من الشعر الأرسطي إلى بؤس البنيوية!

شكري عياد
شكري عياد
TT

من الشعر الأرسطي إلى بؤس البنيوية!

شكري عياد
شكري عياد

في بداية شهر مارس (آذار) 1993، كنت أسكن في فندق جورج الخامس بباريس، عندما فوجئت بقدوم المتفلسف العربي الضخم عبد الرحمن بدوي - رغم تحذيري المسبق من عدم استجابته - مستجيباً لدعوة عاجلة بإجراء حوار تلفازي معه، حيث لم تجرِ معه مقابلة تلفازية من قبل ومن بعد... لوهلة تصورته مستشرقاً ألمانياً! لمَ لا؟ وهو المعجب بالفلسفة الألمانية، ويعدّ هيغل أستاذه الأول. وعن وجوديتها كانت أطروحته للدكتوراه بإشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق.

عبد الرحمان بدوي

بعد تطواف بين جامعات القاهرة وبيروت والكويت وبنغازي وطهران، قضى سنواته الأخيرة بباريس في غرفة صغيرة في فندق متواضع، ومنه كان يشق طريقه اليومي إلى المكتبة الوطنية، التي فتحت له خزائن مخطوطاتها دون سواه، فهو العاكف - خاصة - على إحياء التراث اليوناني حيث عمل على تحقيق ونشر مخطوطات أرسطو؛ العربية واليونانية، ومنها تحقيق كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، سنة 1953.

بعد مقابلتي إياه بعامين، نقلت إلى د. شكري محمد عياد، في مقابلة تلفازية أخرى، ما قاله إنه كان أسبق منه في ترجمة الكتاب، وإن عياد قد أفاد منه دون ذكر لذلك.

فأجابني: «على ما أذكر، فإن كتاب عبد الرحمن بدوي قد صدر بعد أن انتهيت من رسالتي، حيث قدمتها لكلية الآداب للمناقشة في سبتمبر (أيلول) 1952، وكانت مناقشتها الفعلية في أكتوبر (تشرين الأول) 1953، 13 شهراً بين التاريخين، وخلال هذه المدة ظهر كتاب عبد الرحمن بدوي، الذي أحترمه جداً وأقدّره وأعدّه من أنشط الكتّاب، وقبل صدور كتابه قابلته عدة مرات، وكان يعرف أنني أبحث في كتاب الشعر، وكنت أعرف أنه يعدّ أيضاً كتاباً يجمع فيه هذه النصوص، ولا بأس أن أقول إنه أخفى عني معرفته بنصّ الفارابي، لأنني في كلامي عن الفارابي اعتمدت على نقولٍ عنه في كتبٍ متأخرة، إنما وجد هو له نصاً نشره أحد المستشرقين في تلخيص صغير لكتاب «الشعر».

وحين كررت على عياد: «لكن بدوي يقول إنك قد أخذت منه!»، أوضح: «الكتابان موجودان... لا أنا ولا هو بدأنا بنشر ترجمة (متى بن يونس)، لأن هذه الترجمة نشرها المستشرق البريطاني مارجليوث في القرن التاسع عشر، ونشرها بعد ذلك في الثلاثينات مستشرق ألماني اسمه ياروسلاف تكاتش، وكلانا كان يعرف هذين العملين، وأنا أشرت إليهما محللاً عمل مارجليوث وتكاتش في مقدمة رسالتي، ولا أظن أن عبد الرحمن بدوي قد صنع هذا، كما أنه كتب مقدمة عن قيمة كتاب الشعر الأرسطي، ونشر ترجمته الحديثة، وكتب تعليقات عليها، وهذا ليس من الصعب الحصول عليها من كتب النقد الأدبي القديم، وألحق بها النصوص العربية لـ(متى بن يونس)، ثم تلخيص الفارابي، ثم تلخيص ابن سينا، ثم تلخيص ابن رشد، أما أنا فقد وضعت ترجمة (متى بن يونس) بالتوازي مع ترجمة عربية حديثة حتى يظهر الفرق بين الاثنين، لكن إضافتي الحقيقية كانت دراسة تاريخ الكتاب في الثقافة العربية، بينما درس هو تاريخه في الثقافة الأوروبية في مقدمة الكتاب، ثم أورد النصوص العربية كما هي». وأضاف: «ذكرني هذا الأمر، عندما انتهيت من الدراسة، وعُرِفت في البيئة الجامعية، سمع عنها طه حسين، وطلب أن أذهب إليه، فذهبت إليه ومعي نسخة، فسألني هذا السؤال الصريح: هل عملك أفضل أم عمل عبد الرحمن بدوي؟ فسكتُّ قليلاً ثم استنجدت بكل شجاعتي، ثم قلت له: عملي أفضل، ثم عددت له الأسباب لقولي ذلك، وهذا ليس لأنني أفضل من عبد الرحمن بدوي، بل إنني أعتقد أنه أعلم وأفضل وأذكي مني، إنما أنا أشدّ إخلاصاً وتفانياً للعمل الذي أريد أن أقوم به».

