عزلة الشاعر وغواية القصيدة

الشاعر اللبناني جودت فخر الدين في كتابه الأخير

عزلة الشاعر وغواية القصيدة
TT

عزلة الشاعر وغواية القصيدة

عزلة الشاعر وغواية القصيدة

يكتب الشاعرُ ليرى العالمَ متحولاً داخل عزلتهِ، يَرقبُه، أو يساكنُ وهمه الجميل شغوفاً بتلك الرؤية، وبما تُبيحه له شهوةُ التعرّف على المخفي، وعلى تحويل اللغة الى مجسٍّ سحري، له التلمّس والكشف، وشغف تمثُّل أسئلة الوجود المُستفِزة، إذ تتحول السكنى إلى مواجهة مع الغياب، والكتابة إلى هوسٍ في البوح والاعتراف، وعلى نحوٍ تحضر فيه القصيدة وكأنها العدوى التي تمسُّ التفاصيل واليوميات، تُطلق لها يقظة «العناق» لتبدو كأنها طقوس في الاستدعاء، والرؤيا، واستعارةٌ في التحريض على ذلك الاعتراف، فلا يجد الشاعر من سانحةٍ سوى أن يمارس طقوس خلوته دونما ارتياب، يكتب عن الحجرة وكأنها فضاء، وعن الجسد وكأنه يتعالى في عزلته، وفي بوحه، وفي حميميته، تستغرقه إحالات نفسية متواترة، كاشفةً عن تشكّلات تلك العزلة، وعن تمثلاتها، حتى يتلبّس الشاعر هوس استحضار الوجود والوجوه والتفاصيل الصغيرة، بوصفها وحدات تتفجّر فيها شعرية الاستدعاء، حيث استكناه الحاضر بالغائب، كما يقول الصوفيون.

في كتابه الشعري الأخير «أكثر من عزلة.. أبعد من رحلة»، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ببيروت، يذهب الشاعر جودت فخر الدين إلى التشهي بطقوس الكتابة، عبر ما يستحضر لها من شفرات الخلق / التعويض، ومن هواجسَ ينوء بها الكائن المعزول، المنفيّ في المكان، والحرُّ في اللغة، حتى تبدو تلك الطقوس الأقرب إلى ما يشبه التطهير والخلاص، حيث استعارة الاعتراف، وحيث سحرية استدعاء الغائب، واستكناه شعرية العزلة، بوصفها تمثيلاً لـ«المكان الشهي» ولشعرية الرحلة الرمزية التي تُزيح كلمة «الأكثر» بدلالتها الغالبة، إلى «البُعد» في تمثيل اللامحدد للمكان الخارجي، وهي إحالة رمزية واستعارية تقوم على إزاحة ما تحمله شفرات الواقع، إلى استعارات تتشظى في الكتابة، بوصفها ترميزات وكشوفات لسرائر المكان / المكوث، وتعبيراً عن عزلته التي تقترب من هواجس الصوفي، بدلالة «التطويع» و«الإشباع» و«السمو» و«الاستهداء».

