أزمة ثقافيّة عميقة في الغرب

فجرتها حرب غزة وتعددت منصاتها بالجامعات ومعارض الكتب

يانيس فاروفاكيس
يانيس فاروفاكيس
TT

أزمة ثقافيّة عميقة في الغرب

يانيس فاروفاكيس
يانيس فاروفاكيس

يعتزم وزير مالية يوناني سابق، ومؤلف عدة كتب واسعة الانتشار، ومرشح دائم للانتخابات الأوروبيّة، رفع دعوى على السلطات الألمانية بعدما فرضت عليه حظراً لمدة عام من التحدث في أنشطة عامة على الأراضي الألمانية، أو حتى افتراضياً في حال تم تنظيم النشاط من قبل جهة ألمانية. وقال يانيس فاروفاكيس إنّه سيلجأ بداية إلى المحاكم المحليّة في ألمانيا، وإذا تطلب الأمر إلى أعلى المحاكم الأوروبيّة لحقوق الإنسان.

وكان فاروفاكيس يعتزم المشاركة في مؤتمر للتضامن مع الفلسطينيين من تنظيم جهات يسارية ويهودية ألمانية، وألغي في اللحظة الأخيرة من قبل السلطات، وبمحض القوة، بحجة أنّه مخالف للقوانين التي تحظر معاداة الساميّة في ألمانيا. واقتحم رجال الشرطة مقر المؤتمر بعدما قطعوا الكهرباء عنه، وطردوا الجمهور المحدود الذي سمح له بالدخول إليه، واعتقلوا عشرات، بمن فيهم شاب يهودي كان يحمل لوحة تقول «يهود ضدّ المذبحة». وسخر الشاب من معتقليه بسؤالهم عما إذا كان تغيير اللوحة إلى «يهود مع المذبحة» كفيل بإطلاق سراحه.

ولم يقتصر الأمر على فاروفاكيس، بل ومنع آخرون من دخول الأراضي الألمانية وأعيدوا من مطار برلين لمنع مشاركتهم في ذات المؤتمر، ومنهم الطبيب البريطاني الفلسطيني الأصل غسّان أبو ستة الذي خدم في مستشفيات غزة متطوعاً لما يقرب من الشهرين، وكان يعتزم الإدلاء بشهادته عن انطباعاته أثناء ذلك، وأيضاً السياسي الإيرلندي ريتشارد بويد باريت. واكتشف أبو ستة لاحقاً أن الحظر الذي فرضته السلطات الألمانية عليه لمدة عام له مفاعيل تمتد عبر الاتحاد الأوروبي بدوله السبع والعشرين، إذ منع لاحقاً من الدخول إلى الأراضي الفرنسية، وأعيد إلى لندن رغم أنه كان يحمل دعوة للتحدث أمام مجلس الشيوخ الفرنسيّ.

بالطبع، لم تكن حالة المؤتمر الألماني المتضامن مع الفلسطينيين أول الأحداث المثيرة للجدل التي تسببت فيها الحرب الإسرائيليّة على غزة، وقطعاً لن تكون آخرها، إذ انسحبت على مجمل الأنشطة الثقافية والفنية والموسيقيّة، وتعددت ساحاتها من الجامعات إلى معارض الكتب، ومن المهرجانات الثقافيّة إلى الحفلات الموسيقيّة، ومن الجوائز الأدبيّة إلى الأمسيات الشعريّة، ومن صفحات الصحف إلى أروقة المحاكم، كما اتسع نطاقها ليشمل كل الغرب تقريباً من أقصى الساحل الغربيّ للولايات المتحدة، إلى شرقي أستراليا، مروراً بعواصم الغرب الثقافية، وحواضره الأكاديمية في برلين، وباريس، ولندن، وأمستردام، وبروكسل، حتى يمكننا الزّعم اليوم بأن الغرب يعيش في خضم أزمة ثقافية عميقة هزّت وجدانه، وأقلقت مزاجه، إذ وجد نفسه بعد سنوات من التمدد مرتاحاً على أريكة ناصر الحريّات، ومتعهد نشر الديمقراطيّات إلى شعوب العالم (المتخلفة) متلبساً بأسوأ ما يمكن أن يتخيله عقل عن أداء الديكتاتوريات المدان كما لو كان فصلاً في رواية جورج أورويل الشهيرة 1984: اقتحام الجامعات، واعتقال آلاف الطلاب المحتجين وأساتذتهم بعد تعرضهم لضرب وحشي، وطرد أساتذة جامعيين وفلاسفة بارزين من مناصبهم التعليمية لتوقيعهم قبل سنوات أحياناً على عرائض تؤيد تحقيق سلام عادل للفلسطينيين، وفرض أحكام قاسية بالسجن والغرامة لدى استخدام جمل كلامية محددة في العلن، وتورط صحف عالمية في نشر وتزوير تحقيقات حول مجريات الحرب على غزة، والكشف عن تعليمات مشددة للصحافيين بانتقاء حذر وموجه للتعبيرات التي يمكن أو لا يمكن تداولها عند الكتابة عن الأحداث، وسحب جوائز، أو وقف التمويل، أو إلغاء أنشطة، أو معارض بحسب تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي للأشخاص المستهدفين، سواء بعد اندلاع الحرب الحالية، أو حتى من سنوات طويلة، وغيرها.