طه حسين

تأثر العياد بأمين الخولي

انضم شكري عياد إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة فؤاد (جامعة القاهرة) مفتوناً بسحر شخصية طه حسين، الذي أحدث دوياً هائلاً بين أروقتها إثر صدور كتابه «في الشعر الجاهلي» 1926 غير أن عياد تأثر بمن درّسه على مقاعد الدراسة الجامعية؛ الشيخ أمين الخولي في البلاغة والتفسير، فمشرفاً على رسالة تلميذه للماجستير في البلاغة العربية «يوم الدين والحساب» سنة 1948، ثم إشرافه على أطروحته للدكتوراه، تاركاً أثره على تلميذه النجيب، بمحاضرته في الجمعية الملكية الجغرافية سنة 1931 عن «البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها»، بالتزامن مع محاضرة طه حسين عن «البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر»، التي ألقاها في نفس العام في مؤتمر المستشرقين بلندن، وقد ذهب إلى أن الأثر الأرسطي يكاد يكون باهتاً أو معدوماً، حاصراً ذلك في تأثر قدامة بن جعفر في كتابه الثابت «نقد الشعر» وكتابه المشكوك فيه «نقد النثر» وتبين مؤخراً أنه لابن وهب... باعتبار ما قام به السريان العرب المسيحيون من ترجمة كتب أرسطو، خاصة كتابيه «فن الشعر» و«فن الخطابة»، بوصفهما كتابين في المنطق، حيث عكف السريان على نقلها لاستخدامها في مجادلاتهم الدينية، خاصة بعد مجيء الإسلام وانتشاره بين مسيحيّي الشرق.

من هنا، قام تراجمتهم، وفي طليعتهم متى بن يونس، بترجمة كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس، الذي شكك ابن سعيد السيرافي في مناظرتهما أمام الخليفة المقتدر، بأنه لا يحسن الترجمة من اليونانية، رغم وجود روايات عن ترنم متى بأشعار هوميروس بأصلها اليوناني. وربما بسبب تسلل المنطق الأرسطي إلى بغداد العباسية في ذروة انفتاحها الفكري، وجدنا أبا نصر الفارابي يهتم بالفكر اليوناني ويؤلف عن «فلسفة أرسطوطاليس» و«الجمع بين الحكيمين» أي أفلاطون وأرسطو، وهما كتابان عُني بهما أستاذ كرسي الدراسات العربية بجامعة هارفارد العراقي د. محسن مهدي، الذي ألّف كتاباً عنه: «الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية»... وقد شهد ابن صاعد الأندلسي في كتابه «طبقات الأمم» للفارابي بالبراعة في صناعة الفلسفة، والتحقق بفنون الحكمة والاطلاع على أسرار العلوم، ليتقدم أبرع فلاسفة العرب (الكندي وابن سينا وابن رشد) في الاشتغال بكتاب «فن الشعر» وكتاب «الخطابة»، إذ استقاهما في بغداد من أستاذه المباشر متى بن يونس، ورغم ضياع نص ترجمة الفارابي المعنونة بـ«رسالة في قوانين صناعة الشعر» فإنه ترك أثره - ربما قبل ضياعه - على شرح ابن سينا في كتابه «البرهان من كتاب الشفاء»، الموسوم بوضوح نص أرسطو أكثر من التراجمة الأخيرِين، خمن ذلك بنقله المباشر عن الفارابي دون ذكر اسمه!

مترجمو العصر العباسي والباعث الديني

كان باعث المتكلمين العرب في العصر العباسي المتأثرين بفكر أرسطو، خاصة في كتابه «فن الخطابة»، باعثاً دينياً - كما هو الشأن مع السريان - لكن من جهة الإعجاز القرآني، بعدما ثار الجدل حوله مع نشأة الفكر المعتزلي، وهو ما جعل د. أمين الخولي في محاضرته المومأ إليها سنة 1931 يذهب إلى أن الإعجاز القرآني أثّر تأثيراً كبيراً في التأليف البلاغي لدى الرماني والخطابي، ليتجلى ذلك في مداولات المعتزلة حول مسألة الحسن والقبح العقليين، وقد أصبحت المقدمة المنطقية مدخلاً أساساً للبحث في علوم البلاغة للاستدلال على الإعجاز القرآني، وأصبحت الفلسفة لذلك متصلة بالبلاغة العربية.

