هيراكليس الإغريقي في جزيرة فيلكا

حضور نادر لهذا البطل في شبه الجزيرة

هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
TT

هيراكليس الإغريقي في جزيرة فيلكا

هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا

يحتفظ متحف الكويت الوطني بثلاثة مجسمات من الحجم الصغير تمثّل هيراكليس، البطل الإغريقي الذي نجح في القيام بسلسلة من الأعمال الخارقة لم يكن ليستطيع أي من البشر الفانين القيام بها، وحصد شهرة واسعة في العالم اليوناني القديم كما في سائر أنحاء الشرق الهلنستي المتعدّد الأقاليم. خرجت هذه المجسمات من جزيرة فيلكا التي تقع في الجهة الشمالية الغربية من الخليج العربي، وهي من القطع الفنية المعدودة التي تشهد لحضور نادر لهذا البطل في شبه الجزيرة العربية.

تُعدّ جزيرة فيلكا من أقدم مواقع شبه الجزيرة العربية الأثرية التي تزاوجت مع حضارات أخرى على مدى تاريخها الطويل، ومنها حضارة الإغريق. شكّلت هذه الجزيرة جزءاً من إقليم دلمون الذي برز في الماضي على الطريق البحري بين بلدان الشرقَيْن: الأوسط والأدنى، وهي كذلك من المواقع التي قصدها نيارخوس، أحد ضباط جيش الإسكندر الأكبر، في أثناء قيامه برحلته الاستكشافية الطويلة التي انطلقت من نهر السند وبلغت ساحل الخليج العربي. يرى البعض أن اسم فيلاكو مشتق من «فيلاكيو»، وهي كلمة يونانية تعني الموقع البعيد، كما أنها تشير إلى نقطة تمركز، والأكيد أن اليونانيين أطلقوا عليها «إيكاروس»، تيمناً بجزيرة إيكاروس الواقعة في بحر إيجه، كما تشير مصادر أدبية عدة يعود أقدمها إلى نهاية القرن الأول قبل الميلاد.

تمتدّ فيلكا على مساحة قدرها 43 كيلومتراً مربعاً، تضمّ 106 مواقع أثرية، منها تل يقع في الطرف الغربي الجنوبي من الجزيرة، يضمّ دارتين تشير أسسهما إلى قصر ومعبد برجي متجاورين. في هذا المعبد الذي قامت بعثة فرنسية باستكشافه في عام 1983، تمّ العثور على تمثالين صغيرين من الحجر الرملي يمثلان رأسين آدميين لا يتجاوز طول كل منهما 9 سنتيمترات. ملامح هذين الوجهين واحدة، وهي الملامح الخاصة بالبطل الإغريقي الخارق هيراكليس الذي وُلد بحسب الرواية المتوارثة من علاقة جمعت بين ابن زيوس، سيّد معبودي الإغريق، وألكميني، ابنة آلکترويون ملك مدينة موكناي، في شبه جزيرة بيلوبونيز، جنوب اليونان. يتشابه هذان التمثالان اللذان وصلا بشكل مجتزأ كما يبدو، غير أنهما لا يتماثلان؛ إذ يبدو أحدهما بيضاوياً، فيما يبدو الآخر دائرياً.

ملامح الوجه البيضاوي أكثر نتوءاً. العينان لوزتان واسعتان وفارغتان، يعلوهما حاجبان مقوّسان منفصلان. الأنف مثلث مجرّد من أي تفاصيل تشير إلى تجويف المنخرين. الفم شفتان مطبقتان، يفصل بينهما شق بسيط. الأذنان حاضرتان، وكل منهما على شكل نصف دائرة مجرّدة. أعلى الرأس مقوّس، وهو مكلّل بشعر تحدّ خصلاته شبكة من الخطوط المتوازية، تشكل مجموعة من الكتل المتراصة هندسياً. تحدّ اللحية طرفي الخدين، وتلتف حول الذقن، وتبدو أشبه بكتلة هلالية غابت عنها تقاسيم الشعر. في المقابل، يحمل الوجه الدائري هذه السمات، غير أن أنفه يبدو أفطس، وأعلى رأسه مسطّحاً، وتحدّه خصل من الشعر تلتف من حوله على شكل عقد، كما أن اللحية أكثر كثافة، والفم شبه ذائب في الكتلة الحجرية.

يعود هذان الوجهان إلى القرن الثالث قبل الميلاد بحسب أهل الاختصاص، ويتميّزان بخروجهما عن النسق اليوناني التقليدي، وبتبنّيهما النسق الشرقي الذي شاع في نواح عدة من الشرق القديم. في تلك الحقبة، تجلّى هذا النسق في عدد كبير من التماثيل الخاصة بهيراكليس، أشهرها تلك التي خرجت من موقع «مسجد سليمان» في محافظة خوزستان، جنوب غربي إيران. وقد ظلّ هذا التقليد الشرقي حياً في فترات لاحقة، كما تشهد مجموعة كبيرة من تماثيل هيراكليس خرجت من مدينتَي دورا أوروبوس وتدمر في الصحراء السورية، ومملكة الحضر في الجزيرة الفراتية.