في حجرتي هيّأتُ ما يلزمني من كلّ شيء

لم أعد في حاجةٍ للخارج

والعالم في الداخل أمسى طوع أمري

حجرتي تسمو وتسمو

في حجرتي أستخرج العالم من محنتهِ

أصنعه حرّاً على شاكلتي

أرثي لنيسان وأستهدي بهِ

أسأله كيف ستأتي بعد عام؟

تُثير قصائد هذا الكتاب الشعري أسئلة مفارقة عن العلاقة الإشكالية بين الكتابة والوجود، وعن علاقة الشاعر بالمكان والزمان، وبالرؤيا التي تُبيح اكتشاف الكائن في عزلته، وفي لحظة استشعاره بها، إذ يرهنها إلى استيهامات بهجته، وإلى جنوحه وهو يهبُ الكتابة سرّه، لتبدو كأنها احتفالٌ بالمكان المعزول، وبالوقت الذي يجعله أكثر شغفاً بالوجود، فالوقت أكثر تلك الهواجس إثارة، وحساسية في التكشّف على الأسرار، وعلى مدى قدرة الشاعر في التحوّل، وفي تقويض علاقته بالزمن اليومي، مقابل استدعاء الزمن النفسي الذي يحضر كاشفاً عن قلقه، واضطرابه، وعن علاقته بالانتظار والعزل والفقد، وربما بالموت. هذه الثنائية الفارقة هي التضاد الذي يمنح «الحدس الشعري» طاقته في تمثيل رؤية الشاعر وحدْسه، ليستدل على عالمٍ تصنعه اللغة ويخفيه الواقع، فيبدو المكشوف أكثر إثارة ودهشة، وأكثر تحريضاً على التلذذ بحرية ما تكشفه تلك اللغة، فهو يرى في «العزلة» عالماً آخر، ينزع عنه الوضوح، ليبدو غموضه تمثيلاً لشعرية الكائن في تلك العزلة، وفي طقوس الكتابة وهي تستدعي الغائب، الذي يدوّن حضوره عبر ما يخفيه المكان، وما تفضحه التفاصيل التي تتفجر عبر حساسية الشاعر، وعبر ما يجد فيه استدعاء للوجود / الامتلاء / الإشباع، عبر علامات - الأب، الابن، الحديقة، النافذة، الموقد - بوصفها إحالات رمزية لتمثيل شعرية اللغة في مواجهة سكونية الواقع.

ينحاز الشاعر فخر الدين إلى شعرنة هذا الاستدعاء، فيبدو في «قصيدته الشخصية» مسكوناً بشهوة التعرّف على تلك التفاصيل، حيث مساكنة البيت والجسد والذاكرة والأنثى، وحيث الإصغاء إلى «الأصوات» التي تتدفق منها، بوصفها جزءاً من هواجس العزلة، ومن التلذذ بما تصنعه اللغة التي لم ير العالم إلّا من خلالها، فهي أداته في جسِّ الخارج، أو في تذكره، إذ تضعه عند ضجيجه الداخلي، الضجيج الكاشف عن اصطدامه بالتفاصيل، وبما يتساقط من استعارات الغائب.

دخلت أنسام نيسان لهذا العام سهواً

لم تجد في جلستي بهواً قد اعتادت عليه.

وجدت نافذتي ضيّقةً

بل وجدتها غيّرت وجهتها

صارت ترى الداخل

تخشى أن ترى الخارج..

شعرية الوباء..

ما صنعه الوباء في الجسد والمكان، صنعته اللغة في الكتابة، فكان الشاعر أكثر استغواء باليوميات التي صنعتها عزلته، حيث استدعاء الغائب / الأب، والبعيد / الابن، وحيث استدعاء المخفيّ من سيرة الشاعر، وهذا ما أعطى فاعلية الاستعارة شغفها في اصطناع بنية التعويض، عبر الاحتفاء بالمكان، والزمن الداخلي، والجسد، وعبر تقويض الوظيفة الاتصالية للغة إلى وظائف شعرية، تصنع لها وجوداً موازياً، يجد استنفاره في يقظة الاستعارات بصفتها موازية ليقظة الجسد، ويقظة المكان، فتحضر «شعرية الغياب» بوصفها نظيراً مشاكساً لشعرية الحضور. وبقدر ما تخلو قصيدته من المبالغة والتفخيم، فإنه يجعل من كتابة البساطة، وكأنها كتابة فيما يشبه السيرة أو «كتابة اليوميات»، إذ تكتنز بسيميائية فارقة، وبإحالات صورية تتسع مع شغف التماهي مع الوجود الذي تصنعه اللغة، عبر استعارة طقوس الاحتفاء بالطبيعة وأنسنة رموزها، بوصفها مجالاً إشباعياً لتمثيل العزلة وشعريتها.

في قصائد هذا الكتاب الشعري تبدو اللعبة الشعرية مفتوحة على مواجهة «العزل الواقعي» بـ«الامتلاء الشعري»، فتحضر الاستعارات وكأنها مقابل رمزي للطقوس والهواجس، التي تجعل الشاعر مُستغرقاً في لحظة بصرية، يتقدم في عالمه / غرفته، وكأنه يتقدم إلى الوجود، يصنع لها احتفاءات وطقوساً للجسد في عزلته، مثلما تقوده إلى كشوفات تتعدّى المكان اليومي - المكتبة، الطاولة، الزوايا - إلى المكان الوطني؛ حيث بيروت في عزلتها وحزنها، وبذاكرة الغياب التي تذبحها.