فهل لذلك - يا ترى - يكمن توجه شكري عياد للاهتمام بكتاب «أرسطوطاليس في الشعر - نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي - حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية»، الصادر سنة 1967، وقد أشاع أستاذاه طه حسين وأمين الخولي - كما بيّنا - أن البيان العربي منذ نشأته كان خاضعاً للتأثير الأرسطي، وأن الفلسفة اليونانية أثّرت في نشأة البلاغة العربية، حتى أصبحت مجرد أصداء لما أخذوه من كتابي أرسطو «فن الشعر» و«فن الخطابة»، في حين أن البيان العربي وقضاياه البلاغية قد تشكّلا قبل أن يعرف العرب كتابي أرسطو، إلا أن عياد لا ينفي قط تأثر البلاغيين العرب بالمنطق الأرسطي، كما وضح لدى عبد القاهر الجرجاني بنظرية النظم ووحدة الكلام في كتابيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، وحازم القرطاجني في كتابه «منهاج البلغاء» بوصف البلاغة علماً كلياً لعلوم الإنسان واللسان، والسكاكي في كتابه «مفتاح العلوم» الذي امتاز بتبويب البلاغة... لخّصه القزويني بعده في القرن الثامن الهجري في كتابه «الإيضاح في علوم البلاغة» الذي قرأناه على أستاذنا د. عياد في كلية الآداب جامعة الملك سعود، وقد تألقت تعريفات القزويني بالدقة المنطقية.

محاولة إنشاء علم جديد في الثقافة العربية

وقتذاك في منتصف السبعينات الميلادية، لاحظ عياد الفوضى البلاغية التي شاعت بين شباب الأدب والشعر، محاولين تحطيم كل بلاغة مأثورة بحثاً عن بلاغة جديدة، لذلك أقنع قسم اللغة العربية بتدريس مادة علم الأسلوب، محاولاً إنشاء علم جديد في الثقافة العربية، مستمداً من تراثها اللغوي والأدبي، على ضوء الدراسات اللغوية والنقدية في أوروبا وأميركا... ومؤلفاً في ذلك كتاباً رائداً، حين كان يرأس كرسي الأدب والبلاغة بجامعة الملك سعود لسنوات طوال.

غير أنه وجد نفسه محاصراً بالبنيوية في تحليل النصوص تحليلاً غامضاً مجرداً، لتعمل التفكيكية من بعدها على تحطيم كل الحدود التي تجعل للنص وجوداً متميزاً، مرجئة فهمه! وهو ما كشف عنه ليونارد جاكسون في كتابه «بؤس البنيوية» أن ما بدأته البنيوية بوصفها استراتيجية بحث عقلاني في أواخر العشرينات، انطوى على عيب أساسي، نشأ عما دعاه بـ«البؤس المنطقي» في نموذج اللغة الأساسي، وهو قصور في تفسير وقائع اللغة ذاتها، فما بالك بوقائع الأدب والمجتمع.

هكذا يتساءل جاكسون بوصف التأويل الأدبي والنقد التقويمي ممارستين اجتماعيتين، ويواصل: «إذا ما عرّفنا النقد بأنه تأويل عام ومترابط للأعمال الفنية المعقدة على نحو يجد قبولاً لدى كل من الفنان والجمهور، فإن من الطبيعي أن نتنبأ بأننا لن نعرف لوقت قادم أي نظريات مرضية تتناول هذا النشاط»، مؤكداً أن معظم الخطابات حول الأدب ليست نظرية أدبية أو بحثاً أدبياً، وإنما هو ضرب من التأويل والتقييم.

الموقف من البنيوية

هذا هو ما أصبح شغل د. شكري عياد الشاغل، كما بيّن ذلك في بحثه المتضمن كتابه «اتجاهات البحث الأسلوبي» المترجمة أبحاثه، حينما وصف مناهج البحث النقدي الجديدة بأشبه بطلاسم كهنوتية، من المحرم فهم قارئ الأدب لها! داعياً ألا يخدعه «ناقد ناقص الخبرة متعالٍ متعالم في استخدامه الأجوف لمصطلحات غامضة يزدردها دون فهم وإدراك ووعي، ما يخيف القارئ ويرهبه، فيبتعد كلياً عن النقد متهماً نفسه بالجهل، مفتقداً الاتصال بالنص الأدبي موضوع النقد».

