الكلفة الباهظة لجمال يوسف

قمصانه الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر

قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
TT

الكلفة الباهظة لجمال يوسف

قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)

تحتل العلاقة بين الرجل والمرأة حيزاً غير قليل من سور القرآن الكريم وآياته. ومع أن القرآن قد حث على التكامل الروحي والجسدي بين الطرفين، إلا أن اهتمامه الأساسي ظل منصبّاً على التشريعات والمبادئ الحقوقية والأخلاقية التي تكفل لمؤسسة الزواج قابليتها للنجاح والاستمرار. وهو ما عكسته بشكل جلي الآية القرآنية: «ومن آياته أن خلقكم لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة». واللافت أن مفردة الحب رغم ورودها المتكرر في القرآن الكريم، لا ترد إلا في سياق تعلّق البشر بالمال والسلطة والنفوذ والملذات، أو في سياق الدعوة إلى المودة والرحمة، في حين أن معناها المتصل بالشغف والاشتهاء، يكاد يقتصر على ما ورد في سورة يوسف: «وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين».

على أن أية قراءة متأنية لهذه التجربة الفريدة لا يمكن أن تتم على السطوح الظاهرة للوقائع، بل عبر التعقب العميق لمسار الأحداث، وفك شفرات الرموز المفتاحية التي تمكّن الدارس المتأمل من الوقوف على تجليات الجمال اليوسفي، وهو يخوض أقسى امتحاناته، ويتحول إلى مسرح للصراع الضاري بين المقدس والمدنس، بين الظلام والنور، كما بين العمى والإبصار.

والملاحظ أن الرموز المفتاحية لقصة يوسف تتوزع بين الأحلام والقمصان، حيث مثلت الأولى الجانب الاستشرافي من شخصيته، بينما بدت الثانية ترجمة مرئية لجمال يوسف ولمكابداته. وقد كان الحلم الأول الذي رآه يوسف في حقبة صباه المبكر، والذي سرده على أبيه بالقول: «يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين»، بمثابة الحدث الأساس الذي وضع يوسف أمام تحديات حياته اللاحقة، خصوصاً أن المعنيِّين بهذا الحلم، وفق المفسرين، هم إخوته الأحد عشر، فضلاً عن أمه وأبيه. أما الحلمان الثاني والثالث، العائدان إلى رفيقه في السجن، وإلى فرعون بالذات، فهما اللذان وفرا ليوسف ما يستحقه من أسباب الرفعة والنجاح، بعد أن أظهرا قدرته الفائقة على الإمساك بناصية الغيب وقراءة إشاراته الملغزة.

وفي لعبة الرموز تلك، بدت قمصان يوسف الثلاثة وكأنها تعكس مسار حياته الصعبة والموزعة بين العثرات والنجاحات؛ فالقميص الملون الذي خص به يعقوب ولده الأثير لأنه «ابن شيخوخته»، وفق «سفر التكوين»، بدا نعمة الابن ونقمته في آن. وإذا صح أن ذلك القميص هو نفسه الذي كان يعقوب قد أعطاه لراحيل أثناء زواجه منها، فإن الأمر لا بد من أن يرفع منسوب الغيظ والحسد عند الإخوة الباقين الذين يرون في ذلك استئثاراً من الفتى المدلل بالأم الغائبة، مع كل ما يعنيه ذلك من استصغار لهم في عيني الأب. وفي حين أن الإخوة الأحد عشر لم يغفروا لأبيهم هذا التمييز في المعاملة، فهم لم يغفروا ليوسف في الوقت ذاته، حسنه الفريد ولا حلمه النبوئي الذي رأوا فيه نبرة «استعلائية» واضحة؛ ولذلك فقد خلصوا بعد نقاش طويل إلى رمي أخيهم في البئر بدلاً من قتله، على أساس أن مصيره القاتم سيكون واحداً في الحالين.

وفي كتابه «عرائس المجالس» يتوقف النيسابوري الثعلبي طويلاً عند تفاصيل ما حدث بين يوسف وإخوته عند رميهم إياه في البئر، ضاربين بمناشداته وتوسلاته عُرض الحائط، فيكتب قائلاً إنهم «جعلوا يُدلّونه في البئر فيتعلق بشفيره، ثم ربطوا يديه إلى عنقه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردّوا عليّ قميصي أستر به عورتي، ويكون لي كفناً بعد مماتي، وأطلِقوا يديَّ أطرد بهما هوام الجب، فقالوا له: ادعُ الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تُلبسك وتؤنسك، ثم دلّوه إلى البئر بحبل، فلما بلغ نصفها قطعوا الحبل لكي يسقط ويموت».

