إليزابيث بيشوب... شاعرة تستدعي الشاعر الكامن فينا

امتازت بالملاحظة الدقيقة وبخيال بصري لا يفوته شيء

إليزابيث بيشوب
إليزابيث بيشوب
TT

إليزابيث بيشوب... شاعرة تستدعي الشاعر الكامن فينا

إليزابيث بيشوب
إليزابيث بيشوب

للمرأة مكان متميز في لوحة الشعر الأميركي ابتداءً من آن برادستريت أول شاعرة أميركية مهمة في القرن السابع عشر ومروراً بإميلي دكنسن في القرن التاسع عشر حتى شواعر القرن العشرين من أمثال إدنا ميلاى، وجرترود ستاين، وإيمي لويل، وهيلدا دوليتل (ه.د)، وميريان مور، وسيلفيا بلاث، وآن سكستون، وإدرين رتش، وإريكا يونج، ومن جئن بعدهن في هذه الألفية الثالثة.

وإليزابيث بيشوب (1911 - 1979) شخصية مهمة في هذه الكوكبة من الشاعرات. وهي موضوع كتاب

«Elizabeth Bishop» الصادر عن «مطبعة جامعة أوكسفورد» في 2022 من تأليف جوناثان بوست

(Jonathan Post)، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، ومؤلف كتب سابقة منها «شعر شكسبير» و«شعر أنطوني هكت» و«سوناتات شكسبير وقصائده».

لا ترجع مكانة بيشوب إلى غزارة إنتاج فهي - على العكس - مقلة لا يجاوز مجموع قصائدها 90 قصيدة أو نحو ذلك، ولم يصدر لها في حياتها سوى أربعة دواوين هي: «الشمال والجنوب» (1946)، «ربيع بارد» (1955)، «أسئلة الشعر» (1965)، «جغرافيا 3» (1976). وبعد وفاتها صدرت لها «القصائد الكاملة 1927- 1979» في 1983. كذلك نشرت أيضاً، بعد سنوات من رحيلها، كتاباتها النثرية (1984)، ومختارات من رسائلها (1994). ويمكن أن نضيف إلى ذلك ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية أعمالاً من اللغات البرتغالية والإسبانية والفرنسية. ومن هذه الترجمات ثلاث أقاصيص للروائية البرازيلية كلاريس لسبكتور.

ليس في حياة بيشوب أحداث لافتة كتلك التي نجدها في حياة سيلفيا بلاث وآن سكستون اللتين ماتتا منتحرتين، أو حياة إدنا ميلاى وإريكا يونج المليئة بقصص الغرام. لقد ولدت في ولاية ماساشوستس، وبعد وفاة أبيها (كانت في الشهر الثامن من عمرها حين توفي) وسلسلة الانهيارات العصبية التي أصابت أمها الكندية نشأت برعاية جديها من ناحية الأم في نوفا سكوشا بكندا، وتلقت تعليمها في كلية فاسار، حيث التقت في 1934 بميريان مور التي تشترك قصائدها معها في بعض ملامح أخصها دقة الملاحظة الوصفية. وفيما بعد ارتبطت بصداقة مع الشاعر روبرت لويل. عملت مستشارة للشعر بمكتبة الكونغرس بواشنطن في 1949-1950، وحصلت على جائزة «بولتزر»، أرفع الجوائز الأدبية الأميركية، في 1956، وانتخبت عضواً في «أكاديمية الشعراء الأميركيين» في 1964، وكانت أستاذة بجامعة هارفرد في سنواتها الأخيرة.

قامت بيشوب بأسفار عديدة في أوروبا وشمال أفريقيا والمكسيك وأميركا الجنوبية وحوض نهر الأمازون ونيويورك وجزر جالاباجوس في المحيط الهادي، وذلك قبل أن تستقر في البرازيل ثم في بوسطن. وقد قالت عند تلقيها جائزة دولية في الشعر عام 1976: «إن أغلب قصائدي جغرافية أو عن سواحل وشواطئ وأنهار تصب في البحر. وأغلب عناوين كتبي جغرافية هي الأخرى». ومن عناوين قصائدها التي تحدد المكان والزمان: «باريس، السابعة صباحاً»، «أخبار الساعة الثانية عشرة»، «البرازيل، 1 يناير 1502».

من أهم قصائدها التي سنتوقف عندها هنا: «السمكة»، و«كروسو في إنجلترا»، و«الأيل الأميركي الضخم».

