«الوجه الآخر للظل» لرشيد الضعيف

الواقع في قبضة الفانتازيا والخرافة

«الوجه الآخر للظل» لرشيد الضعيف
TT

«الوجه الآخر للظل» لرشيد الضعيف

«الوجه الآخر للظل» لرشيد الضعيف

أذكر أنني وزملائي دعونا الروائي رشيد الضعيف لإلقاء محاضرة عن تجربته ككاتب في أحد مؤتمرات «الجمعية الأوروبية للأدب العربي الحديث»، منذ 10 سنوات أو نحو ذلك. ألقى حديثاً شائقاً عن السخرية والفكاهة في الأدب العربي الكلاسيكي، على نحو ما نجد في الجاحظ على سبيل المثال، وأعرب عن أسفه أن هذا التقليد العريق في الأدب العربي قد انحسر من المشهد الحديث، وأن الكتابة الأدبية قد أصبحت في عصرنا هذا تقتصر على الجدية والجهامة والنكد. كانت التفاتة ألمعية منه وقعت موقعاً حسناً لديَّ ولدى جمهور الزملاء المشاركين في المؤتمر. كان رشيد الضعيف يتحدث بالطبع من واقع تجربته كروائي تلعب السخرية والنقد الاجتماعي اللاذع وإيصال الرسالة عن طريق الإضحاك المتعاطف دوراً أساسياً في رواياته. وكأنه في محاضرته كان يحاول استقصاء الأصول التاريخية لمنهجه في الكتابة الروائية، محدداً موقعه كسليل محدث لتقليد عريق، ومؤكداً أن السخرية والضحك هما فن في غاية «الجدية»، وأن للأدب سبيلاً فيهما إلى قلوب الناس وعقولهم لا يقل شأناً عن سبيل العبوس والتجهم.

جاءت محاضرة رشيد الضعيف وقتها مصداقاً لما كنت قرأته واستمعت به من رواياته، مثل «أوكى مع السلامة» و«تصطفل ميريل ستريب» و«هرة سيكيريدا» وغيرها. إلا أنني فُوجئت برواية «الأميرة والخاتم» المنشورة سنة 2020 التي عرجت على طريق لم يسبق أن سلكها الكاتب من قبل، حتى كدت أشك في أنه كاتبها. أعترف بأنني لم أقوَ على إكمالها، وقلت لنفسي: لعلها شطحة مما يعتري الكتاب يعود بعدها الضعيف إلى سابق عهده وجميل مألوفه. لكن ها أنا أجد نفسي أمام روايته الأخيرة الصادرة في 2022، «الوجه الآخر للظل»، وأجد أنه قد ضل طريق العودة، وما زال ماضياً على ما أراه «سكة الندامة». هذه المرة صممت على قراءة الرواية بصفحاتها المئتين والسبع حتى آخر كلمة، فلم يعد من الممكن صرفها كنغمة شاذة في أعمال الكاتب، ما دام قد واصل الكتابة والنشر في المقام نفسه.

لست متأكداً أين أصنف رواية مثل «الوجه الآخر للظل». هي تنتمي لعالم الفانتازيا، ذلك العالم الخيالي، البعيد من الواقع، الذي يستخدم مفردات الواقع كما نعرفه، لكنه يعيد صياغتها على نحو غير واقعي، ويضيف إليها مفردات لا وجود لها في الواقع المعيش. في الفانتازيا لا يُعول على المنطق الواقعي، وإنما نجد أنفسنا في مواجهة خوارق وأعاجيب مما يُزري بقوانين العِلية والقوانين الطبيعية كما نعرفها في عالمنا المحسوس. اطلعنا على شيء من ذلك في «ألف ليلة وليلة». لكن يبدو أن رشيد الضعيف نظر فرأى إلى أين وصلت «ألف ليلة»، وقرر لنفسه أن يشطح أبعد مما شطح خيالها الشعبي الخصب، وأن يمعن في الابتعاد عن الواقع، فيقيم عالماً موازياً يكاد يخلو من أي من مألوفاتنا اليومية.