ويرى الباحث العراقي ناجح المعموري في كتابه «تأويل النص التوراتي: قميص يوسف»، أن يعقوب أراد من خلال إلباس القميص الملون ليوسف، استحضار صورة راحيل الغائبة التي توفيت باكراً، بقدر ما كان ذلك بالنسبة له، وهو الرجل الكهل، حنيناً إلى زمن صباه الوردي. كما يذهب المعموري بعيداً في التأويل، فيقيم تماهياً من نوع ما بين القميص المشرب بالحمرة الذي أهداه الأب ليوسف، وبين الملامح الأنثوية في شخصية الابن، الذي رأى فيه يعقوب تعويضاً رمزياً عن خلو بيته المكتظ بالذكور من «الوجود النسلي الأنثوي».

لم يكن القميص بهذا المعنى مجرد حلية خارجية لتزيين الجسد، بل هو الجسد نفسه متماهياً مع ألق الروح. وليس رمي يوسف في البئر بعد صبغ قميصه بدم كاذب، واتهام الذئب بقتله، سوى جزء من الضريبة الباهظة التي كان لا بد له من دفعها، لكي يأخذ جماله الاستثنائي طريقه إلى التشكل. وقد يكون النزول إلى البئر في جانبه التأويلي، نوعاً من عودة يوسف إلى رحم راحيل المتحد برحم الأرض، تمهيداً لولادته الثانية، أو تماهياً مع ذهب الأرض ونباتاتها وكنوزها التي تلمع في أحشاء الظلام، قبل أن تنعقد ثمارها في الضوء الساطع.

الإنسان لا يكون جميلاً بالولادة، بل يصبح جميلاً بالتجربة والدأب وصقل الذات

ولم يطل الأمر كثيراً حتى كان يوسف يخوض في مصر، وفي منزل سيده الذي اشتراه، امتحانه الآخر القاسي. وإذا كان الشاب الممتلئ حيوية ونضارة قد أوشك على التخلي عن آخر دفاعاته، أمام الإغواء الشهواني لامرأة العزيز، فقد جهد السماوي فيه بكل ما يملكه من تعفف، في إبعاد نزوة الترابي قليلاً إلى الوراء. أما البرهان الإلهي الذي مد للشاب الوسيم حبل النجاة، والمتمثل بالآية: «ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه»، فما كان ليحدث لو لم يبذل الأخير أقصى ما يستطيعه للدفاع عن جماله. وإذا كان المفسرون قد ذهبوا بمعظمهم إلى تأويل القسم الأول من الآية بأنه التهيؤ للمواقعة الجسدية، فإنهم وقفوا حائرين إزاء طبيعة ذلك البرهان الذي أبقته الآية في دائرة الإبهام واللبس. وقد رأى ابن عباس أن يوسف رأى تمثال صورة أبيه عاضاً على إصبعه، وقائلاً يا يوسف: «أتزني فتكون كالطير ذهب ريشه؟». ثم قيل: «فضرب صدره حتى خرجت شهوته من أنامله».

وحيث كان يوسف يحتاج إلى برهان آخر محسوس لإثبات براءته، فقد أدى قميصه الثاني هذه المهمة وفق السردية القرآنية، مثبتاً بتمزّقه من الخلف أن امرأة العزيز هي التي تسببت بتمزيقه أثناء فراره منها، بينما لا تشير السردية التوراتية إلى تمزق القميص، بل تكتفي بالقول إن امرأة سيده فوطيفار «أمسكت بثوبه قائلة اضطجع معي، فترك ثوبه في يدها وهرب». ولعل طلب زليخة من يوسف الدخول المفاجئ على النسوة المجتمعات لتحضير الطعام، وقيام الأخيرات بتقطيع أيديهن انبهاراً بجماله، هو الدلالة الأبلغ على أن الضريبة العالية للجمال يتشارك في دفعها الفاتنون والمفتونون، بقدر ما يُظهر أن الجمال المتصلة رمزيته باللون الأحمر لقميص يوسف الأول، يمكن أن يكون من ناحية أخرى، خصوصاً في جانبه غير الممتلَك، سبباً للخوف والعنف وإراقة الدماء. ومع أن هدف زليخة من الإتيان بالنساء، كان التخفيف عن نفسها عبء الشعور بالذنب، إلا أن الإهانة التي لحقت بها جراء صدود يوسف، لم تخفف من غلوائها سوى الزج به في السجن، بحيث كان عليه الانتقال مرة أخرى من ظلمة البئر إلى ظلمة الزنزانة.

