نشرت «الشرق الأوسط» (صفحة ثقافة وفنون) بتاريخ 2 مايو (أيار)، مقالاً للكاتب علي حسن الفواز يتحدث فيه عن سلافوي جيجيك، وينقل عنه مقولته: «إن إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدين»، ويقرر أن الدولة اليهودية تأكيد لفقدان العالم للبراءة وتجريد له من تنوعه واستمرار للحروب الدينية التي لا علاقة لها بالاقتصاد ولا الجغرافيا ولا السياسة، وأن هذا الإنشاء يتعارض مع فكرة إيمانويل كانط، فيلسوف عصر التنوير الأكبر، عن المواطنة العالمية والسلام الدائم، ويبث عوضاً عن ذلك، العداوة الآيديولوجية، كما تفعل أي دولة دينية.
من جهة أخرى، يبدو أن خلاف إيمانويل كانط (ت 1804) مع اليهود لا ينحصر فقط في فكرة إسرائيل، ولا في قيام الدولة؛ إنه خلاف في فهم الدين وما معنى أن يكون الدين ديناً. لقد قرأ الأناجيل قراءة عقلية نقدية، قراءة تنطلق من شخصية كانط نفسه، فهو مفكر عقلاني أخلاقي لا يقبل إلا بما يؤدي إليه العقل فقط، ولذلك نقد ألوهية المسيح، وعقيدة التثليث والصلب والفداء، والإيمان بقيامة المسيح والمعجزات، وفهم الدين على أساس أخلاق العقل الخالص، ولذا قيل إنه قد أفرغ المسيحية من مضامينها الأساسية وصنع نسخته الخاصة من الدين.
وفي هذه النسخة الخاصة قال بواحدية الدين الصحيح مع تنوع العقائد واعتمد كثيراً على تأويل النصوص بمعانٍ غير تلك الشائعة عند المؤمنين، وهكذا يمنح هذه العقيدة محتوى عقلانياً بحيث تصبح قيامة المسيح مجرد صورة رمزية لظهور الأخلاق وسيادتها على الحياة، حياة الفرد وحياة المجتمع والدولة، وملكوت الله هو ملكوت الأخلاق المأخوذة من العقل الخالص الذي يعانق الإنسانية كلها، وعلى هذا يمكن بسهولة تصور كل مساره الفكري الذي انطلق في خط مستقيم نحو استبعاد أي عنصر لاهوتي عن فلسفته.
إذا كانت هذه هي قراءته للمسيحية، فماذا سيقول عن اليهودية؟ هو لا يعدّها ديناً بأي معنى يخطر بالبال. والسبب في ذلك أن الدين عنده يجب أن يكون أخلاقياً وأن يكون لكل الناس. وفوق هذا لا بد من الإيمان بالحياة الأخرى. يعتقد كانط أن اليهود لا يؤمنون بالدار الآخرة، وهذه الفكرة يمكن أن تكون محل نزاع كبير، وقد يكون مخطئاً فيما قال، خصوصاً إذا نظرنا إلى اختلاف الفرق اليهودية بهذا الخصوص، وإن كان يشوب كل ذلك قدر من غياب الوضوح.
وهكذا انطلق كانط ليقرر أنه لم يجد في النص اليهودي إلا الأحاديث عن جوائز الثواب ونوازل العقاب الدنيوية التي تكرّس الطاعة وامتثال الأوامر، ولم يجد أثراً لذكر الآخرة، مع أنه لا يصح وجود دين بلا آخرة. لماذا الآخرة مهمة عند كانط؟ السبب هو ذاته في كل مرة: لأن الآخرة تلعب دوراً أساسياً في قيام الأخلاق. فيلسوف التنوير واضح للغاية.
لم يلحظ في نصوص الأحبار ما يدل على مبادئ أو تصورات أخلاقية ملموسة. لا توجد بالنسبة إليه سوى قوانين وتشريعات تتطلب الطاعة من دون أسئلة، وهذا من وجهة نظره ليس بدين لأنه لا بد من أن يكون الدين فعّالاً في حياة الناس وفي تنقية النفوس وتصفية الضمير الإنساني وطهارة القلب، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك.
في مقابل هذا، يرى كانط أن اليهودية تؤمن برب خاص بها وبشعبها ولا ترحب بالقادمين الجدد، فهي عبارة عن نادٍ خاص لعرق خاص. وما تعبده الشعوب الأخرى ليس إلهاً على الصحيح، ولا يوجد إلا هذا الإله الواحد الذي سيحرم منه البقية للأبد، فلا إله إلا إله اليهود، وهو لليهود وحدهم. وهذا الإله هو في الواقع يشبه ملوك بني إسرائيل، يشبه داود وسليمان ويوشع، ملك غازٍ للشعوب الأخرى. والوصايا العشر تحوي بعض القيم لكنها خاصة باليهود وليست لكل الشعوب، ولا يأمر الله فيها شعبه بإصلاح الباطن، بل يكتفي بالتقيد الظاهري بالأوامر والنواهي. ويمضي كانط في كتابه «الدين في حدود العقل الخالص»، مقرراً أن هذا الإله الذي لا يدعم النوايا الطيبة، ليس هو ما تحتاجه البشرية، لأنه ليس رب العالمين.
كانط لا يهتم كثيراً بالمنهج التاريخي بل يصف الجماعة اليهودية التي عرفها والنصوص التي وصلت إلى يديه
وبرغم كل ما يقال عن دين كانط من رافض له وقابل له، فإنه يؤمن بالكنيسة وبضرورة قيامها على الأرض، وهنا يضيف لوماً آخر لليهود لأنهم لم يقيموا مثل هذه الكنيسة، يعني الكنيسة التي ترحب بالجميع. وكل هذا بطبيعة الحال يشير إلى رفضه المطلق لفكرة شعب الله المختار.
اليهودية - عند كانط - ليست سوى مشروع دولة سياسية دنيوية لشعب تجمعه الإثنية، ولا يمكن أن تتواءم مع مشروع التنوير الكانطي وفكرة المواطنة العالمية. هذا التحليل برغم عمقه وقوته وواقعيته، فإنه يفصح عن جانب من منهج هذا الفيلسوف، فهو لا يمنح كثيراً من الاهتمام بالمنهج التاريخي، بل يصف حال الجماعة اليهودية التي لقيها في حياته والنصوص التي وصلت إلى يديه. ولو أنه منح بعض الوقت للنقد التاريخي للتوراة كما نجده عند سبينوزا وإسحاق لا بيرير وغيرهما من الفلاسفة اليهود، لوجد أن التوراة هي أكثر النصوص الدينية التي تعرضت للتحريف، وهكذا يمكن الحديث عن عدة يهوديات، لا واحدة. إذا كان هذا هو رأي فيلسوف التنوير في اليهودية، فكيف سنتخيل رأيه في إسرائيل؟
لنعد مرة أخرى إلى جيجيك. لكل ما تقدم، أراه مخطئاً في تحليله للمشهد، فإسرائيل ليست دولة دينية كما يقرر. إسرائيل أسستها الحركة الصهيونية؛ وهي علمانية تماماً ولا علاقة لها بالدين والتديّن، لكنها في الوقت نفسه وبلا شك دولة فصل عنصري، وليست دولة للجميع، كما يحدث في أي دولة علمانية حديثة. يمكن التعايش مع اليهودية كدين، أما الفصل العنصري فلا بد أن ينتهي كما حدث في جنوب أفريقيا.