قصيدة «السمكة» - كما هو واضح من عنوانها - قصيدة وصفية، ولكنها تأملية أيضاً. وهي تقع في أكثر من سبعين بيتاً. لقد كانت بيشوب تمتاز بالملاحظة الدقيقة وبخيال بصري لا يفوته شيء حتى إن الناقد والشاعر الأميركي راندل جاريل قارن قصائدها بلوحات المصور الهولندي يان فرمير (من القرن السابع عشر) والمصور الفرنسي إدوار فويار (من القرن العشرين).

والواقع أن بيشوب كانت إلى جانب الشعر رسامة ترسم بالألوان المائية والجواش (الحبر)، وقد وصلنا منها حوالي أربعين لوحة. وكانت معجبة بالمصور السويسري بول كلي تذكره في أكثر رسالة من رسائلها، وقد قالت ذات مرة إنها كانت تتمنى لو كانت مصورةً بدلاً من أن تكون كاتبة. ورغم وجود ملامح سريالية في بعض قصائدها فقد كانت تنفر من لوحات المصور السريالي الألماني ماكس إرنست.

وقصيدة «كروسو في إنجلترا» (182 بيتاً) مونولوج درامي مستوحى من رواية دانيل ديغو «روبنسن كروسو» وموضوعها - كما هو معروف - بحار تتحطم سفينته ويجد نفسه وحيداً (باستثناء زنجي يدعى فرايداى يتخذ منه كروسو خادماً) على ظهر جزيرة في قلب المحيط يعيش بها 28 عاماً قبل أن تمر سفينة فتحمله إلى بلده إنجلترا. والقصيدة مؤلفة من 14 مقطوعة تتفاوت من حيث الحالة النفسية والطول. ونرى فيها كروسو بعد عودته إلى إنجلترا يشعر بالفراغ والخسارة والحزن إذ فقد خادمه المخلص:

كان فرايداى لطيفاً

كان فرايداى لطيفاً، وكنا أصدقاء.

إنها قصيدة حزينة، مرثية متنكرة، نظمتها بيشوب بعد موت صديقة لها. وقد وصف روبرت لويل القصيدة بأنها «خليط من الفكاهة والقنوط».

أما قصيدة «الأيل الأميركي الضخم»، فتصف رحلة أتوبيس في طريق متعرج ذات مساء في نوفاسكوشا من منظور راكب ينظر من نافذة الأتوبيس. إنه يمر بمشاهد وأحداث متنوعة فالأتوبيس يمر بـ:

خمس جزر، خمسة بيوت

حيث امرأة تنفض غطاء مائدة

بعد العشاء

ويتوقف الأتوبيس فجأة ويطفئ السائق الأنوار، إذ يبرز أيل ضخم من الغابة ويتوقف أمام الأتوبيس في منتصف الطريق. ولكن أحد الرجال يطمئن الركاب إلى أن الأيل ليس مؤذياً. إنها مقابلة غريبة مع كائن غير بشري، شيء يجاوز الذات. ويستانف الأتوبيس السير، ولكن الركاب (والشاعرة) يلقون نظرة أخيرة على الأيل الذي فارق موضعه وتنتهي القصيدة بهذا التساؤل:

لم، لم نستشعر

(نحن جميعاً نستشعر) هذا

الإحساس العذب بالفرحة؟

كانت بيشوب شاعرة غنائية في المحل الأول. لم تكتب شعراً سياسياً ولا شعراً اعترافياً كذلك الذي كان يكتبه روبرت لويل وسيلفيا بلاث. إنها شاعرة السفر بامتياز في لوحة الشعر الحديث. وكانت حريصةً على ألا تكرر نفسها، وكل قصيدة من قصائدها كون مصغر أو عالم منمنم له بداية ووسط ونهاية. وكانت صانعة مدققة صبوراً (مرت قصيدتها المسماة «فن واحد» بست عشرة مسودة).

ويختم جوناثان بوست كتابه عن بيشوب بقوله إن قصائدها سطوح تزداد عمقاً كلما أنعمنا النظر فيها. إنها قصائد عن المعرفة التي تتكشف تدريجياً على مراحل. ويتساءل: هل عاشت قصائدها عبر الزمن؟ والإجابة: أجل كما تشهد استجابة الطلاب في الجامعات والمدارس لقصائدها، والدراسات النقدية المتزايدة التي تظهر عنها عاماً بعد عام. ويطرح بوست السؤال: «لماذا نقرأ بيشوب؟»، ويجيب: «لأنها تستدعي الشاعر الكامن في كل منا».



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.