عيد صالح: الطب سلبني قصائد تاهت في أروقة المستشفيات

الشاعر المصري ينظر خلفه بغضب لأنه لم يأخذ بنصيحة إدريس

عيد صالح
عيد صالح
TT

عيد صالح: الطب سلبني قصائد تاهت في أروقة المستشفيات

عيد صالح
عيد صالح

يعد الشاعر عيد صالح من أبرز شعراء السبعينات في مصر، جمع بين الطب والشعر عن حب، لكنه لم يستطع أن يتفرغ لأحدهما وظل موزعاً بينهما، فعامله الشعراء بوصفه «طبيباً دخيلاً» عليهم، أما الأطباء فيعاملونه بوصفه «زميلاً متمرداً». أصدر عدداً من الدواوين الشعرية منها «قلبي وأشواق الحصار»، و«شتاء الأسئلة»، و«أنشودة الزان»، و«خريف المرايا»، و«سرطان أليف»، و«ماذا فعلتَ بنا يا مارك؟»... هنا حوار معه حول مكابدات العيش تحت مظلة هذه الثنائية، وهموم الشعر والكتابة.

> لنعد إلى البدايات الأولى... كيف أثرتك نشأتك الريفية في رسم ملامح تجربتك إنسانياً وإبداعياً؟

- تلك البدايات خطّتها قريتي، الشبول، بمحافظة الدقهلية، القابعة على حافة «بحيرة المنزلة»، هي مَن أرضعتني حليب الكتابة مباشرة من ضرعها ونحن نحلب الأبقار ونطارد العصافير والثعابين على الجسر، ونصطاد الأسماك من مياه الفيضان بأحواض الأرز، الفيضان الذي كان يلوّن آنذاك النهرَ باللون الأحمر، ويترك الطمي يلقح الأرض بالخصوبة والجمال. إنها «بحيرة المنزلة» حين تتدفق إليها مياه الفيضان فتحمر رؤوس الأسماك وتغرينا بصيد ثمين، كانت انطلاقاتنا عبر الحقول والطبيعة البكر وبداية ثورة يوليو (تموز) 1952، وهتافي مع الأطفال والصبية ونحن نجوب حواري القرية بحياة أول رئيس لجمهورية لمصر التي في خاطري وفي فمي، حيث نشيد الصباح في مدرستي الابتدائية ومدرسيها العظام وأستاذي «القبطي» كامل عيد حنا الطحان، الذي دفعني لحفظ القرآن شرطاً لدخولي المعهد الديني الذي أصرّ والدي على دخوله بعد أن منعني من التعليم العام، أستاذي هذا الذي أهديته ديواني «رحيق الهباء» عرفاناً بالجميل.

> إلى أي مدى كان لدراستك الأزهرية تأثير في هذا السياق؟

- تلقفتنا يد «الأزهر» الهائلة، تعلمنا الحب والشعر وطلاوة الحديث وسحر الكلمات، نسوح في شوارع مدينة دمياط، حيث مقر المعهد الأزهري، وعلى ضفتَي النهر نتمدد بسيقاننا النحيلة في مياه الفيضان، نتقاذف الحكايات والأشعار من امرؤ القيس والمتنبي إلى أبو تمام. في تلك الفترة الخصبة، اعتدنا أن نذرف الدموع مع مصطفى لطفي المنفلوطي في رائعته الرومانسية «تحت ظلال الزيزفون»، وننشد أشعار البطل في مسرحية «سيرانو دي برجراك» للشاعر الفرنسي إدموند روستان. وضمن مقررات المعهد الأزهري حفظنا «ألفية ابن مالك»، وتهنا في «شذور الذهب»، و«تنقيح الأزهرية»، و«أوضح المسالك». الصدر تملأه الثورات والحكايات... الأساتذة والأصدقاء.

كانت تسكن جسدي النحيل روحٌ متمردةٌ تريد أن تجرّب كل شيء، من الخطابة والشعر إلى التمثيل في فريق المعهد، مروراً بالقصة والمقالات، وانتهاءً بمكتبة المعهد التي كانت تعد أكبر مكتبة في مصر بعد «دار الكتب»، حيث كنا ننهل من أمهات الكتب على يد أساتذة ومعلمين تنويريين عظام حقاً.