نحن هنا في حضرة عالم شخوصه الملوك والملكات والوزراء والحكماء. في حضرة ممالك لا أقول من العصر القديم. فهي ليست من أي عصر. لا معالم لها تصل إليها بأي عصر تاريخي. هي تقوم وسط الصحراء. قد تكون فيها مبانٍ وشوارع وحدائق، لكن ليس لأي من هذه الظواهر حضور محسوس. هي مجرد ديكورات لخوارق الأحداث. المشهد الروائي شديد التجريد. والأحداث والأفعال البشرية تمليها النبوءات والأحلام وتفاسير الأحلام. الجن فاعل في الأحداث بقدر ما البشر فاعلون. الأفاعي تتكلم وتخطط وتُجند أو تتطوع في خدمة الملك. الملكة تَحْمَل من غيمة عابرة في السماء بالتزامن مع حشرة تزورها في الفراش، فتستدعي غضب الملك - زوجها - الذي لم يمسسها. تضطر للهرب وحيدة إلى الصحراء الموحشة حيث تضع وليدها المعجزة. أهو حبلٌ يحاكي الحبل الشهير بلا دنس؟ لا نعرف ولا نستطيع أن نجزم بشيء؛ فالنص لا يقودنا بشكل مؤكد في ذلك الاتجاه. ولا مناص من أن يخطر في بالنا ذلك الخاطر، خصوصاً أن الملكة تحيط بها أجواء البراءة والقدسية، وتبدو دوماً في حماية قوى خارقة، فالسحب تظللها من قيظ الصحراء، والنسور تنقض من علٍ لتنقذها من أخطار وحوش البادية، والنار إذا ما اشتعلت حولها، لا تكون إلا برداً وسلاماً. هذا إلى جانب أن طفلها وليد الغيمة أيضاً تحيط به الظواهر الخرافية الخارقة، ورغم أنها يضيع منها في الصحراء الموحشة، فإنه ينجو بمعجزات لا حصر لها من كل الأخطار، ويجد حليب الرضَّع وطعام الناشئة والماء الزلال فلا يجوع ولا يعطش أبداً، ولا تنزل به نازلة من النوازل.

ما كل هذا؟ ما الذي يفعله رشيد الضعيف بالضبط؟ يقرأ المرء فصلاً بعد فصل، بحثاً وراء المعنى، وراء الغاية، لكن يبقى الغليل بلا رواء. ولا نملك إلا أن نواصل القراءة. خارقة بعد خارقة. أعجوبة بعد أعجوبة. تكراراً بعد تكرار. دائماً على المنوال ذاته. يتواصل السرد في فصول جد قصيرة، وفي لغة شعرية جميلة، لكنها بسيطة بساطة الحكاية الشعبية. لغة تشارف عتبات الصوفية. لغة تتأمل في الطبيعة وتقرأ الحكمة الظاهرة والحكمة الخفية فيما تصف بين الفينة والفينة.

يعثر جنود الملك على الملكة الهاربة في الصحراء بعد سنوات لا ندري عددها، ويأتون بها إلى الملك أسيرة ذليلة؛ فهي في عينه وعين الشعب خائنة ساقطة، فتُسام ألوان العذاب ويُحكم عليها بالموت حرقاً، إلا أن الخوارق تحميها من كل ألم، والنار لا تصيبها بعطب. من جهة أخرى، يبلغ الطفل التائه في الصحراء منذ مولده، الذي سُمي «عَدْيا»، إلى أعتاب الشباب، ويصل إلى المدينة المملكة ويلتقي بـ«أبيه» الملك، الذي هو ليس أباه، فهو وليد غيمة سماوية كما علمنا في البداية. لكنه يخاطب الملك بـ«أبتي» بناءً على نصيحة أمه التي كان قد التقاها بين ألسنة اللهب التي لا تؤذيه ولا تؤذيها وسط دهشة الغوغاء المحتشدين ورعبهم مما يرون. فإن كان عديا ابن الغيم، وإن كانت الملكة لم يمسسها الملك، فكيف اتفق أن الفتى الآن يدعو الملك أبتي، وأن أمه قالت له أن يفعل ذلك؟ ليس هناك تفسير يقدمه النص. ولا أدري إن كان الكاتب يتوقع أن يأتي التفسير من عند القارئ. وليس عندي شخصياً مِن تفسير سوى الإحالة مرة أخرى على القصة الدينية المشهورة عن الحبل بلا دنس. هل هذه محاولة من رشيد الضعيف لطرح تلك القصة في شكل أمثولة؟ ربما. لكنها «ربما» تتمسك بصفتها الاحتمالية الصرف، وببعدها عن أي جزم أو يقين.

