شواهد قبور أثرية من قلعة البحرين

تتبع نسقاً جمالياً واحداً في التأليف والنقش

ثلاثة شواهد قبور أثرية من قلعة البحرين
ثلاثة شواهد قبور أثرية من قلعة البحرين
TT

شواهد قبور أثرية من قلعة البحرين

ثلاثة شواهد قبور أثرية من قلعة البحرين
ثلاثة شواهد قبور أثرية من قلعة البحرين

ازدهر فن النحت الجنائزي ازدهاراً كبيراً بالبحرين في القرون الميلادية الأولى، خلال الحقبة التي عُرفت بها الجزيرة باسم تايلوس. وتشهد لهذا الازدهار شواهد القبور الأثرية التي تضاعف عددها بشكل كبير مع استمرار عمليات المسح والتنقيب في العقود الأخيرة. عُثر على القسم الأكبر من هذه الشواهد بشكل أساسي في عدد من تلال المقابر الأثرية الكبيرة، كما عُثر على بعض منها خارج هذه التلال، ومنها تلك التي وُجدت مطمورة في ناحية من موقع قلعة البحرين.

تقع قلعة البحرين على قمة ترتفع في ضاحية السيف، بالجهة الشمالية من جزيرة البحرين، حيث تطل على شاطئ البحر من هذه الجهة، وتجاور قرية كرباباد من الشرق، وقرية حلة عبد الصالح من الجنوب والغرب. على اسم هذه القلعة، سمّي الموقع الأثري الذي كرّس تسجيله عام 2005 على قائمة «اليونيسكو» للتراث العالمي أهميته كأحد المواقع الأثرية الرئيسية في شبه الجزيرة العربية. يحتلّ هذا الموقع مساحة 17.5 هكتار، وتشهد طبقاته الأثرية المتراكمة لتاريخ طويل ومتواصل، يمتدّ من نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد إلى القرن الـ17 من عصرنا. من هذا الموقع الاستثنائي، خرجت مجموعات متعددة من اللقى الأثرية تعود إلى حقب تاريخية مختلفة، منها شواهد قبور عُثر عليها سنة 1991 بالمصادفة، حيث كانت مطمورة في بستان نخيل يقع في القسم الشمالي الغربي منه.

تؤلف هذه الشواهد مجموعة من 15 قطعة مصنوعة من الحجر الجيري، خرجت من التراب بحالة سليمة، ممّا يوحي بأنها نُقلت من مقبرة لم يتمّ تحديد موقعها الجغرافي إلى يومنا هذا، وتمّ طمرها في هذا البستان دون المسّ بها، وذلك خلال الحقبة الإسلامية التي شكّلت نهاية الحضور الساساني بالجزيرة في النصف الأول من القرن السابع، على ما رأى بعض أهل الاختصاص. غير أن هذه القراءة تبقى افتراضية في غياب دليل يشكّل سنداً لها. تتبع هذه المجموعة نسقاً جمالياً واحداً في التأليف والنقش الناتئ والغائر، ويشكّل هذا النسق طرازاً من الطرز المتعددة التي طبعت نتاج النحت الجنائزي في هذه الناحية من ساحل الخليج العربي، بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث تحديداً. يصعب تحديد وظيفة هذه الشواهد، كما يصعب تحديد وظيفة مختلف الشواهد التي خرجت من تلال مقابر البحرين الأثرية، والأكيد أنها لم تُصنع لترفع فوق قبور فردية كما جرت العادة في العالم القديم.

تُظهر الأبحاث أن بعض هذه الشواهد وُجد في غرف صغيرة تشكّل بيوتاً لها في طرف المقبرة، ووُجد بعض آخر منها مطموراً جزئياً في تربة المقبرة. تشكّل وظيفة هذه الشواهد لغزاً اختلفت الآراء في تفسيره، والأكيد أن هذه الوظيفة تخطّت حدود القبر الفردي، واتّخذت دلالة دينية جامعة يصعب تحديد هويّتها. نُقلت الشواهد التي عُثر عليها في بستان من بساتين قلعة البحرين من المقبرة التي حوتها في الأصل، وبات من المستحيل معرفة الأسلوب الذي اعتُمد في عرضها بموقعها الأصلي، وهي اليوم أشبه بالقطع الفنية المستقلّة التي تعكس طوراً من أطوار جمالية النحت الجنائزي في هذه الناحية من الجزيرة العربية. أشهر قطع هذه المجموعة ثلاثة شواهد عُرضت ضمن معرض كبير أقيم بمعهد العالم العربي في صيف 1999، خُصّص للتعريف بميراث البحرين، «من دلمون إلى تايلوس». تختزل هذه القطع الثلاث هذه المجموعة، ويتجلّى الاختزال في تبنّي كلّ منها نموذجاً واحداً من النماذج التصويرية المعتمدة في هذا الميراث، وهي نموذج الأنثى، ونموذج الرجل الملتحي، ونموذج الفتى الأمرد.