لم أثق بالضفاف ولا بالغياب

ولم أستجب لعويل الرياح

تجوب البحار وتمسح وجه الفلاة

وحاذرتُ أن أتشتَّت بين البروق التي

تخلب الطرف تعبث فتنتها بالجهات

شعرية الوباء هي المعادل الرمزي لشعرية الاختباء، حيث تنجرّ الذات إلى ممارسة طقوسها الشخصية، وكأنها محاولة في الوقوف عند حافة الوقت، حذِرة من الخارج الذي يلوّح بالقلق والموت، وباحثة عن داخل لا يضيق بـ«فتنة الجهات»، وبجودٍ يستحضر العالم عبر استعارات لا تنفصل عن تجربته وخبرته الشعرية، فتبدو حاضرة، شغوفة بما يتجاوز «العزلة» إلى حميمية الاعتراف، وإلى تمثيل طقوس الكتابة، ومقاربة شعرية اليومي الذي يقاوم الفناء الوجودي، فتبدو ثنائيات الموت والحياة، والغياب والحضور، والجسد والطبيعة، والتاريخي والشخصي، وكأنها هي جوهر لعبته الشعرية، القائمة على أنسنة مكان الاختباء / الاحتجاب، وعبر فضح تحولاته، والكشف عن استعاراته ومفارقاته.

سار أنقى وأوسع

عاد له وجهه

بعدما كان محتجباً في الزحام

غدا خالياً

صار منطلقاً يتنزّه

يختار بين اتجاهين

يحلو له واحد

ما يحلو له عكسه

في قصيدة «خوف» تحضر فكرة «الغائب» بوصفها حدساً بمواجهة الموت، حيث تحضر طقوس السحر للتطهّر، وحيث تحضر اللغة عبر التعاويذ والرقى للإيهام بالبحث عن «الاطمئنان» الذي يستدعي شفرات تلك المواجهة، التي تعني في جوهرها مواجهة للقلق اليومي الذي يعيشه الشاعر، بوصفها قلقاً وجودياً وإنسانياً، فما تصنعه العزلة من خوف، تستدعيه اللغة بوصفها استعارة كبرى لاستدعاء الغائب رمزاً للوجود، فتجعل الشاعر في لحظة استفزاز، واستنفار، يتهجس، يرى، يحدس، يكشف، ينشدُ وجوده عبر ما تصنعه اللغة من استعارات، وكشوفات وطقوسٍ هي النظير لطقوس الخلاص / النافية لفكرة الموت الذي تصنعه سرديات «الحرب أو الحب».

وحده الخوف

سرٌّ لكلِّ غياب

يصنعُ الحبَّ والحرب

يصنعُ بينهما كلَّ فكرٍ

وكلَّ ابتكارٍ وكلَّ جنون.



الغذامي: أعيش في «بيت من نساء» ولا أحملُ ضغينة لأدونيس

الدكتور عبد الله الغذامي خلال جلسة الحوار مع ألطاف المطيري ضمن فعاليات مهرجان القرين (كونا)
الدكتور عبد الله الغذامي خلال جلسة الحوار مع ألطاف المطيري ضمن فعاليات مهرجان القرين (كونا)
TT

الغذامي: أعيش في «بيت من نساء» ولا أحملُ ضغينة لأدونيس

الدكتور عبد الله الغذامي خلال جلسة الحوار مع ألطاف المطيري ضمن فعاليات مهرجان القرين (كونا)
الدكتور عبد الله الغذامي خلال جلسة الحوار مع ألطاف المطيري ضمن فعاليات مهرجان القرين (كونا)

تحدث المفكر السعودي الدكتور عبد الله الغذامي، خلال جلسة حوارية بمهرجان «القرين الثقافي» في الكويت، عن مسيرته في عالم النقد والأدب وبداياته في التعمق والبحث العلمي والأدبي.

وشهدت الجلسة التي أقيمت بالتعاون مع «مركز منار الثقافي»، وأدارتها ألطاف المطيري، استعراضاً للسيرة الفكرية والثقافية للناقد السعودي المعروف بإسهاماته المميزة التي أثرت الحقل الثقافي العربي لعقود، متطرقاً إلى علاقته بالمرأة، والتحولات الفكرية والثقافية التي مرّ بها، وخلافه مع الشاعر السوري أدونيس، والمواجهات مع «تيار الصحوة».

