مسفر الموسى لـ«الشرق الأوسط»: «المدينة العارية» يعاين الوثائقيات بنظرة جديدة

كتابه الضخم يُعدّ المرجع الأول من نوعه لهذه الأفلام في السعودية

الدكتور مسفر الموسى أثناء توقيع كتابه في الظهران (الشرق الأوسط)
الدكتور مسفر الموسى أثناء توقيع كتابه في الظهران (الشرق الأوسط)
TT

مسفر الموسى لـ«الشرق الأوسط»: «المدينة العارية» يعاين الوثائقيات بنظرة جديدة

الدكتور مسفر الموسى أثناء توقيع كتابه في الظهران (الشرق الأوسط)
الدكتور مسفر الموسى أثناء توقيع كتابه في الظهران (الشرق الأوسط)

عام 1922، صوّر المخرج الأميركي روبرت فلاهرتي فيلمه الأول «نانوك الشمال» الذي تناول استكشاف حياة الناس في منطقة الإسكيمو. لم يكن حينها مصطلح الفيلم «الوثائقي» رائجاً، إلى أن جاء الأسكوتلندي جون غرايرسون عام 1926 ليُطلق هذا المُسمَّى على فيلم فلاهرتي عبر مراجعته النقدية في صحيفة «نيورك صن». هذه الحكاية تأتي ضمن السرد التاريخي الذي ضمّه «المدينة العارية» للأكاديمي السعودي الدكتور مسفر الموسى، وهو كتاب أول من نوعه صدر حديثاً، حاملاً شعار «المرجع الشامل في الأفلام الوثائقية الاستقصائية».

يتحدّث الموسى لـ«الشرق الأوسط»، مؤكداً أنّ الدور الأساسي للفيلم الوثائقي هو تعرية المسكوت عنه. من هنا يأتي «المدينة العارية» بوصفه محاولة لإعادة فهم النوع الداخلي الاستقصائي للأفلام الوثائقية؛ تلك التي أنهكت صنّاعها وهم يبحثون خلف النوافذ المغلقة للعبور إلى المصادر والشهود والوثائق، في محاولة مستمرّة لكشف الواقع.

الوثائقي خرج من بيئة السينما

يستند في كتابه إلى الصحافة الاستقصائية، ويعود إلى نشأة الفيلم الوثائقي الذي خرج من رحم السينما، مستشهداً بوجهة نظر المخرج الروسي فيرتوف القائل إنه من الغباء التفكير في القصص الخيالية لإنتاج أفلام لامتلاء الواقع بالقصص الممكن توظيفها، ويتابع: «استمر هذا النوع دون اتّخاذه تسمية محدّدة، وكانت الأفلام تُصنّف حينها بين الواقعي والخيالي، إلى أن جاء غرايرسون، وكان أول من أطلق تسمية الأفلام الوثائقية. الفيلم الوثائقي، إذن نشأ من بيئة السينما»، مشيراً إلى أنّ الفيلم الروائي تفوّق عليه كثيراً، مع احتفاظ الوثائقي بقيمه التقليدية، وهي الأسلوب التفسيري المُعتمِد على المُعلق الذي يبدو دوره أشبه بالمُعلم الذي يُلقي المعلومات.

الجانب الإبداعي

يرى أنّ الجمهور لاحظ خفوت الإبداع في الوثائقي مقابل نضج الروائي، مما جعل الأفلام الوثائقية خياراً غير مطروح لدى ارتياد السينما، لاقتصار عرضها في التلفزيون: «عندها بدأ الصحافيون التلفزيونيون بالتفكير في كيفية إدخال الصحافة الاستقصائية، وجدوا أنّ أفضل قالب للصحافة الاستقصائية هو الوثائقي».

بالنظر إلى هذا التسلسل، انتقل الوثائقي إلى التلفزيون عبر القالب الصحافي الاستقصائي. حينها ذُهل الناس عندما شاهدوا قصصاً مثيرة تتناول كشف الستار عن موضوعات مخفية عبر حقائق تظهر للمرّة الأولى على الشاشة بسرد قصصي. يعلّق الموسى: «هي إذن مهنة صحافية سينمائية».

التجربة السعودية

أبحر الفصل الأول من الكتاب في التجربة السعودية. فحتى قبيل نشأة قناة «الإخبارية»، لم تعرف القنوات السعودية هذا النوع البرامجي، حيث تُعدّ سلسلة الأفلام الوثائقية «سعودي» التي أنتجتها شركة «آرا» لمصلحة «التلفزيون السعودي» الأشهر في تاريخ الوثائقيات السعودية، كما يفيد الموسى. وكانت تهتم بتوثيق الجوانب التنموية للبلاد، ومع افتتاح «الإخبارية» عام 2004، بدأت ملامح الأفلام الوثائقية الاستقصائية السعودية تخرج إلى النور.