تنتهي الرواية بموت الملكة وتصالح الأب والابن، ما قد يبدو للحظة أمراً طيباً؛ فقد أدَّت الملكة رسالتها واهتدى الملك الضال وانضم إليه ابنه القدسي، لكن الروائي لا يتركنا في معية هذا الوهم، فالفصل الأخير من الرواية يكاد ينافس رؤيا يوحنا اللاهوتي في الإنجيل بما يحويه من تخيلات خارقة. فما إن توقف قلب الملكة عن النبض، حتى «اضطربت السماء، فاصطدم النجم بالنجم، وجُنت النجومُ سرايا بلا اتجاه، وانقلبت الشمس إلى مغيبها بلمحة بصر، وعمت الظلمة الكونَ كل الكون، وانطفأت النجوم، واحتار القمر كيف يسعى (...) وفي هذا الليل البهيم، وفي هذه الظلمة القاتلة، انخضت البحار، وفاضت عن شواطئها (...) وخرجت حيوانات البحر من البحر، ورادت أرض البشر (...)، والتهمت الناس الذين تأخروا عن اللجوء إلى المخابئ...». (ص 204 - 205)، ويتحول جسد الملكة والزوجة والوالدة إلى «قطعة من ضوء في هذه العتمة الكونية القاتلة» يسجد له الملك والابن. (206)

لا أملك في النهاية إلا أن أتساءل: ما الذي حدث لرشيد الضعيف؟ أفتقد بشدة الناقدَ الاجتماعي الساخر في تاريخه الروائي الطويل. وأتساءل: أهو التقدم في العمر (78 سنة) الذي يعطي الكاتب رخصة أن يكتب ما يحلو له وأن يهجر طرقه المألوفة؟ أهو الضيق بالواقعية والميل إلى الأمثولة الجامعة الشاملة الرامزة في غير تعيين ولا تحديد؟ أهو الضجر من المعنى والميل إلى نص هيولي منفتح وغير متشكل ولا معنوي؟ قد تكون الإجابة من هذا أو لا شيء من هذا.

* أستاذ فخري للأدب العربي الحديث في جامعة إكستر



«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
TT

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام. صارا صديقين، لا بل رفيقين، جمعتهما المقاهي والجلسات الشعرية والعائلية. وفي منزل سعادة، في بلدة شبطين اللبنانية، كتب بولص واحدة من أجمل قصائده «آلام بودلير وصلتْ». لكن بولص سيغادر إلى الولايات المتحدة عام 1971، وتصبح الرسائل هي صلة الوصل الوحيدة بين الصديقين، إضافة إلى تلك اللقاءات العابرة، التي سيكون آخرها في «مهرجان لوديف» في فرنسا عام 2007؛ أي قبل أن يرحل بولص عن عالمنا بنحو شهر واحد.

الرسائل التي تبادلها الشاعران، بقيت طي الأدراج إلى أن أفرج وديع سعادة عما في حوزته منها، إضافة إلى بعض ما كتب إلى بولص وعنه، وصدرت مؤخراً عن «دار نلسن» في بيروت، في كتاب يحمل عنوان «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة». هي في أغلبها تلك الرسائل التي كتبها بولص بعد وصوله إلى الولايات المتحدة، مباشرة، ولا يزال قلبه معلقاً بأصدقائه الذين تركهم خلفه. في هذه الرسائل يسأل بولص عن الأصدقاء، يذكرهم واحداً واحداً، ويطلب من سعادة أن ينقل إليهم تحياته: «إلى أدونيس وجاد الحاج ورياض فاخوري وجان دمو والأب يوسف وخليل الخوري ودلال ونهى»؛ ذلك أنه «كلُّ تذكُّرٍ، مطهّر. الأصدقاء البعيدون ليسوا أشباحاً أبداً. بعض القريبين هنا، أشباح».