أما القميص الثالث الذي أرسله يوسف إلى أبيه العجوز، مع إخوته القادمين إلى مصر بحثاً عن القمح والقوت، فقد تغير معه مسار الأمور، بعد أن أدى تفسيره الحاذق لحلم فرعون إلى كسب ثقة الأخير، الذي جعله قيماً على خزائن البلاد وثروتها، وهو الذي أنقذ مصر وأهلها من مجاعة محققة. وسرعان ما تحول القميص إلى ريح ناقلةٍ لرائحة الابن الغائب، ومعيدةٍ ليعقوب القدرة على الإبصار، وهو الذي كانت عيناه قد ابيضتا من فرط الحزن. ويوسف الذي دُفع طويلاً إلى عتمةِ لا يستحقها، بات بمستطاعه أخيراً أن يهب الضوء والقوت لمن يستحقهما، فضلاً عن أن قدرته على الصفح والمسامحة قد أدت إلى لمّ شمل العائلة بعد فراق طويل.

وإذا كان ثمة ما يمكن استخلاصه من هذه التجربة الإنسانية الفريدة، فهي أن الجمال الحقيقي لا تصنعه وسامة الملامح، بل يشع من أكثر الأماكن صلة بصفاء الروح ومناجم الحدوس. كما تؤكد التجربة اليوسفية على أن الجمال ليس أعطية مجانية أو «شيكاً» بلا رصيد، بل هو استحقاق باهظ الثمن يتطلب إيفاؤه نزولاً إلى الآبار العميقة للآلام والمشقات. ومع أن التجربة بحد ذاتها تتصل بأحد أكثر الأنبياء تميزاً وشهرة في التاريخ، إلا أن يوسف في الدلالة الأبعد للقصة، يتجاوز ذاته المغلقة ليصبح رمزاً للجمال الأسمى الذي يستطيع أن يمتلكه كل كائن بشري، فيما لو أحسن التنقيب عنه في داخله وخلف سراديب نفسه. ومن الأمثولات المستخلصة أخيراً، أن الإنسان لا يكون جميلاً بالولادة، بل يصبح جميلاً بالتجربة والدأب وصقل الذات، وأن الجمال كالهوية، ليس معطىً ناجزاً ومكتمل الشروط، بل هو مشروعٌ للحياة كلها، يظل أبداً قيد الإنجاز.


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

زهرة دوغان - مدينة نصيبين
زهرة دوغان - مدينة نصيبين
TT

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

زهرة دوغان - مدينة نصيبين
زهرة دوغان - مدينة نصيبين

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة. كما يمكن أن يُستخدم الفن قوةً ناعمةً للتعبير عن القضايا القانونية أو المجتمعية، حين يسلّط الضوء على القضية من دون إثارة الجدل أو تحميله شكل المعارضة المجتمعية.

ومع ذلك قد يكون هذا التعبير الفني «خشناً» أحياناً، أو صادماً ومفاجئاً كحالة الفنانة الكردية زهرة دوغان، التي حُكم عليها بالسجن بتهمة الدعاية الإرهابية، حين نشرت لوحة تصوِّر مدينة نصيبين في تركيا بعد اشتباكات بين الجيش التركي والأكراد، مع رسم الأعلام التركية على المباني المدمَّرة، في إشارة واتهام واضحين للسلطات التركية بالتعدي والهجوم على المدنيين.