وفي العدد الثاني من مجلة «فصول» سنة 1981، وضّح موقفه النقدي المخدوم بترسانة هائلة من القراءات المتعمقة في الإجراءات النقدية الجديدة، هذه التي سوّق لها «وكلاء» عرب على غير هدى، خاصة في دول المغرب العربي، ما قضى على تاريخ الذوق في النقد العربي... موضحاً في مقاله البحثي المعنون «موقف من البنيوية» أن البنيوية حاولت أن تقنن الأدب كنظام عقلي مجرد، ولكنها اصطدمت بالأدب كإنتاج يعبر عن حالة نفسية لإنسان العصر، وبينما نرى انتصارات الكمبيوتر تتوالى في ميدان العلوم الطبيعية، ودور الإنسان ينكمش في تشكيل الحياة، نرى الأدب الحديث والبنيوية ممثلين لهذا الأدب الحديث ومدافعين عنه، يقدمان للإنسان صورة جديدة من حلم العالم الآخر، ويفشلان كل الفشل في الوصول إلى أي قانون عام.


مقالات ذات صلة

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

كتب روبرت نوزيك

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً

ندى حطيط
ثقافة وفنون شوقي ضيف

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

من مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa

كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

قبل أن ينتشر التنوير بمختلف أرجاء أوروبا، ويُلهم أمثال توماس باين وتوماس جيفرسون داخل أميركا في عهد الاستعمار، كان يجري النظر إلى أغلب الناس

فرانك ماكورت
ثقافة وفنون «عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

من خلال رؤية فانتازية تطرح رواية «عملية تجميل» للروائية المصرية زينب عفيفي مفهوم الجمال من خلال لعبة مع الزمن، حيث العُمر يعود أدراجه الأولى، مخالفاً سنن الحياة

منى أبو النصر (القاهرة)

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
TT

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي. خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور في مطلع القرن الحالي، وكشفت حملات التنقيب المتلاحقة فيه خلال السنوات التالية عن كم هائل من اللقى الأثرية، منها مجموعة مميّزة من القطع الذهبية المتعددة الأشكال.

يقع ساروق الحديد داخل سلسلة من الكثبان الرملية في الجزء الجنوبي الغربي من منطقة «سيح حفير» المترامية الأطراف، ويشكل حلقة من سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على الطريق التي تربط بين واحة العين ومدينة أبوظبي.

شرعت «دائرة التراث العمراني والآثار» التابعة لبلدية دبي في استكشاف أوّلي للموقع في عام 2002، وتعاقدت مع بعثة تابعة لـ«دائرة الآثار العامة في الأردن» لإجراء التنقيبات التمهيدية. تواصلت أعمال هذه البعثة على مدى خمس حملات، وتبيّن معها سريعاً أن سطح الموقع يحوي كميات كبيرة من خَبَث المعادن، ومجموعات عدّة من اللقى، منها القطع النحاسية والحديدية، والكسور الفخارية والحجرية، إضافة إلى قطع متنوعة من الحلي والخرز والأصداف.

شهد ثراء هذه الغلّة لأهمية الموقع الاستثنائية في ميدان الإمارات الأثري خلال العصر الحديدي، ودفع السلطة الحاكمة إلى التعاون مع عدد من البعثات الغربية لاستكمال هذه المهمة بشكل معمّق.

أجرت مؤسسة «محمية دبي الصحراوية» بالتعاون مع مؤسسة دبي للتسويق السياحي والتجاري سلسلة من التنقيبات بين عامي 2008 و2009، أشرف عليها فريق من البحاثة الأميركيين، وتبيّن أن الموقع يعود إلى تاريخ موغل في القدم، وأن هويته تبدّلت خلال 3 آلاف سنة. تواصلت أعمال البحث مع وصول بعثات جديدة، منها بعثة أسترالية تابعة لـ«جامعة إنجلترا الجديدة»، وبعثة إسبانية تابعة لـ«معهد سانسيرا للآثار»، وبعثة بولونية تابعة لـ«المركز البولندي للآثار في منطقة البحر الأبيض المتوسط في جامعة وارسو».

اتضحت صورة التطوّر التاريخي للموقع، وشملت 3 مراحل متعاقبة. كان الموقع في البدء واحة استقرّ فيها رعاة رحّل، ثم تحوّل في مرحلة لاحقة إلى مركز ديني حملت آثاره صورة الأفعى بشكل طاغٍ، كما في مواقع أخرى متعددة في شبه جزيرة عُمان. تطوّر هذا المركز بشكل كبير في مرحلة ثالثة، وتحوّل إلى مركز تجاري كبير تتقاطع فيه طرق الجزيرة العربية مع الطرق الخارجية.