إنها الغربة التي تتأكّل الشاعر وتشعره بالألم. يتمسك بالشعر لعل به يكون الخلاص، وهو بالفعل كذلك؛ لقد «ساعد الشعر على إنقاذي كثيراً. منذ أن وطئت هذه الأرض الأجنبية والشعر يلتهب في باطني ليوازن بين البرد المسموم في الخارج واليقظة العنيفة في الداخل». وتزيد من غربته اللغة، وصعوبة العثور على كتب ليصبح مستعداً «أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر، فأنا أقرأ ليل نهار هذه اللغة اللاشعرية، بفضائلها التي لا تمسّني إطلاقاً: لغة البرد والأعصاب».

الكتاب يضم في أغلبه رسائل بولص، في حين أن رسائل سعادة بقيت في يد من يمتلكون أرشيف الشاعر العراقي، ولا ندري إن كنا سنصل إليها، وعوضاً عنها نجد في المؤلّف تلك القصائد التي كتبها سعادة لصديقه، إضافة إلى مرثيتين كتبهما فيه بعد وفاته، ونبذة عن حياة الشاعرين، وصوراً تجمعهما.

يكتب وديع سعادة أن «العلاقة المتينة بيني وبين سركون بولص لم تكن علاقة صداقة، بل علاقة شعرية عميقة في فهمنا المشترك للشعر، بما هو ليس عملية كتابية فحسب، بل أسلوب حياة أيضاً. لم يكن سركون شاعراً فقط في الكتابة، بل كذلك في أسلوب حياته. لم يكتب الشعر فحسب، بل عاشه أيضاً».

ويصف الناشر سليمان بختي الكتاب بأنه «قطعة من حياة ربطت شاعرين... ولربما آخر ما تصفّى من أدب التراسل على الورق بين الشعراء والأدباء».

ويعتبر بختي في مقدمته أن الشاعرين من أركان جيل ما بعد مجلة «شعر» وروادها الذين غيّروا وجه الشعر العربي الحديث وأسّسوا قصيدة النثر. وهما من الجيل الذي رسّخ قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث. و«من خلال رسائل سركون بولص (1944-2007) إلى وديع، أو من خلال الكلمات والقصائد التي كتبها وديع سعادة مهداة إليه، أو في وداعه ورثائه، نلمس مبلغ عمق الصداقة والهم الواحد والنظرة المشتركة إلى الوجود والحياة والشعر». ويشيد بختي بتلك الشفافية الجارحة والنبرة العالية، فيما يخطه بولص لصديقه.

واحدة من المسائل اللافتة التي عادة ما يعود إليها بولص في رسائله هي دور المثقف، واستقلاليته، وصدقه. يكتب لصديقه غاضباً، بعبارات متمردة: «لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج، أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو بوذا أو الشيطان... ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن (معرفة النفس) وباقي الخرق الثقافية الأخرى».

تدهشك هذه النزعة الطوباوية الأخاذة، وهو يريد للمثقف ألا يكون شيئاً آخر غير «أناه» المطهّرة من كل ما حولها، راغباً في التخفف من الأحمال. يكتب في إحدى رسائله عن غضب لا يستطيع أن يقاومه، حين تخطر له «جميع الأفكار الخاطئة التي تتسرب في وطننا وبين مثقفينا عن الفكر الأوروبي وعن الثقافة الأوروبية، وذلك عن طريق مجموعة معدودة من الكتاب المسيطرين على المجلات والذين ليس لهم حق في ذلك». ويعتبر أن «الثقافة» هي «حلم يتغذّى عليه تلاميذ الجامعة ذوو النظارات الطبية والشعراء الذين يعالجون (مسائل العصر) بجبين مقطب». أما الشيء الوحيد الذي يستحق المعالجة في رأيه فهو «أن تفتح فمك فجأة وأنت في الشارع ومن حولك طنين الخلية الإنسانية وتقذف من أحشائك ذلك البركان الذي هو أنت. وبعد ذلك تستطيع أن تقف لمدة نصف ساعة مراقباً بدهشة (أناك) المحترقة وهي تتسلق أكتاف البشر وتدخل أنوفهم الضائعة».