وفي حالات يمكن أن يكون الفن بحد ذاته قضية قانونية، بسبب عدم وجود تعريفات دقيقة للفنون، خصوصاً الفن المعاصر. وقد ظهرت هذه الإشكالية في بداية القرن العشرين، حين تغير الفن ولم يعد محاكاة للواقع. فالفنان على سبيل المثال لن يهمه رسم الطائر بشكل واقعي لأن الصور الفوتوغرافية تقوم بذلك، فبحث الفنان عن شكل آخر للتعبير، كالتعبير عن حالة تحليق الطير مثلاً؛ وهو ما قام به الفنان الروماني برانكوزي في منحوتته «طائر يحلق في السماء» التي توحي بالانطلاق والحرية. هذا العمل كان مثار قضية عام 1926م في الولايات المتحدة –التي تستثنى الأعمال الفنية بما فيها المنحوتات من ضريبة الاستيراد- فعند وصول المنحوتة إلى أميركا، رفضت السلطات اعتبارها عملاً فنياً وفرضت ضريبة استيراد، لأنها لا تمثل الطير، حينها رفع الفنان قضية للدفاع عن عمله وقدم شهادات من عدة خبراء في الفنون. وكانت نهاية الحكم هو أن تعريف الفن وقتها لم يعد صالحاً ومناسباً لاتجاهات الفن الحديثة التي ابتعدت عن التمثيل والمحاكاة واتجهت نحو التجريد.

قضية شيبرد فيري... العمل الفني والصورة الأصل

قانون الفن

وقد ظهر تخصص «قانون الفن» لدى بعض شركات المحاماة العالمية، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما استولى النازيون على كثير من الأعمال الفنية في أوروبا، وبعدما طالبت الأوطان الأصلية لهذه الأعمال، باستعادتها وحمايتها والتعويض عما تعرضت له من حالات تزوير وتهريب.

يتضمن هذا التخصص حالات التزوير والاحتيال، والضرائب، وحفظ وحماية الحقوق، وعمليات البيع والشراء وغيرها من الجوانب. خصوصاً مع الأعمال ذات القيمة التاريخية، حيث تظهر أهمية الوثائق التي تدل على أصل العمل، كما أن عدم وجود وثائق تثبت صحة عمليات البيع والشراء وانتقال الملكية المرتبطة به، قد يدل على أن العمل الفني -يتيم- مسروق، مما يؤثر بالتالي في قيمته المادية.

ولعل حقوق الملكية الفكرية من أكثر المواضيع المرتبطة بالقانون، فالعمل الفني يمكن أن يتم استنساخه واستخدامه تجارياً، أو في المنتجات النفعية المختلفة، كالأثاث والأزياء والمطبوعات.

وفي واحدة من القضايا العالمية الشهيرة المرتبطة بالملكية الفكرية، استُخدمت صورة للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وجرى تحويلها إلى بوستر، استُخدم في الحملات الانتخابية للرئيس السابق. وكان أصل هذا العمل هو صورة فوتوغرافية التقطها المصور ماني غارسيا، لصالح وكالة «أسوشييتد برس»، وبعد أن حقق البوستر الفني انتشاراً كبيراً لم تنله الصورة الأصل، رفعت الوكالة الإعلامية التي تملك أصل الصورة قضية على الفنان شيبرد فيري الذي استخدم الصورة في تصميمه للبوستر الشهير للمطالبة بتعويض عن استخدامه الصورة الفوتوغرافية، وقد جرى التوصل إلى تسوية خاصة بين الطرفين تضمَّن جزء منها مقاسمة الأرباح التي حصل عليها العمل الفني.

• الفن وغسل الأموال

يوجد كثير من الحالات المشابهة لهذه القضية في الفن نتيجة عدم وجود حدود واضحة للاقتباس والاستلهام، وتشابه الأفكار ومصادر الإلهام التي تجعل من بعض الأساليب والمواضيع الفنية متشابهة.

ومن الجوانب القانونية كذلك، استخدام الفن في غسل الأموال، لإخفاء اكتسابها بطريقة غير مشروعة، بسبب عدم الشفافية والغموض في سوق الفن. ويلاحَظ هذا الغموض في المزادات العالمية، حين تتم الإشارة إلى العمل الفني على أنه ضمن «مجموعة خاصة»، أو حين يباع من خلال ممثلين لمُلاك مجهولي الهوية.

ومن الميزات الاستثمارية للفن، ارتفاع قيمته مع مرور الزمن، وفي ذات الحين إعفاؤه من الضريبة مما يجعله وسيلة لعدد من الأثرياء حول العالم لتجنب الضرائب. ونظراً لاختلاف نظام الضرائب في البلدان، تختلف طرق الاستفادة من هذه الميزة.