«بيت من نساء»

الغذامي، الذي اختُير ليكون «شخصية الدورة الـ30» من المهرجان، قال في استعراضه للتحولات الفكرية، إن مسيرته في ريعان الشباب تأثرت بمنهج الشكّ، لكنه وجد طريقه عبر الوجدان، مشيراً إلى تأثير رواية «دعاء الكروان» في تعزيز إيمانه، وهي الرواية التي كتبها عميد الأدب العربي طه حسين، ونشرت عام 1934، تمرّ عبر الأنثى، وتنتصر للمرأة ضد سلطة القهر الاجتماعي التي تفرض عليها وتضطهدها.

يضيف أن صوت بطلة الرواية «آمنة» وهي تناجي الكروان بما يسميه طه حسين «دعاء الكروان» كان ملاذه من رحلة الشكّ، فـ«اكتشفت أن القيمة الوجدانية كعلاج أسمى من القيمة العلمية»، «فأنا مدين للحظات البكاء في أن أجد طريقي إلى الله»، وهو الطريق الذي لم يرسمه المهندسون، فهو طريق وجداني.

وتحدث المفكر السعودي عن علاقته بالمرأة، قائلاً: «أعيش في بيت من نساء»، مستذكراً تأثير زوجته وبناته. ويرى أن المرأة ليست مجرد موضوع للنقاش أو التحليل إنما هي جزء أساسي من الثقافة، سواء كاتبة أو قارئة، مشجعاً على الاعتراف بدورها الفاعل في تشكيل الفكر والأدب بعيداً عن الصور النمطية التقليدية.

تحدث الدكتور عبد الله الغذامي حول تجربته الكتابية في الدفاع عن قضية المرأة (الشرق الأوسط)

وعن تجربته الكتابية في الدفاع عن قضية المرأة، استذكر كتابه «الكتابة ضد الكتابة» الذي استعرض فيه بالتشريح نصوصاً لثلاثة شعراء سعوديين هم محمد حسين سرحان، وغازي القصيبي، ومحمد جبر الحربي، في تناولهم موضوع المرأة، مخصصاً فصلاً في استعراض ردود الشعراء على قراءته لنصوصهم.

وفي هذا الكتاب يستعرض الغذامي صورة المرأة في التراث العربيّ، منها قولهم: «البنت مالها إلا الستر أو القبر»، مستحضراً الصورة التي وجدها لدى الرحالة ابن بطوطة في رحلته للهند، واصفاً «إحراق المرأة بعد زوجها - بأنه - أمر مندوب عندهم»، فمن «أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفاً بذلك ونُسبوا إلى الوفاء».

كما يورِد معارضة الثعالبي في كتابه «ثمار القلوب»، قول أحدهم في ذمّ النساء: «إن النساء شياطينُ خلقن لنا/ فكلّنا يتقي شرّ الشياطين». وقول الثعالبي معارضاً: «إن النساء رياحينٌ خلقن لنا/ وكلنا يشتهي شمّ الرياحين» ويعلق المفكر السعودي: «وليس الأخير بأحسن من الأوّل؛ فالاثنان جعلاها متاعاً ومادّة ولسن مخلوقات بوجودٍ ذاتيّ خاصّ»!

وكذلك كتابه «المرأة واللغة» الصادر عن «المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء» 1996، الذي يرى فيه أن المرأة تعرضت للوأد المادي والوأد المعنوي معاً، كما تناول فيه قضايا المرأة العربية من منظور نقدي محللاً الصور النمطية التي رسختها الثقافة الذكورية في الأدب العربي، منتقداً الأنماط اللغوية التي ترسخ الهيمنة الذكورية، قائلاً إن اللغة ذاتها تستخدم وسيلةً لإقصاء المرأة أو حصرها في أدوار تقليدية.

وفي هذا الكتاب يستعرض الغذامي رأي ابن جني عن التذكير والتأنيث في اللغة، وقوله: «إن تذكير المؤنث واسع جداً لأنه رد إلى الأصل»، معتبراً هذا الرأي «سلباً صريحاً لحق المرأة الطبيعي في التأنيث، وتقليلاً من صفة جوهرية على اعتبار أنها ليست كائناً وذاتاً فاعلة وإنما مجموعة من الدلائل والصفات».