يقول عن الصحافة الاستقصائية في المملكة: «هي فن لا يزال غير مُتناوَل في الصحافة، رغم أنه يلقى رواجاً بين الناس، فهناك شبه قطيعة بين الصحافة الاستقصائية والأفلام الوثائقية»، مشيداً بتجربة قناة «العربية» عبر برنامجها الاستقصائي «مهمّة خاصة»، كذلك عدد من البرامج التي قدّمت الوثائقيات بشكل لافت.

الوثائقيات السعودية تنقصها مهارة السرد

يتابع: «الأفلام الوثائقية للعام الحالي، والتي عُرضت مؤخراً في الدورة العاشرة من مهرجان (أفلام السعودية)، جميلة ومدهشة. للمرّة الأولى نلحظ التنافس بين الوثائقي والروائي»، مستشهداً بفيلمَي «أندرغراوند» لعبد الرحمن صندقجي، و«حياة مشنية» لسعد طحيطح. يكمل: «رغم ذلك، لا نزال بحاجة إلى تطوير مهارة السرد القصصي فيها، بحيث لا ينسى صانعها القصة، ويكون ملمّاً بتقنيات السرد والبعد الإنساني وعوامل الصراع».

الدكتور مسفر الموسى أنجز كتابه خلال شهرين (الشرق الأوسط)

ولادة الكتاب في شهرين

ينطلق الكتاب بمحاولة فهمه للممارسة المهنية في الأفلام الوثائقية الاستقصائية من جدليات تتّخذ مسارين: الأول يرتبط بالعملية الإنتاجية، ويشمل بيئة الإنتاج، ونظمه الإدارية، وعلاقتها بالاستقلالية، كما مراحله الفنية؛ من الفكرة حتى العرض، بالإضافة إلى النزاعات الأخلاقية المحيطة بهذا النوع الوثائقي خصوصاً. أما الثاني فيتناول أساليب المعالجة وقدرتها على تمثيل الواقع، وأساليب البناء الفيلمي والاستدلال.

ويؤكد الموسى أنّ كتابه لكل شخص يرتبط بدراسة الفيلم الوثائقي، وللتنفيذين في القنوات التلفزيونية الذين يقدّم لها جزءه الأول نموذجاً للتطبيق، وهناك جزء لصنّاع الفيلم المحترفين الذين تشغلهم بعض القضايا الجدلية، مثل استخدام الكاميرا السرّية وأنواع التصوير في مرحلة الإنتاج... مع تنويهه بأنّ القارئ سيجد متعة فيه، وإن كان من غير المتخصّصين؛ لاتّباعه الأسلوب القصصي.

ويلفت إلى أنّ الكتاب حضر في ذهنه لسنوات، إلى أن أخبره مؤسِّس مهرجان «أفلام السعودية» ومديره أحمد الملا عن مشروع «الموسوعة السعودية للسينما» في نهاية الصيف الماضي، فقرّر حينها أن يحضُر كتابه ضمنها، رغم أنه لم يكن جاهزاً حينها: يتابع: «كنت مطالَباً بإكماله خلال شهرين، فعملتُ ليل نهار. لاحقاً أخبروني بأنه من أهم كتب الموسوعة».

سيرة الكاتب

مسفر الموسى حاصل على الدكتوراه في فلسفة الإعلام، تخصَّص في الأفلام الوثائقية الاستقصائية، ونال ماجستير الإنتاج المرئي وجماليات الشاشة من مدرسة «كوينزلاند للفيلم» في «جامعة جريفيث» الأسترالية، وهو رئيس قسم السينما والمسرح في كلية الإعلام والاتصال بـ«جامعة الإمام» في الرياض، إلى تولّيه مهمّات عدّة بينها عضوية مجلس إدارة «جمعية السينما».

كتب مجموعة أفلام وثائقية، منها: «آخر البدو»، و«الوطن في عيون الرحالة»، و«الطريق إلى جزيرة الصمت»، و«بنت الصحراء»، و«الفارون بدينهم». كما شارك في لجان تحكيم مهرجانات؛ منها «أفلام السعودية»، و«صحار السينمائي الدولي»، وجوائز منها «الإعلام السعودي»، و«التميز الإعلامي»، بالإضافة إلى «مسابقة المهارات الثقافية» التي تنظّمها وزارة الثقافة.


مقالات ذات صلة

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

يوميات الشرق بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

في خطوة عدّها الاتحاد الأوروبي «علامة فارقة في الشراكة الثقافية مع ليبيا»، يواصل مهرجان للأفلام الأوروبية عرض الأعمال المشاركة في العاصمة طرابلس حتى الخميس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

تقع أهمية النسخة الـ10 من المهرجان بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق تجسّد لبنى في «خريف القلب» شخصية السيدة الثرية فرح التي تقع في ورطة تغيّر حياتها

لبنى عبد العزيز: شخصية «فرح» تنحاز لسيدات كُثر في مجتمعنا السعودي

من النادر أن يتعاطف الجمهور مع أدوار المرأة الشريرة والمتسلطة، بيد أن الممثلة السعودية لبنى عبد العزيز استطاعت كسب هذه الجولة

إيمان الخطاف (الدمام)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!