ففي بعض الدول يُمنح خفض ضريبي للمتبرعين في المجالات الثقافية والتعليمية، لتشجيع الدعم والتبرع لهذه المجالات، بما يساعد على تقديم الدعم المالي للمتاحف، وفي ذات الوقت خدمة للمجتمع الذي يستفيد من المتاحف، التي تعتمد بشكل كبير على التبرعات الخيرية. كما يمكن الحصول على إعفاء ضريبي، عبر اقتناء الأعمال الفنية ذات القيمة المتزايدة، وحفظها في الموانئ الحرة في مناطق معفاة من الضرائب –كموانئ سويسرا- حيث تتميز هذه الموانئ بمستودعات خاصة تحمي الثروات والأصول الفنية الثمينة.

تشريعات ضرورية

وقد تكون القضايا المتعلقة بالفن من القضايا التي يندر تناولها محلياً في المحاكم السعودية، نظراً لحداثة هذا المجال وعدم انتشاره وصغر حجم الدائرة الاجتماعية المرتبطة به.

فمن ناحية علاقة الفن بالإعفاء الضريبي، فالفن لا يدخل ضمن الإعفاءات المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية لنظام ضريبة القيمة المضافة في المملكة.

كما أن الهيئة السعودية للملكية الفكرية توضح إمكانية تسجيل الفنان عمله بصفته المؤلف الذي قام بإنشائه، وخدمة التسجيل هي خدمة اختيارية، والحماية يكتسبها العمل الفني دون الحاجة لأي إجراء شكلي وفقاً لـ«اتفاقية برن» لحماية المصنفات الأدبية والفنية التي انضمت إليها المملكة عام 2003، حيث نصَّت الاتفاقية على مبدأ الحماية التلقائية.

يمكن أن يكون الفن في حد ذاته قضية قانونية بسبب عدم وجود تعريفات دقيقة للفنون خصوصاً الفن المعاصر

ومع ذلك تظهر الحاجة إلى توضيح بعض الأنظمة الخاصة بالوساطة الفنية والبيع والشراء وانتقال ملكية الأعمال وغيرها. فعلى سبيل المثال، هل يحق للفنان معرفة المقتني لعمله، وما دفع له؟ فالمفترض أن تحصل صالة العرض على نسبة من عملية البيع، إلا أن بعض الصالات تقتني مجموعة من الأعمال، وتعيد بيعها بمبالغ مضاعفة لجهة ما أو مقتنٍ معروف، في أشهُر بسيطة. وفي هذه الحالة يتم تضخيم أسعار الأعمال الفنية، كما أن الفنان لا يعرف القيمة الحقيقية لبيع أعماله. مع أن نظام حماية حقوق المؤلف، يوضح أن للفنان التشكيلي حق التتبع والحصول على نسبة من كل عملية بيع لأعماله الفنية، فكما يشير النظام نصاً، «يتمتع مؤلفو مصنفات الفن التشكيلي ومؤلفو المخطوطات الموسيقية الأصلية -ولو تنازلوا عن ملكية النسخ الأصلية لمصنفاتهم- بالحق في المشاركة بنسبة مئوية عن كل عملية بيع لهذه المصنفات».

كما قدمت وزارة الثقافة في منصتها للتراخيص الثقافية (أبدع) بعض التراخيص المرتبطة بالفن والتي تسهم في تنظيم وتوثيق الأنشطة الفنية. ومع أن الهدف هو الشراكة مع القطاع الخاص ودعم وتمكين النشاط الثقافي في المملكة، إلا أن منح التراخيص وحده لا يبدو كافياً. فالفن بحاجة إلى مزيد من الدعم أسوةً بالمجالات الأخرى التي تقوم الجهات المرتبطة بها تنظيمياً بدعمها بالرعاية والتمويل والتطوير والتسويق، كما في الصناعة والسياحة وغيرها من القطاعات.

إن الفن التشكيلي في السعودية بحاجة إلى توضيح كثيرٍ من الجوانب القانونية المرتبطة به، بما يسهم في دعم اقتصاد الفن والاستثمار فيه. وحفظ حق كلٍّ من الفنان والمقتني وصالة العرض أو الوسيط، خصوصاً مع دعم «رؤية السعودية 2030» للفن وما يحدث حالياً من انتعاش في الحركة التشكيلية السعودية.

* كاتبة وناقدة سعودية