حوى هذا المركز محترفات لصناعة المعادن ومعالجتها، وضمّ على ما يبدو محترفات خُصّصت لمعالجة الذهب والفضة والبرونز والرصاص، كما ضمّ ورشاً لتصنيع الخرز، وتشهد لهذا التحوّل مجموعات اللقى المتعددة التي خرجت من الموقع بعد استكشاف جزء صغير من مساحته التي تبلغ نحو 2 كيلومتر مربّع.

دخل جزء من هذه المجموعات الأثرية إلى متحف خاص افتُتح في صيف 2016 في منطقة الشندغة في بر دبي. حلّ هذا المتحف في بيت من الطراز التقليدي شيّده الشيخ جمعة بن مكتوم آل مكتوم في أواخر عشرينات القرن الماضي، وتحوّل هذا البيت الكبير إلى «متحف ساروق الحديد»، بعد تجهيزه وفقاً لأحدث الطرق.

تحوي هذه المجموعات الأثرية المتنوّعة مجموعة استثنائية من القطع المصنوعة بالذهب، وهي قطع منمنمة، منها قطع من الذهب الخالص، وقطع من معدن الإلكتروم المطلي بالذهب، والمعروف أن الإلكتروم سبيكة طبيعية المنشأ، تجمع بين الذهب والفضة، مع بعض كميات صغيرة من الرصاص والمعادن الأخرى.

تتألف هذه الذهبيات من مجموعات عدة، منها مجموعة كبيرة القطع الدائرية، تتكون كل منها من حبيبات متلاصقة، لُحم بعضها بجانب بعض في حلقة أو حلقتين. تختلف أعداد الحبيبات بين حلقة وأخرى، كما تختلف صورة كتلتها، والجزء الأكبر منها كروي الشكل، وبعضها الآخر مضلع. ونقع على قطع محدودة تأخذ فيها أشكالاً مغايرة، منها العمودي على شكل شعاع، ومنها البيضاوي على شكل البتلة. احتار البحاثة في تحديد وظيفة هذه القطع الدائرية، ويرى البعض أنها كانت تُستعمل لتشكيل عقود الزينة، ويرى البعض الآخر أنها صُنعت لتطريز الألبسة.

إلى جانب هذه المجموعة الكبيرة من الحلقات الدائرية، تحضر مجموعة أخرى كبيرة تتألف من قطع على شكل قرني ثور، ووظيفتها غير محدّدة كذلك، والأرجح أنها استعملت كأقراط أو خزامة في الأنف. تختلف هذه القطع المنمنمة في الحجم، كما تختلف في دقة الصناعة، وأجملها قطعة يتدلّى منها تاج على شكل جرس صيغ برهافة كبيرة.

تأخذ هذه الذهبيات طابعاً تجريدياً، وتخرج عن هذا الطابع في حالات معدودة، كما في قطعتين مستطيلتين تحمل كل منهما صورة ناتئة لحيوان يظهر بشكل جانبي. تمثل إحدى هاتين الصورتين أرنباً يعدو على أربع، وتمثل الأخرى غزالاً يقف ثابتاً.

ونقع على قطعة تأخذ شكل تمثال صغير يمثّل حيواناً من فصيلة السنوريات يظهر بشكل مختزل للغاية. قطعة مماثلة تمثل ثعباناً مرقطاً، وتشابه هذه القطعة في تكوينها القطع المعدنية الثعبانية التي خرجت بأعداد كبيرة من مواقع أثرية مختلفة في الإمارات العربية المتحدة كما في سلطنة عُمان.

أثبتت الدراسات العلمية أن هذه الذهبيات محلية، وهي نتاج صناعة راجت في هذه البقعة من الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد. وربط البعض بين هذه البقعة وبين بلاد أوفير التي تردّد ذكرها في التوراة، واحتار المفسّرون في تحديد موقعها.

يتحدث «سفر الملوك الأول» عن «سفن حيرام التي حملت ذهباً من أوفير، أتت من أوفير بخشب الصندل كثيراً جداً وبحجارة كريمة» (10: 11). ويتحدّث «سفر أخبار الأيام الأول» عن «ثلاثة آلاف وزنة ذهب من ذهب أوفير، وسبعة آلاف وزنة فضة مصفاة» (29: 4). كما يتحدث «سفر أخبار الأيام الثاني» عن سفن حلت في أوفير، وحملت منها «أربعمائة وخمسين وزنة ذهب» إلى الملك سليمان (8: 18).

نقرأ في «سفر المزامير»: «جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير» (45: 9). وفي «سفر إشعيا»: «واجعل الرجل أعز من الذهب الإبريز، والإنسان أعز من ذهب أوفير» (13: 12).