إلى جانب هذين الوجهين الحجريين، يحضر مجسّم من الطين المحروق، عثرت عليه البعثة الفرنسية عام 1985، في أثناء مواصلتها أعمال المسح والتنقيب في مسكن مجاور لما يُعرف بالقلعة الهلنستية الكبيرة التي تقع في «تل سعيد»، في أقصى الجنوب الغربي من ساحة الجزيرة. يبلغ طول هذا المجسّم الصلصالي 19 سنتيمتراً، وهو على الأرجح من نتاج النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، ويتبع الطراز اليوناني الكلاسيكي بشكل جليّ. تمثّل هذه القطعة الأثرية قامة رجل منتصب، فقد للأسف رأسه والجزء الأسفل من ساقيه. مفاصل البدن تتبع التشريح الواقعي، وتصوّر الجسد الحي المتناسق الذي يخلو من أي عيب، مع انحناءة بسيطة من الخاصرة اليمنى تميّزت بها الجمالية الكلاسيكية اليونانية.

يقبض البطل بيده على هراوة يستند إليها، وتُعد هذه الهراوة من المفردات الفنية الخاصة بهيراكليس، وهي بحسب رواية نقلها مؤسس الشعر الرعوي ثيوقريطس، الهراوة التي صنعها البطل من شجرة زيتون اقتلعها في جبل الهيليكون، قبل أن يصل إلى مدينة نيميا في مقاطعة كورنثيا، في شبه جزيرة بيلوبونيز. بهذه الهراوة، انقض البطل الجبار على أسد خارق لا يخترق جلده سهم، وقضى عليه بعدما تمكّن من خنقه، ثم سلخ جلد ولبسه. وفقاً للنموذج التقليدي الذي ساد غرباً وشرقاً، يظهر هيراكليس في مجسّم فيلكا وهو يلف حول ذراعه هذا الجلد الذي يشكّل كذلك مفردة أخرى من المفردات الفنية الخاصة به. الوجه الخلفي من هذا المجسّم منجز بحرفية عالية، ويختزل كذلك الجمالية اليونانية التي طبعت سائر فنون النحت والتجسيم والنقش.

خارج فيلكا، يحضر هيراكليس في تمثال برونزي عُثر عليه في قرية الفاو في المملكة العربية، وهو من الطراز الكلاسيكي الصرف، ويعود إلى القرون الميلادية الأولى. كما يحضر البطل الإغريقي بشكل بدائي مبسط على نصب جنائزي مرمري من نتاج القرن الرابع، مصدره شبوة في اليمن. تشكل هذه القطع مجموعة صغيرة تشهد لحضور هيراكليس في الجزيرة العربية، غير أن هذا الحضور يبقى خجولاً كما يبدو في غياب مكتشفات أخرى تجسّد هذا البطل.


مقالات ذات صلة

تابوت مصري قديم يحظى بحياة جديدة في بريطانيا

يوميات الشرق استقبال للتابوت بعد ترميمه (جامعة سوانزي)

تابوت مصري قديم يحظى بحياة جديدة في بريطانيا

حظي تابوت مصري قديم بحياة جديدة في بريطانيا بعد فترة من أعمال الترميم وإعادته إلى «مركز مصر» (متحف للآثار المصرية) بجامعة «سوانزي» في ويلز.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق لعبة صغيرة تمثل حيواناً تعود لعصر «الفايكنغ» (صفحة بعثة التنقيب الأثرية عبر فيسبوك)

لعبة أطفال من عصر «الفايكنغ» تحير علماء الآثار

عثر علماء آثار على لعبة نادرة تعود إلى عصر الفايكنغ خلال حفريات أثرية في آيسلندا. ولا يزال الحيوان الذي تمثله اللعبة موضع نقاش.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق رأس مومياء من العصر المتأخر (وزارة السياحة والآثار المصرية)

مصر تسترد 3 قطع أثرية من هولندا

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، الثلاثاء، عن استرداد ثلاث قطع أثرية من هولندا، ترجع للعصر المتأخر، كانت قد خرجت من البلاد بطريقة «غير شرعية».

فتحية الدخاخني (القاهرة )
يوميات الشرق المعارض الأثرية المصرية في الخارج وسيلة للترويج السياحي (وزارة السياحة والآثار)

مصر والبحرين لتنفيذ برامج تسويق سياحي مشترك في شرق آسيا

 تتجه مصر والبحرين لتنفيذ برامج مشتركة للتسويق السياحي في شرق آسيا، بالإضافة إلى التعاون في مجالي السياحة والآثار، والعمل على إقامة معارض أثرية مؤقتة.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق السفينة الحربية «إتش إم إس فيكتوري» (أ.ف.ب)

الحشرات تهدد سفينة النصر البريطاني في ترافالغار

نجت السفينة الحربية «إتش إم إس فيكتوري» HMS Victory من قذائف نابليون، ومن قنبلة خلال الحرب العالمية الثانية، وتواجه خطرا فتاكا جديدا يهدد هيكلها… وهو الحشرات!

«الشرق الأوسط» (بورتسموث )

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.