تؤلف الشواهد مجموعة من 15 قطعة مصنوعة من الحجر الجيري خرجت من التراب بحالة سليمة ممّا يوحي بأنها نُقلت من مقبرة لم يتمّ تحديد موقعها الجغرافي

يخرج كل من هذه النماذج عن حدود الوجه الشخصي الفردي بملامحه الخاصة، ويبرز بتبنيّه مثالاً توحيدياً جامعاً، واللافت أن هذا النموذج يتخطّى حدود سن الإنسان الفاني، ممّا يوحي أنه يعبّر في الدرجة الأولى عن تصوّر صاحبه في حالة ما ورائية. الأسلوب تحويري، يغلب عليه الطابع الهندسي التجريدي. تحضر القامة بشكل كامل، وتظهر في وضعية المواجهة التامة، ضمن إطار مستطيل يحيط بها من الجهات الأربع، مشكّلاً مسكناً لها. في الجمالية الإغريقية الكلاسيكية، يتألف طول الجسد من خمس وحدات قياساً إلى وحدة الجسد، ويعكس هذا التأليف البنية الواقعية للقامة البشرية. تخرج هذه الشواهد عن هذا النسق بشكل كلي، وتحيد عن النسب المادية لتبتكر قواعدها الخاصة. يتقلّص الجسد ويتضاءل، ويتحول إلى قاعدة تحمل وجهاً دائرياً ضخماً. العينان لوزتان كبيرتان تحتلان الجزء الأكبر من هذا الوجه المحوّر. الأنف مستطيل وطويل. والثغر شفتان صغيرتان مطبقتان يفصل بينهما شق غائر بسيط. لا تدخل الحلة الزخرفية كهدف جمالي مجاني، بل تشكّل تعبيراً عن إعادة خلق الطبيعة وتنظيمها تبعاً لمنظور روحي، وتبرز في تحديد ثنايا الثوب الذي يحجب مفاصل الجسد.

تحضر المرأة في ثوب طويل، يعلوه معطف يلتفّ حول الكتف اليسرى، وينسدل على الساق اليمنى. يعلو هامة الرأس منديل طويل يحيط بالرأس، وينسكب على الذراعين الملتصقتين بالصدر. ترتفع اليد اليمنى نحو الأعلى، وتنفتح راحتها في حركة تقليدية ترمز إلى الابتهال. في القسم الأسفل، تظهر أصابع القدمين العارية على شكل سلسلة من المكعبات المتراصة. يحضر الرجل الملتحي في وضعية مماثلة، ويتميز بثوب قصير تعلوه شبكة من الثنايا تنعقد في وسط طرفه الأسفل. في المقابل، يحضر الفتى الأمرد في لباس يُعرف باللباس الفرثي، وهو اللباس الإيراني القديم الذي تخطّى حدود هذا العالم، وظهر في سائر أنحاء العالم اليوناني والروماني بالقرون الميلادية الأولى، وأبرز مواصفاته حزام معقود حول ثوب قصير، وقطعة مستطيلة من القماش تنسدل على الكتف اليسرى.

يغيب الأثر الهلنستي عن هذه الشواهد، ويحضر الأثر الفرثي في قالب محلي يضفي عليه طابعاً خاصاً، كما في ميراث المدن الصحراوية الكبرى، ومنها تدمر ودورا أوروبوس في سوريا، والبتراء في الأردن، والحضر في شمال العراق. يأخذ هذا الطابع مميزات خاصة في البحرين، ويشهد لنسق محلّي يشكّل رافداً من روافد هذا الإقليم متعدّد الأقطاب.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.