أعراض أزمة الغرب هذه تجاوزت سريعاً حدود الانقسامات التقليدية في الديمقراطيات بين السلطات والمواطنين، وبين النخب والأكثريات، إلى شقاق عميق داخل النخب نفسها السياسية والأكاديمية والاقتصاديّة، وفي قلب مختلف الطبقات، والفئات العرقية والدينية –حتى بين اليهود الغربيين أنفسهم-، وبدأت تستدعي نوعاً من تباين مجتمعي يتجاوز صراعات الهويات الثقافية والجندرية التي سادت طوال عقد سابق، إلى تموضعات لا مألوفة في السياقات الغربيّة تبدأ من الموقف السياسي المعلن من (إسرائيل) مقابل الفلسطينيين، ولا تنتهي عند الخيارات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وحتى الفنيّة.

الذين تابعوا الانتخابات البلدية الأخيرة في بريطانيا مثلاً لاحظوا دون شك كيف ساهم موقف حكومة حزب المحافظين المؤيّد بشكل عام لـ(إسرائيل) في تكريس تراجع شعبية مرشحيه إلى مستويات متدنية تاريخياً في كثير من المواقع التي طالما عدت معاقل مغلقة لهم، وفي الوقت نفسه، حرمت حزب «العمال» المعارض من تحقيق المكاسب التي كان يمكن أن يحققها، وأيضاً بسبب موقف قياداته المعادية للفلسطينيين، وهو ما أتاح للعديد من المرشحين المستقلين وفي الأحزاب الثانوية -مثل الخضر، والليبراليين الديمقراطيين- تحقيق نتائج ممتازة في مجالس وبلديات عدة على برامج انتخابيّة أعلنت دون مواربة دعمها للشعب الفلسطيني. واعترف مديرو حملة حزب «العمال» بما أسموه «تأثير غزّة» على توجهات قطاعات عريضة من الناخبين البريطانيين، لا سيما أولئك المتحدرون من أصول مهاجرة مسلمين، وعرباً، وأفارقة، وغيرهم، وقدروا أن 20 في المائة من الأصوات قد تكون فقدت في البلديات التي فاز بها العمال بسبب مرتبط بمواقف قيادة الحزب من غزة، هذا سوى المجالس والبلديات التي انتهت بيد المستقلين والأحزاب الأخرى. وكان الحزب نفسه قد خسر أيضاً سيطرته على عدد من المجالس البلدية المهمة (مثل مدينة أكسفورد مثلاً) حتى قبل الانتخابات الأخيرة، بعدما استقال شاغلوها من عضوية حزب «العمال»، وأعلنوا استقلالهم عنه احتجاجاً على ما وصفوه بتواطؤ زعيم الحزب مع الدولة العبرية. ومع أن مراكز الأبحاث التي تراقب الانتخابات البريطانية قللت من المدى الممكن لتأثير غزة على الانتخابات البرلمانية العامة المقبلة في المملكة، التي ستجرى في أيّ وقت خلال الأشهر الستة المقبلة، فإنها توقعت أن ما يتراوح بين 6 - 10 مقاعد على الأقل قد تكون خارج قدرة الحزبين الكبيرين (المحافظين والعمال) على الفوز، ولمصلحة مرشحين مستقلين، أو من أحزاب صغيرة أقرب لتأييد الفلسطينيين. وبحسب التوقعات الحالية، فإن البرلمان الذي قد يتمخض عن الانتخابات المقبلة سيكون على الأغلب معلقاً لا هيمنة كبيرة لحزب واحد عليه، ما يزيد من تأثير كتلة «غزة» على عمليات اتخاذ القرار في قلب المؤسسة التشريعية الأهم في النظام السياسي البريطاني، وبالتالي الخيارات الاقتصادية، والدّبلوماسية، والدّولية التي يمكن أن تقدم عليها الحكومة البريطانية مستقبلاً.