> في خضم هذه الرحلة كيف تتعامل مع ثنائية الطب والشعر... أيهما تعطيه الأولية؟ أيهما يؤثر في الآخر من واقع تجربتك؟

- لا أتعامل مع مهنة الطب بوصفها مهنةً ولا حتى بوصفها رسالةً، ولكن بوصفها حياةً كاملةً تستوعب الإنسان وتطحنه وتبتلعه في جوفها الهائل داخل حجرة العمليات، حيث يطل شبح الموت ويختلط العرق بالابتسامات بالآهات بالآلات. سيمفونية إنسانية رائعة تعزف للإنسان، وتجسد تراجيديا الحياة في قمة ضعفها وانتصارها، الحياة عندما يكون لها معنى وقيمة، وأنت تنتزعها من براثن الموت المترقب المتوثب كأسد جائع. لا شيء يعدل غوصك في الجرح وانتزاعك الداء والألم الممض، لا شيء أصدق من لحظات الألم حيث يبدو الإنسان على حقيقته ضعيفاً هشاً، ونظرات الألم والأمل وابتسامة واهنة، ورجاء واعد بعودة نظيفة للحياة.

لكن على الجانب الآخر، هناك وجه سيئ لمهنة الطب، حيث سلبتني عشرات القصائد الجميلة في قسوة، وألقت بها داخل عنابر المرضى وأروقة المستشفيات والأسرَّة البيضاء، حيث تاهت إلى الأبد، ولم أجد الوقت كي أكتبها أو أستردها من أنياب المهنة القاسية الجميلة المرعبة الحانية الباترة العظيمة!

توزعي بين الطب والشعر، تنازعاني واقتتلاني ليتركاني للأسف طبيباً نصف الوقت، وشاعراً نصف الوقت، وبينهما تعيش ازدواجية أن ينعتك الأطباء شاعراً ولا يرى فيك الشعراء إلا طبيباً. ويظل طموحي أن أكتب الطبيب وأعيش الشاعر، الشاعر في بساطته ورقته، في هشاشته وقوته واندفاعه وصولاته وجولاته، في عبثه وإهماله ورثاثته، في طيرانه المستحيل واختراقه الفذ كأنه شعاع كوني تتبع بوصلته هدفاً خرافياً، حيث تتوالد الأبيات وتتفجر القصائد.

> في ديوانك «ماذا فعلت بنا يا مارك» تصب جام غضبك الشعري على مارك زوكربيرغ مؤسس موقع «فيسبوك» وأنت تقول «هذا اللعين مارك / نزع الفرادة والخصوصية / حتى الجينات تمازجت / لتنتج مسخاً»... لماذا هذه الرؤية التي تعادي مواقع التواصل الاجتماعي، ألا ترى بارقة أمل في تكنولوجيا الاتصال الجديدة؟

- ربما كانت صدمتي بهول ما يحدث في الفضاء الإلكتروني، وكم الأكاذيب والنصب والاحتيال، وكم المشكلات الاجتماعية، تلك الصفحات المزورة والأسماء الوهمية. أعرف رجالاً أنشأوا صفحات بأسماء فتيات ليسخروا ويبتزوا كثيراً من الرجال، وأعرف نساء أوقعن بأزواجهن بصفحات وهمية... إلخ. شاهدت مساخر ومهازل يندى لها الجبين مع أننا نستطيع أن نستفيد بسرعة التواصل وتوظيف عنصر الوقت كالأخبار وسرعة النشر والانتشار، ولولا الفضاء الإلكتروني ما اشتهر عشرات المبدعين. التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فكما أنها تصنع السلاح الذي يتم به التطهير العرقي وحروب الإبادة منذ هيروشيما ونغازاكي وحتى غزة الآن، إلا أنها جعلت الروبوت يجري عمليات جراحية دقيقة كما جعلت العالم في حجم قبضة اليد.

> لماذا تبدو قصائدك أحياناً وكأنها رثاء للذات في مواجهة العالم وتصوير مرير لهشاشة الروح تحت وطأة واقع قاسٍ لا يعرف الرحمة كما في قولك «أنا الميت الحي/ أجتر ماضي الذي كان / كخرقة بجوار حائط متهالك/ كقطة تكاثر الذباب حولها / كآثار حذاء مثقوب / في وحل حارة معتمة؟»

- مع أنني كما يبدو للكثيرين ذلك الهادئ الطيب الرومانسي الطوباوي الحالم، فإني في الحقيقة أعيش داخلي الذي تراكمت فيه كل أحزان العالم ومآسيه، أعيش انسحاق الفقراء والشعوب المستضعفة والواقعة بين فكي الفقر والجهل والفوارق الطبقية. أعيش أسئلة الوجود الصعب في صقيع الوحدة والاغتراب، أعيش أزمة الإنسان المعاصر بكل تعقيدات الحياة وصراعاتها وما يخبئه الغد الملغوم. ولأنك في الغالب تكتب نفسك حتى لو حاولت بالمجاز والخيال والتجريب والمغايرة فالذات والأغوار السحيقة للنفس والروح القلقة الضائعة المتشظية لا تلبث أن تطل من ثنايا النصوص.

