «التنوير» بمثابة المناخ الفكري الذي يفسّر صعود الحداثة بمنجزاتها وإخفاقاتها معاً، وروادها بمثابة آباء مؤسسين لعالمنا المعاصر.

مونتسكيو

لكن ليس بالنسبة إلى ريتشارد واتمور، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة سانت أندروز، الذي يقدّم في كتابه الأحدث: «نهاية التنوير: الإمبراطورية، التجارة، الأزمة» إعادة تقييم جذرية لهذه المرحلة، تضعها في مقام الفشل العميق بوصفها مشروعاً فكرياً كانت غايته وضع حد للحروب الدينيّة في القرن السابع عشر، وانتهى إلى استبدال حروب من أنواع أخرى بها لا تقل عنها ضراوة، مستنداً في تقييمه ذاك إلى شهادات عديد من المفكرين الذين نربطهم اليوم بـ«التنوير» ومنهم من رأى أن الثورة الفرنسية وما تلاها خاتمة كابوسيّة لانهيار نظام اجتماعي مستنير دام قرناً من الزّمان، وعود لا حميد إلى مزاج التعصّب والعنف والتطرفات الذي ساد في أوروبا القرن السابع عشر.

يستند الكتاب إلى سلسلة كارلايل للمحاضرات في تاريخ الفكر السياسي التي كان قد ألقاها المؤلف في جامعة أكسفورد البريطانية في عام 2019، ويستدعي في مجادلته نصوص ومواقف ثمانية من مفكري «التنوير» في نظرتهم وتقييمهم لأحوال أزمانهم، ومن ثمّ تقديم قراءة مغايرة للمرحلة متحررة من التصورات المسبقة لمعاصرينا والتي من شأن شديد التصاقها بأوضاع العالم الحالية أن تشوّه كل قراءة متوازنة للتاريخ.

وعلى عكس التفاهم السائد بأن التنوير بدأ أساساً حراكاً فكرياً فرنسياً مكرّساً لتحقيق الديمقراطية والليبرالية وسيادة العقل، فإنه عند واتمور منهج تفكير نتج عن الصراعات الدينية الدموية في القرنين السابع عشر والثامن عشر محاولةً لبناء علاقات مجتمعيّة قائمة على الاعتدال السياسي، والتسامح مع الآخر المختلف، وفتح فضاءات للتجارة الحرة والسلام بين الدول. ويذكر واتمور أسماء مثل الأسكوتلندي ديفيد هيوم «1711 - 1776» والفرنسي شارل لوي دي سيكوندا الشهير بمونتسكيو «1689 - 1755» بوصفهم رواد هذا المنهج الذين كانوا سابقين إلى التبشير بالاعتدال في الدّاخل، وضبط النفس في الخارج.

رأيُ هيوم ومونتسكيو ومَن جاراهم من المفكرين كان ميالاً لتأييد «حكومات القوانين» من جميع الأنواع، بما في ذلك الجمهوريات التقليدية والملكيات الدستورية، وعارضوا بالضرورة «حكومة الفرد»، سواء اتخذت شكل الديمقراطية المضطربة أو الاستبداد غير المقيد، وأملوا في تأسيس نظام عالمي ينظم العلاقات بين الدول حول مبادئ أساسية للقانون، والتجارة، والأخلاق، والسياسة، وبما يكفي لاستيعاب جميع الدول المستقلة على قدم المساواة.

يروى واتمور في «نهاية التنوير» حكايةَ انحدار هذه الرؤية الساذجة عن الاجتماع البشري خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ويلاحق التصورات المتفاوتة التي صاغها مفكرو التنوير لمحاولة تدارك هذا الانحدار أو إعادة توجيهه.

يقسم واتمور تلك التصورات في إطار مدرستين فكريتين إحداهما سعت إلى إنقاذ التنوير من خلال التنظير لحكم معتدل مستغلق أمام السياسة الشعبوية والتعصب والمشاريع الطوباوية للإصلاح السياسي والاجتماعي، فيما وضعت الثانية ثقتها في إمكانات التحوّل الثوري لإنقاذ التنوير. وحسب واتمور دائماً، فإن المدرسة الأولى ضمَّت إلى هيوم كلاً من ويليام بيتي، وإيرل شلبورن الثاني، وإدوارد جيبون، ولاحقاً إدموند بيرك، فيما ضمَّت الثانية كاثرين ماكولاي، وجاك بيير بريسو، وماري ولستونكرافت، وتوماس باين.

وعلى الرّغم من اختلاف المنطلقات النظرية لهاتين المجموعتين في سعيهما لإنقاذ التنوير من نفسه، فإن النصوص التي تركها الفريقان تشير إلى اتفاقهما على أن النصف الأخير من القرن الثامن عشر شهد انسحاق القيم التي دعوا إليها تحت عجلات الجشع والتنافس على فرص التجارة والثروة. وإذا كان المتطرفون الدينيون قد تناحروا قبل مرحلة «التنوير» فشنوا الحروب وارتكبوا المذابح باسم الربّ والإيمان، فإن الشعوب «المتنورة» أقامت إمبراطوريات وأبادت ملايين البشر واسترقتهم سعياً وراء المال والتجارة.