تَوَسُّع نطاق الأزمة إلى مساحة الخيارات العامة –كتلك الاقتصادية المتعلقة بماهية الاستثمار العام على سبيل المثال- أخذت شكلها الأوضح إلى الآن في مطالبات طلاب الجامعات المحتجين في الولايات المتحدة وبريطانيا وإيرلندا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها بسحب أموال وقفيات الجامعات التي يتم استثمارها في إسرائيل، أو في شركات تمدها بالأسلحة والتقنيات ذات الاستخدام العسكريّ -وتقدر في الولايات المتحدة وحدها بـ500 مليار دولار. ويصر الطلاب أيضاً على أن تنفذ جامعاتهم مقاطعة أكاديمية للجامعات ومراكز الأبحاث في الدولة العبرية بوصفها شريكة في المجهود الحربي للجيش الإسرائيلي، وأن تلغي أي اتفاقات قائمة، سواء مباشرة بين الجامعات، أو عبر شراكات حكومية، وترتيبات أممية. ويجب ألا ننسى هنا أن هؤلاء الطلاب يدرسون في جامعات النخبة الغربية التي تجهز كوادر وقيادات المستقبل.

تقول لوري أندرسون، وهي فنانة موسيقيّة طليعيّة: إنها جاءت إلى برلين في بداية شبابها –في التسعينات من القرن الماضي-، لأن المدينة كانت في وقت ما منارة للحريّات، وحاضنة للتجارب الفنيّة، لكنها الآن تعتقد بأن المشهد انقلب كليّة بعد انطلاق الحرب على غزة. دُعيت أندرسون مؤخراً لتولي منصب أكاديمي مرموق في إحدى المدارس الفنية العريقة بألمانيا، قبل أن تستجوبها المدرسة حول أفكارها السياسيّة بسبب توقيعها -ضمن ستة عشر ألف فنان ومثقف وأكاديمي آخرين- على رسالة مفتوحة، عمرها عامان، نددت بسياسات الفصل العنصري التي تمارسها (إسرائيل) في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولذلك قررت أندرسون الانسحاب، والتخلي عن المنصب.

أندرسون، وخيبة أملها لما انتهت إليه الديمقراطية الغربيّة ليست سوى واحدة من ملايين الأشخاص في الغرب الذين تغيّرت نظرتهم إلى محيطهم الثقافي والاجتماعي بصفة جذريّة خلال أشهر قليلة. ومن المؤكد أن هذه التحولات العريضة ستكون لها مترتبات مباشرة، سياسياً واقتصادياً، وأخرى طويلة المدى بشأن المنطق الفلسفي في نظم الديمقراطيات الغربيّة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. إنها إرهاصات موت نظام ثقافي استنفد أغراضه، وتشكل صعب لنظام آخر جديد لا ندرك صورته بعد، لكننا، دون شك، سنرى كثيراً من الوحوش لحين اكتمال ولادته –كما كان يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي.

اقرأ أيضاً


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بمجموعة من اللقى البرونزية، منها مجسمات منمنمة تمثّل رأس ثور يتميّز بأنف طويل صيغ على شكل خرطوم. تعود هذه الرؤوس في الواقع إلى أوان شعائرية جنائزية، على ما تؤكّد المواقع الأثرية التي خرجت منها، وتتبع كما يبدو تقليداً فنياً محلياً ظهرت شواهده في موقع مليحة، كما في نواح أثرية أخرى تتّصل به في شكل وثيق.

يعرض مركز مليحة للآثار نموذجين من هذه الرؤوس، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. يتماثل هذان الرأسان بشكل كبير، ويتبنيان في تكوينهما أسلوباً تحويرياً مبتكراً، يجسّد طرازاً خاصاً لا نجد ما يماثله في أقاليم جنوب الجزيرة العربية المتعددة، حيث حضر الثور في سائر الميادين الفنية بشكل كبير على مر العصور، وتعدّدت أنواعه وقوالبه، وشكّلت نماذج ثابتة بلغت نواحي أخرى من جزيرة العرب الشاسعة. ظهر رأس الثور بشكل مستقل، وحضر في عدد كبير من الشواهد الأثرية، منها العاجي، والحجري، والبرونزي. تعدّدت وظائف هذه الرؤوس، كما تعدّدت أحجامها، فمنها الكبير، ومنها المتوسط، ومنها الصغير. وتُظهر الأبحاث أنها تعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى.