استعرضت الجلسة الحوارية السيرة الفكرية والثقافية للناقد السعودي (الشرق الأوسط)

وكتاب المفكر السعودي الآخر: «ثقافة الوهم، مقاربات عن المرأة واللغة والجسد»، «المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء» 1998، وهو يمثّل الجزء الثاني من كتاب «المرأة واللغة»، فالجزء الأول ركّز على علاقة المرأة باللغة كمنجز تعبيري بواسطة الحكي أو الكتابة، وفي هذا الكتاب، يقف المؤلف على الحكايات المأثورة التي تتعامل مع المؤنث وتجعل التأنيث مركز الحبكة.

في هذا الكتاب يتناول الغذامي ما يسميه «ثقافة الوهم»، وذلك «حينما تجرّ الثقافة إلى تصورات تنغرس في الذهن وتتحول إلى معتقد، أو صورة نمطية ثابتة»، وهو ما يسميه بـ«الجبروت الرمزي».

من أجل المرأة غادر «النقد الأدبي» إلى «النقد الثقافي»

المفكر السعودي قال خلال الندوة إن المرأة هي صاحبة الدور لمغادرته النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، التي تمكن من صياغتها كنظرية في عام 2000، داعياً لكسر هذه الصور النمطية، وإعادة قراءة النصوص من منظور نسوي يبرز دور المرأة كفرد مستقل ومؤثر، ومبيناً أن النقد النسوي لا يمكن عزله عن النقد الثقافي، لأن القضايا النسوية مرتبطة بالأنساق الثقافية التي تشكل بنية المجتمع.

لا ضغينة مع أدونيس

تحدّث الغذامي عن خلافه مع أدونيس، قائلاً إن الشاعر السوري «غضب حين صدر كتابي (النقد الثقافي)، وأعطى تصريحات قاسية، بعد أن استفزه وصف (الحداثي الرجعي)، وقول الغذامي أن أدونيس يمثّل الحداثة الرجعية».

وبرأي المفكر السعودي، فقد «بدأ أدونيس في اعتراضه على الكتاب هادئاً، ثم أخذ يتصاعد نقده تدريجياً حتى صار أسيراً لتصريحاته»، ويضيف: «تقابلنا في أبوظبي، وتعمدت أن أواجهه، فقابلني باحترام، وقلت له إنني وضعتك مع أبي تمام والمتنبي ونزار قباني في دراسة واحدة، فأبدى ارتياحه، وهذا دليل أنه لم يقرأ الكتاب».

الدكتور عبد الله الغذامي يتحدث خلال جلسة الحوار المفتوح (الشرق الأوسط)

ثم في زيارة أدونيس للرياض خلال مارس (آذار) 2023، عرضت «هيئة الأدب» أن تُجرى مناظرة بينه والغذامي، لكنّ الأول تراجع عن موافقته بعد أن أبداها مسبقاً.

وكانت أول مرة يكتب الغذامي عن أدونيس عام 1997 في مجلة «فصول» بطلب من الدكتور جابر عصفور: «ما بعد الأدونيسية»، وقال: «خلافي مع أدونيس ثقافي، ولا أحمل ضغينة له».

وتطرق المفكر السعودي خلال الجلسة إلى عدد من كتبه، وأوضح أنه قدم في كتابه «الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية» رؤيته النقدية التي جمعت بين البنيوية والتفكيك، وركّز على تحليل النصوص الأدبية العربية وفق آليات منهجية جديدة، مشيراً أيضاً إلى كتابه «النقد الثقافي... قراءة في الأنساق الثقافية العربية» الذي ناقش فيه الأنساق المالية في الثقافة العربية، وكيف تؤثر على تشكيل النصوص والقيم المجتمعية.

وأفاد بأنه تناول في كتاب «الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي» التحول الثقافي الذي أحدثته وسائل الإعلام الحديثة، خصوصاً التلفزيون، مستعرضاً كيفية إسهام الثقافة التلفزيونية في بروز الثقافة الشعبية على حساب الثقافة النخبوية.