ولعل بريطانيا العظمى على وجه التحديد كانت النموذج الأكمل عند أغلب مفكري التنوير لهذا التناقض العجائبي بين ادعاء تبني القيم التقدميّة للدولة في الشؤون الداخليّة فيما تنقلب تنيناً متوحشاً ينفث سموماً في الخارج، إذ إن ملكيتها الدستورية المتوازنة تقرأ في تمظهرها الإمبراطوري استبداداً شعبوياً، مسرفاً في عنصريته البغيضة وعدائه للأجانب، ولا يتورع عن ارتكاب المذابح لتأمين مصالحه التجاريّة وتمكين النّهب.

وقد تسبب هذا الانفصام بين الداخل والخارج -الذي لم يقتصر على بريطانيا بالطبع- في انزواء أفكار الاعتدال والسلام على مستوى العلاقات بين الكيانات السياسية الأوروبيّة لمصلحة منطق المنافسة الدّموية على التجارة والموارد الدوليّة، فاستهلكت القارة تدريجياً (بدايةً من الحرب الأنغلو - هولنديّة الأولى «1652 - 1654») في صراعات كان دافعها إدمان التجارة وصلف الإمبراطوريات، الأمر الذي حدا بهيوم وعدد من أنصاره إلى التحذير من أن دول «القارة المتنورة»، بما فيها طرفها البريطاني، تتجه نحو الخراب.

على أن مفكري النهضة اختلفوا مع ذلك على كيفية وقف هذا الانحدار المتسارع نحو الخراب و«إنقاذ» التنوير. البعض اقترح اعتماد منهج إصلاح معتدلاً يبدأ من تعديل قواعد التجارة الدّولية لتقليل فرص اندلاع الحروب على الموارد ونزع أسباب كراهية الأجانب وبالتالي تجنب السقوط مجدداً في قبضة «البربرية والدين». ومن الجليّ أن هذا المنهج لم يكن فيه مكان للإرادة الشعبيّة، إذ إن تجارب بريطانيا –مع وصول ديماغوجيين وشعبويين إلى السلطة- وفرنسا –بعد تجاوزات الثورة الفرنسيّة ونزوعها إلى الدمويّة والإرهاب- أشارت –وفق مفكري التنوير- إلى أن «غمر الرّعاع» قد انتهت بدولها نحو تبني سلوكيات إمبريالية، وخوض حروب متكررة في سياق السعي لبناء إمبراطوريات. وللتعامل مع ذلك فكّر هيوم وآخرون في دعم انقلابات عسكريّة أو أرستقراطيّة لمنع الديمقراطيّة الغوغائيّة من تدمير الحريّات، فيما ذهب بيرك إلى قناعة تامة في سنوات عمره الأخيرة بأن صراعاً وحشياً بين بريطانيا وفرنسا حتى الاستسلام التام يمكنه أن ينقذ التنوير من فرط الديمقراطيّة الشعبويّة، ولا شيء غير ذلك. ولسخرية القدر، فقد تحوّل أعداء التطرفات ودعاة الاعتدال أنفسهم إلى متعصبين حد التطرّف في دفاعهم عن التنوير.

في المقابل فإن ماكولاي وبريسوت وباين مثلاً، اعتقدوا أن الشعب المسلّح وحده يمكنه استعادة الفضيلة وإحياء الحريات التي سحقها صعود المجتمع التجاري، وراهنوا على الثورات الأميركية والفرنسية معتقدين أن فجر التنوير المشع سيتبع الليل المظلم للإمبريالية في أواخر القرن الثامن عشر. لكنّهم عاشوا ليشهدوا تحول الجمهورية الفرنسية إلى ذلك المشروع الإمبراطوري شديد الدموية الذي أُسست الجمهورية أصلاً لمواجهته، وكيف تفاقمت أسوأ اتجاهات بريطانيا بينما كانت تبني إمبراطوريّة لا تغيب عن أملاكها الشمس.

ويخلص القارئ في نهاية هذه الرحلة المذهلة في تاريخ الأفكار -التي يرى كثيرون أنها شكَّلت عالمنا المعاصر- أن «التنوير» لم ينتهِ فحسب، بل فشل فشلاً ذريعاً. ولهذا بالطبع انعكاسات شديدة الأهميّة اليوم، إذ يبدو الغرب بعد فشل التنوير كأنه لم يستوعب درس ذلك الفشل، بل أضاع فرصة أخرى لتأسيس نظام عالمي متسامح جديد بعد فظائع الحرب العالمية الثانية، فسقط سريعاً في حرب باردة بين قوى نووية، واستعاد شهيته إلى التوسع الإمبريالي، واستفاد من تقدمه المادي والتكنولوجي لدعم الطغاة، وتنفيذ انقلابات دموية، وغزوات وحصارات قاتلة تبدو الحروب الدينية في العصور الوسطى مقارنةً بها كأنها ألعاب أطفال. نصيحة واتمور في خاتمة الكتاب هي في ضرورة العمل على تنوير جديد كمشروع اعتدال سياسي نقيض للشعبوية، وضدّ الجاذبية المفرطة للعقل المجرد في السياسة، ويعمل على كفّ هيمنة «الأنظمة» السياسية على الإنسان فرداً ومجموعاً. أما كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة المستحيلة، فهذا ما سكت عنه واتمور، ربما لإدراكه أن خبرة الغرب التاريخيّة في هذا المجال لا تبدو كأنّها قادرة بعد، ورغم تعدد المحاولات، على إنتاج التنوير الذي تحتاج إليه البشريّة. فهل حان الوقت للبحث عن «التنوير» من جزء آخر من الكوكب؟

نهاية التنوير: الإمبراطورية، التجارة، الأزمة

The End of Enlightenment: Empire, Commerce, Crisis

المؤلف: ريتشارد واتمور

2023



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.