في المقابل، يصعب تحديد تاريخ رؤوس ثيران مليحة، والأكيد أنها تعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، حسب كبار عملاء الآثار الذين واكبوا اكتشافها في تسعينات القرن الماضي. تتبنّى هذه الرؤوس قالباً جامعاً واحداً يتميّز بتكوينه المخروطي وبملامحه المحدّدة بشكل هندسي، وهي من الحجم المنمنم، ويبلغ طول كل منها نحو 5 سنتمترات. الأنف طويل، وهو أشبه بخرطوم تحدّ طرفه الناتئ فجوة دائرية فارغة. تزيّن هذا الأنف شبكة من الخطوط العمودية المستقيمة الغائرة نُقشت على القسم الأعلى منه. العينان دائريتان. تأخذ الحدقة شكل دائرة كبيرة تحوي دائرة أصغر حجماً تمثّل البؤبؤ، ويظهر في وسط هذا البؤبؤ ثقب دائري غائر. الأذنان مبسوطتان أفقياً، والقرنان مقوّسان وممدّدان عمودياً. أعلى الرأس مزيّن بشبكة من الزخارف التجريدية المحززة ترتسم حول الجبين وتمتدّ بين العينين وتبلغ حدود الأنف.

يشكّل هذا الرأس في الواقع فوهة لإناء، وتشكّل هذه الفوهة مصبّاً تخرج منه السوائل المحفوظة في هذا الإناء، والمثال الأشهر قطعة عُرضت ضمن معرض مخصّص لآثار الشارقة استضافته جامعة أتونوما في متحف مدريد الوطني للآثار خلال عام 2016. يعود هذا الإناء إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد وصل بشكل مهشّم، واستعاد شكله التكويني الأوّل بعد عملية ترميم طويلة ودقيقة. تتكوّن هذه القطعة الأثرية من وعاء صغير ثُبّت عند طرفه الأعلى مصبّ على شكل رأس ثور طوله 4.6 سنتمترات. عُرف هذا الطراز تحديداً في هذه الناحية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية التي تقع في جنوب غرب قارة آسيا، وتطلّ على الشاطئ الجنوبي للخليج العربي.

عُثر على هذه الآنية إلى جانب أوان أخرى تتبع تقاليد فنية متعدّدة، في مقبرة من مقابر مليحة الأثرية التي تتبع اليوم إمارة الشارقة، كما عُثر على أوان مشابهة في مقابر أخرى تقع في المملكة الأثريّة المندثرة التي شكّلت مليحة في الماضي حاضرة من حواضرها. ظهر هذا النسق من الأواني الجنائزية في مدينة الدّور الأثرية التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة، وهي على الأرجح مدينة عُمانا التي حضنت أهم ميناء في الخليج خلال القرن الأول الميلادي. كما ظهر في منطقة دبا التي تتبع إمارة الفجيرة، وفي مناطق أخرى تتبع في زمننا سلطنة عُمان، منها منطقة سلوت في ولاية بهلاء، في محافظة الداخلية، ومنطقة سمد في ولاية المضيبي، شمال المحافظة الشرقية.

اتّخذت فوهة هذه الأنية شكل رأس ثور في أغلب الأحيان، كما اتخذت في بعض الأحيان شكل صدر حصان. إلى جانب هذين الشكلين، ظهر السفنكس برأس آدمي وجسم بهيمي، في قطعة مصدرها منطقة سلوت. شكّلت هذه الأواني في الأصل جزءاً من آنية شعائرية طقسية، في زمن ازدهرت فيه التجارة مع عوالم الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط والهند. والمعروف أن أواني الشراب التي تنتهي بمصبات ذات أشكال حيوانية، برزت بشكل خاص في العالم الإيراني القديم، حيث شكّلت سمة مفضلة في الطقوس والولائم. افتتن اليونانيون باكراً بهذه الفنون وتأثّروا بها، كما شهد شيخ المؤرخين الإغريق، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعمدوا إلى صناعة أوان مشابهة مزجت بين تقاليدهم وتقاليد أعدائهم، كما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الفنية الإرثية.

من ناحية أخرى، دخلت هذه التقاليد العالم الشرقي الواسع، وبلغت ساحل الخليج العربي، حيث ساهمت في ولادة تقاليد فنية جديدة حملت طابعاً محلياً خاصاً. تجلّى هذا الطابع في ميدان الفنون الجنائزية بنوع خاص، كما تظهر هذه المجموعة من الأواني التي خرجت كلها من مقابر جمعت بين تقاليد متعدّدة. استخدمت هذه الأواني في شعائر طقسية جنائزية خاصة بالتأكيد، غير أن معالم هذه الشعائر المأتمية تبقى غامضة في غياب أي نصوص كتابية خاصة بها.