كانت حياة آرثر كيسلر صاخبة للغاية، رغم أنه يبدو لي اليوم أقل شهرة مما يستحق، وكل ذلك يزيد رغبتي في الكتابة عنه، خصوصاً أن قصته تعني كل كاتب. كان فيلسوفاً وكاتباً صحافياً، وربما جاسوساً، وشيء من هذا الصخب سيراه من ينظر في عناوين كتبه الكثيرة، المتدرجة من الروايات إلى الكتابة عن يوهان كبلر، وفي كل كتاب قصة صارخة وحادة. هو مؤلف كتاب «الشبح في الآلة»، الذي يُنسب خطأ إلى الفيلسوف الإنجليزي غيلبرت رايل، كتاب في علم النفس الفلسفي، والعبارة قد صاغها رايل فعلاً، لوصف النظرية الديكارتية عن العلاقة الثنائية بين العقل والجسد. يشترك الرجلان في وجهة النظر القائلة بأن عقل الإنسان كيان مادي غير مستقل، ويزيد هو بإماطة اللثام عن ميل البشرية إلى تدمير ذاتها.
كيسلر هو مؤلف كتاب «القبيلة الثالثة عشرة»، الذي صدر في 1976، وفيه طرح نظرية مفادها أن اليهود الأشكناز لا يتحدرون من بني إسرائيل في العصور القديمة، بل من الخزر، وهم شعب تركي انطلق من القوقاز وتحول إلى اليهودية في القرن الثامن ثم أُجبر لاحقاً على التوجه غرباً.
قبل سنوات الشهرة مرت به أيام كان يتلوى فيها من الجوع لشدة فقره، وفي مرحلة وسطى من حياته ساهم في كتابة موسوعة جنسية بغرض توفير المال. وفي فترة ما بين الحربين العالميتين في فيينا، انتهى به الفقر إلى أن يعمل سكرتيراً شخصياً لفلاديمير جابوتنسكي، أحد القادة الأوائل للحركة الصهيونية.
في 1926 توجه إلى فلسطين وأقام في حيفا وتل أبيب والقدس، لكنه لم يلبث أن غادر فلسطين بعد أن صرّح بأنه لم يجد أي شيء يهودي فيها. وعلى الصعيد ذاته، كان من أوائل الداعين لحل الدولتين. وفي إشارة إلى وعد بلفور، كتب يقول: «وعدتْ دولة ثانية ببلد ثالث».
في عام 1931. انضم كيسلر إلى الحزب الشيوعي الألماني، وساقته الأقدار إلى أن انتهي به الأمر في أحد سجون فرانكو، عدو الشيوعيين، لكنه نجا من المصير المتوقع فكتب رواية بعنوان «حوار مع الموت» تعدّ من عيون أدب السجون وعذاباتها. لم يدم حماسه للشيوعية فاستقال في عام 1938 بعد أن أصيب بخيبة أمل في الستالينية، وبعد سنين من الإعجاب بإنجازات الاتحاد السوفياتي أصبح عدواً له يقيم المحاضرات للتحذير من تمدده. في الواقع لم يكن موقفه بسبب ممارسات ستالين فقط، فقد كتب في «الكتابة الخفية»: «لقد اتجهت إلى الشيوعية في عام 1931 كما ينطلق الإنسان صوب نبع ماء، وتركت الشيوعية في عام 1938 مثلما يزحف الإنسان خارجاً من نهر مسموم، مقذوفاً به مع حطام المدن الغارقة وجثث الغرقى».
عقد من العمر يكفي ليتغير شكل الحياة... فبعد انتقاله للإقامة في بريطانيا عام 1940. نشر روايته «ظلام الظهيرة»، وهي عمل مناهض للشيوعية أكسبه شهرة عالمية، في حين عدّه الشيوعيون خائناً لمبادئه، ويقال إنه عمل سرّاً مع قسم الدعاية البريطاني المناهض للشيوعية في أثناء الحرب الباردة.