أي سخط حمله هذا الشاعر؟ وأي عبثية؟ وأي شعور عميق بالمسؤولية؟ يذكرنا ما كتبه بولص حول دور المثقف، بتلك المُثل ونبل المبادئ التي سادت في سبعينات القرن الماضي؛ إذ يقول عن واجب الكاتب تجاه نفسه أولاً، بحثاً عن النور: «علينا أن نخترق هذا الدرع المميت؛ ثقب أو ثقبان ينبثق منهما الضوء ونعرف بيقين أن النهار هناك، إنه هناك! هذا ما حدث لي، ويمكنني القول إنني قد رأيت عدة ثقوب في ذلك الدرع، وعلى النور المتسرب منها أحيا الآن». شيء من الصوفية، وكثير من الغضب، والرغبة في التغيير، والانقلاب على الذات.

ومن جميل ما نقرأه في الرسائل هو حديثه عن مشاريعه الأدبية، وكثير منها لا أثر لها؛ رواية يكتبها بعنوان «صحراء العالم»، وتحضيره لدراسة عن الرواية الحديثة، ومجموعة من القصص، ورسالة طويلة عن السياسة والفكر في أميركا لتنشر في مجلة «مواقف»، ومجموعة شعرية بالإنجليزية.

في الجزء الثاني من الكتاب، عوضاً عن رسائل وديع الضائعة، نقرأ قصائده في صديقه سركون، يقول في إحداها:

أعطني رداءك يا سركون

بردتُ

أَدفئني قليلاً بترابك

ويعتبر أن بولص «هو شاعر اللامكان، الذي عبر أمكنة كثيرة (العراق، ولبنان، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا...)، لم يكن يعبر في الجغرافيا. كان يعبر في ذاته، عمودياً في الأعماق، وفي الغور هناك يحاول هدم الحدود بين الحلم والواقع».

ولأن اللغة أصبحت وطنه الافتراضي الوحيد المتبقي؛ فقد «حفر فيها عميقاً علّه يجد نفسه». ويتحدث سعادة عن العلاقة الحميمة بين سركون بولص وآلام شارل بودلير.

«بودلير الذي أبحر في باخرة نحو آسيا حاملاً آلامه، وكادت الباخرة تغرق به وبمن فيها، وصلت آلامه إلى سركون باكراً. فمن أوائل قصائده (آلام بودلير وصلتْ). إلا أن باخرة سركون لم تكن في البحر، بل في أحشائه: (هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي)».

إنني مستعد أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر!

سركون

واختار وديع سعادة قصائد مختارة اعتبر أنها تحمل في كلماتها أصداء من حكاية الصداقة التي جمعته ببولص، من بينها قصيدة «رفاق» التي يقول فيها:

لديك ما يكفي من ذكريات

كي يكون معك رفاق على هذا الحجر

اقعدْ

وسَلِّهمْ بالقصص

فهم مثلك شاخوا

وضجرون

قُصَّ عليهم حكاية المسافات

التي مهما مشت

تبقى في مكانها

أخبرْهم عن الجنّ الذي يلتهم أطفال القلب

عن القلب الذي مهما حَبِلَ

يبقى عاقراً

حدِّثْهم عن العشب الذي له عيون

وعن التراب الأعمى

عن الرياح التي كانت تريد أن تقول شيئاً

ولم تقلْ

وعن الفراشة البيضاء الصغيرة التي دقَّت على بابك في ذاك الشتاء

كي تدخل وتتدفأ...

وفي قصيدة «غيوم» يكتب وديع سعادة:

في عيونه غيوم

ويحدِّق في الأرض

علَّها تمطر

الكتاب لطيف؛ لأنه يجمع بين شاعرين، لكل منهما فرادته ومزاجه وشطحاته وسورياليته، لكنهما يلتقيان في اعتناقهما الشعر كأسلوب حياة، وليس كرديف أو موازٍ لها. ومع أن الكتاب يبقى ناقصاً تلك الرسائل التي سطّرها وديع في ردّه على سركون، فإن الوقت قد يكون كفيلاً بإظهار الضائع، وإعادة المفقود.