شخصية العام

واختار «القرين الثقافي» هذا العام الدكتور الغذامي، شخصية المهرجان، وقالت عائشة المحمود، الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة بـ«المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب»، إن الاحتفاء به جاء لكونه «شخصية علمية نقدية تنويرية عربية مرموقة»، و«حمل مهمة التنوير النقدي منذ منتصف الثمانينات الميلادية من القرن العشرين مستهلاً إياها بكتابه (الخطيئة والتكفير)، إذ يواصل منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم طروحاته العلمية والنقدية والفلسفية التي أحدثت نقلة نوعية في الخطاب النقدي العربي، وأسهمت أبحاثه في نقل وتوطين مناهج النقد الأدبي الحديث ترجمةً وتطبيقاً، وفتحت مجالات رحبة في قيادة الطرح النقدي العربي الأكاديمي».

جانب من الجلسة الحوارية للدكتور عبد الله الغذامي (الشرق الأوسط)

الغذامي الذي ولد في السعودية عام 1946 يعدُّ أحد أبرز النقاد والمفكرين العرب، وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة إكستر في المملكة المتحدة. ومنذ ذلك الحين قدم إسهامات كبيرة في مجالات النقد الأدبي، والفكر الثقافي، والتحليل السيميائي.

وتميّز بتبنيه منهجيات نقدية حديثة، من بينها النقد الثقافي، إذ قدم أطروحات عميقة حول العلاقة بين النصوص والأنساق الثقافية. ومن أشهر أعماله كتاب «النقد الثقافي... قراءة في الأنساق الثقافية العربية» الذي شكل نقلةً نوعيةً في فهم التقاليد الثقافية والاجتماعية في العالم العربي، كما كان له دور ريادي في تقديم النقد النسوي، إذ ناقش قضايا المرأة في الأدب العربي، وأثر التقاليد على تشكيل صور المرأة في النصوص الأدبية.

وأصدر المفكر السعودي مؤلفات عديدة أصبحت مرجعاً في الدراسات النقدية، بينها «الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية» و«الثقافة التلفزيونية» و«سقوط النخبة وبروز الشعبي» و«الكتابة ضد الكتابة». وإلى جانب مؤلفاته، شارك في مئات الندوات والمؤتمرات الثقافية على المستويين المحلي والدولي، مما جعله رمزاً للحوار الثقافي، وقدّم إنتاجاً علمياً غنياً ومتنوعاً أثرى به الساحة النقدية والفكرية العربية، يشمل كتباً وأبحاثاً تناولت مختلف قضايا الأدب والنقد الثقافي، والفكر المعاصر، والنسق الثقافي.

وتناول موضوع الحداثة بشكل واسع وعميق، واعتُبر من أبرز المفكرين العرب الذين ساهموا في تفكيك هذا المفهوم، وتحليل تطوراته في السياق العربي، خصوصاً في السعودية، وقدم رؤية نقدية تربط بين الحداثة كظاهرة فكرية وثقافية، وبيَّن التحولات الاجتماعية والسياسية التي أثرت في تبنيها أو مقاومتها. ومن أبرز أعماله التي تناولت هذا الموضوع كتاب «حكاية الحداثة في السعودية» الذي يعد وثيقة نقدية وتحليلية فريدة حول صراع الحداثة في المجتمعات المحافظة.

وعمل الدكتور الغذامي أستاذاً للأدب والنقد الحديث بجامعة الملك سعود في الرياض، وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت موضوعات النقد الحديث، وقدّم محاضرات ومداخلات في مؤتمرات أدبية وثقافية حول العالم. ومن مساهماته الإعلامية كتابة مقالات دورية في صحف عربية بارزة تناولت قضايا ثقافية وفكرية معاصرة، وكان لإنتاجه العلمي أثر كبير في تطور النقد الأدبي والثقافي العربي. وقد ساهم في نقل النقد من التحليل الأدبي والبحث إلى دراسة الثقافة ما أطلق عليه «النقد الثقافي».

الدكتور عبد الله الغذامي اختير ليكون «شخصية الدورة الـ30» من المهرجان (الشرق الأوسط)

ويعدُّ من أوائل المفكرين العرب الذين أولوا اهتماماً عميقاً بالنقد النسوي، إذ قدم أطروحات متميزة ساهمت في إعادة النظر في علاقة المرأة بالخطاب الأدبي والثقافي في العالم العربي. ولا يقتصر ذلك على الدفاع عن حقوق المرأة، بل يتعداه إلى تحليل جذور التحيزات الثقافية واللغوية التي تكرس الصورة النمطية للمرأة في الأدب والمجتمع.