> كثيراً ما يبدو الحب في قصائدك وكأنه مأزق وجودي أو حالة تبعث على الحيرة كما في قولك «لا أجد ما يليق بك / كل الكلام معاد / والمجاز أصبح مطية التجريب والمغامرة / لا شيء حقيقي / والأكاذيب تركب المرسيدس والليموزين»... إذاً ماذا يفعل عشاق هذا الزمان؟

- سأبدأ من آخر جملة في سؤالك الكاشف، فهذا هو سؤالي المضمر الحائر بلا إجابة داخل تجربة الحب اليائس وكأنه حقاً مأزق وجودي على حد قولك وهو كذلك. إنه حب العالم الذي تمحور في حب فتاة أصبحت هي كل الكون والوجود والحياة، هي النهر والبحر والشاطئ واليابسة، هي المد والجزر والعاصفة، هي الوردة والعصفور، هي الضحكة والدمعة واللهفة. لقد أصبح الحب في هذا الزمن أعمق وأعقد، حب الوحدة والصقيع والاغتراب. ورغم كل ذلك، فإن الحب هو الحياة وهو صمام الأمان والتوازن النفسي.

> أنت أحد الأصوات البارزة على خريطة جيل السبعينات الشعري في مصر... كيف ترى تجربة هذا الجيل إجمالاً؟

- لا أحب أن أبدي رأياً في جيل أنتمي إليه لأن رأيي سيكون مجروحاً، كما أن بعض رموز هذا الجيل قد غادرت الحياة مثل حلمي سالم ورفعت سلام ومحمد عيد إبراهيم، وبشكل عام لا أحب أحكام القيمة، وأرى أن القارئ هو الحكم والفيصل في كل تجربة أدبية، كما أن كثيراً من المدارس الشعرية لعبت على الشكل واللغة والغموض في نرجسية منحرفة ولم تحفر عميقاً فيما هو وجودي وإنساني.

>هل تشعر بأن إقامتك بعيداً عن القاهرة حيث العاصمة وأضواؤها لم تجعلك تنال ما تستحق من تقدير، وهل تنظر وراءك في غضب؟

- أذكر أن مجلة «إبداع» الثقافية الشهرية المتخصصة، خصصت عام 1994 عدداً للإبداع خارج العاصمة، وكان المسؤول عن العدد الشاعر حسن طلب الذي نشر مقالاً بعنوان «نحن ضحايا أنفسنا» ألقى فيه باللوم على تقاعسنا عن خوض غمار الزحام باقتحام العاصمة وبقائنا في الأقاليم البعيدة نعبئ الشمس في زجاجات في انتظار «غودو» النشر والمجد والشهرة. نعم أنظر ورائي في غضب لأنني لم أستمع لنصيحة د. يوسف إدريس، الذي قال لي على هامش حوار أجريته معه لمجلة الكلية عام 1968، وقد كنت طالباً بالسنة الثالثة بطب الأزهر: «عليك أن تختار بشجاعة إما الطب وإما الأدب». وللأسف بوصفي فلاحاً فقيراً لم أكن أمتلك رفاهية ترك الطب وأيضاً لم أترك الأدب، وعشت ازدواجية أضاعت عليّ كثيراً في الجانبين كما سبق أن أوضحت.

> أخيراً، كيف ترى هجرة كثير من الشعراء إلى الرواية حتى إن منهم مَن ودّع القصيدة إلى الأبد؟

- هذا السؤال تحديداً يؤلب عليّ المواجع، ويعيدني لبداياتي، التي كانت سردية تجريبية، فقد كنت أكتب قصصاً موزونة وحكايات موقعة، كما كنت أول مَن كتب «القصة القصيرة جداً» في الستينات، وللأسف لم أوثقها بالنشر؛ لأننا كنا نربأ بأنفسنا أن نتسول النشر ونكتفي بقراءة ما نكتب في الندوات الأدبية.

هؤلاء الشعراء محقون بالخروج لرحابة السرد وفضاء الحكي وما وراء القص والفانتازيا والخيال العلمي إلى آخر كل ما تقع عليه عيناك ويصل إليه خيالك ويكون مادة خصبة للسرد، ومن ثم الجوائز والمجد والشهرة. بعضهم حصل على جوائز عربية مثل إبراهيم نصر الله، وجلال برجس الذي بدأ شاعراً، ونشأت المصري الذي طلّق الشعر وكتب 12 رواية، لكن سيظل للشعر سحره الخاص.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.