بعد بداية مادية صارمة صار لكيسلر اهتمام عميق بالتصوف وانبهار بالخوارق، صبغ الكثير من أعماله اللاحقة وناقش ظواهر الشعور، مثل الإدراك خارج الحواس، والتحريك النفسي، والتخاطر. في كتابه «جذور الصدفة» قرر أن مثل هذه الظواهر لا يمكن تفسيرها بالفيزياء النظرية.
هذا الاهتمام له قصة حكاها في «الكتابة الخفية»، فقد ذكر أنه لما كان في السجن الانفرادي بتهمة التجسس، عرف أن المساجين كانوا يؤخذون كل ليلة ويوضعون أمام جدار المقبرة ثم تطلق عليهم النيران، ولربما سمع صوت الزنازين المتاخمة لزنزانته وهي تفتح في الظلام ويخرج السجين عنوة وتذهب بهم الخطوات إلى أن يسمع صوت الرصاص. وقد وصف الخوف العميق الذي اجتاحه من أن يكون مصيره مماثلاً، حتى خاض تجربة الوعي الصوفي، وعي مختلف بالمرة بالنسبة لرجل لم يؤمن قط بأي دين. وقد وصف هذا الوعي بقوله: «لقد انمحت الأنا من الوجود وذابت في الحوض الكوني، حيث يغرق التوتر، حيث التطهر المطلق من الانفعالات، والسلام العابر نحو فهم كل شيء. لقد صدمني كشيء بديهي أننا كلنا مسؤولون عن بعضنا، لا بالمعنى السطحي لهذه العبارة عن المسؤولية الاجتماعية فحسب، وإنما بسبب أننا - وبصورة لا يمكن التعبير عنها - نتشارك في الجوهر أو الهوية نفسها كحال الإخوة السياميين، أو مثل الأوعية الدموية المتصلة ببعضها». لقد وصف الوعي الصوفي وصفاً لا يستطيعه كبار المؤمنين.
في عام 1976 أصيب بمرض باركنسون، ولم يلبث أن أصيب بسرطان الدم. وفي 1 مارس (آذار) 1983. انتحر كيسلر وزوجته سينثيا معاً في منزلهما بلندن بابتلاع كميات مميتة من الكبسولات، وقد برر انتحاره برسالة ورد فيها:
«إن الأسباب التي دفعتني إلى اتخاذ قرار بوضع حد لحياتي بسيطة ومقنعة، مرض باركنسون وهذا النوع البطيء من سرطان الدم. لقد احتفظت بهذا الأخير سراً حتى عن الأصدقاء المقربين لكيلا يحزنوا. بعد تدهورٍ جسدي مطرد خلال السنوات الماضية، وصل الأمر الآن إلى حالة حادة مع تعقيدات إضافية تجعل من المستحسن البحث عن الخلاص الذاتي الآن، قبل أن أصبح غير قادر على اتخاذ الترتيبات اللازمة. أتمنى لأصدقائي أن يعرفوا أنني سأترك رفقتهم وأنا في حالة ذهنية سليمة، مع بعض الآمال الخجولة في حياة أخرى غير شخصية تتجاوز حدود المكان والزمان والمادة وتتجاوز حدود فهمنا. لقد دعمني هذا الشعور المحيطي (الوعي الصوفي) في كثير من الأحيان بتخفيف اللحظات الصعبة، وهو يفعل ذلك الآن، بينما أكتب هذا. ما يجعل من الصعب اتخاذ هذه الخطوة الأخيرة هو انعكاس الألم الذي لا بد أن ألحقه بأصدقائي الباقين على قيد الحياة، وقبل كل شيء زوجتي سينثيا. أنا مدين لها بالسلام النسبي والسعادة التي استمتعت بها في الفترة الأخيرة من حياتي، ولم يسبق لي أن استمتعت بها من قبل».