مفارقات الفكرة واللعب عليها... شعرياً

الشاعرة التونسية ماجدة الظاهري في «أراجيح الضوء»

مفارقات الفكرة واللعب عليها... شعرياً
TT

مفارقات الفكرة واللعب عليها... شعرياً

مفارقات الفكرة واللعب عليها... شعرياً

في ديوانها «أراجيح الضوء» الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، تحلّق الشاعرة التونسية ماجدة الظاهري في فضاء الذكريات والأمكنة والمدن، مستعيدة برهافة مخيلة الأماني المجروحة والأحلام الهاربة، التي أصبحت تكرر نفسها ويتردد صداها في حنايا الروح كمرثية شجية مفتوحة على تخوم البدايات والنهايات. يساعد في ذلك أن الديوان يفتت مركزية الضوء، فلا يشكل محور إيقاع ثابتاً للرؤية، إنما يتناثر في نسيج الصورة الشعرية على شكل مِزق وومضات لاهثة، تتأرجح في كل اتجاه. وتنعكس ظلالها بقوة على الذات الشاعرة التي تتأرجح بدورها ما بين الحلم بالماضي وواقع اللحظة الراهنة، مدركةً أن مأزقها الخاص عاطفياً وإنسانياً يكمن في هذه المسافة الرخوة بينهما، ومع ذلك لا تتمرد عليه، بل تتكيف معه كظل حارس لها، وحين تسامره وتلعب معه تضعه بين قوسي مفارقة تفوح منها رائحة التهكم والسخرية، لكنها مع ذلك، تستعذب استرجاعه من جراب الماضي واستدراجه والتمسح في غباره. تقول في نص بعنوان «فكرة عارية» (ص 18) موجهة الخطاب للحبيب الهارب:

«كأنكَ لا تعرف

أننا أفرطنا في الحلم

حتى نمنا في محارة

وتدحرجنا على الرمل

أشرنا إلى البحر أن يغني فغنى

رقصنا مع الموج

تحدثنا مع ضوء الفجر

فتحنا له الحكاية

من الجذور

وخلدنا لموسيقى السماء

في جسدينا.

كأنك لا تعرف

أن ما رسمناه

على وجه الماء

كان مقعدين فارغين

في جزيرة نائية

غرقنا وبقي المقعدان

شاهدي زور».

ومن ثم، يصلح مجاز «الفكرة العارية» ليشكل عتبة نقدية لقراءة هذا الديوان الواقع في 120 صفحة؛ فالتعري فعل صادم في إطار العرف الاجتماعي، وهو أكثر الحريات إثارة للجدل والجرأة، خصوصاً حين يتحول إلى فعل احتجاج ضد مظاهر سالبة في المجتمع، لكنه مع ذلك يظل مغوياً في إطار العلاقات العاطفية الخاصة الحميمة، ويبلغ ذروته الجمالية في الفن وبخاصة فن النحت، كما أن التعبير بالجسد يشكل إحدى مغامرات التجريب المسرحي المهمة؛ وفي مرآة الفلسفة تبرز جدلية الخفاء والتجلي، كإحدى الأفكار الرئيسية في النظر إلى قضايا الكون وحقيقة الوجود الإنساني في أبسط وأشد مظاهره وأبعاده وضوحاً وتعقيداً. وفي الشعر لا تتعرى الأشياء لتصبح أكثر وضوحاً، إنما لتصبح أكثر كثافة وغموضاً وتجسيداً لفضاء الفعل الشعري، بكل نزقه وشطحه وهذيانه.

بناء المشهد والصورة الشعرية

ينعكس هذا على عدد من نصوص الديوان، حيث تتحول الفكرة المجردة إلى سلاح للتأويل ينفتح على مجاز المشهد والحكاية، ويعلي من طاقة السرد بروح الشعر. يبرز هذا على نحو لافت في نص بعنوان «جنون»، يتأمل عالم «مستشفى المجانين»، ويركز على النساء المجنونات، يلتقط معاناتهن مع الحياة، ويرصد كيف تتحول مفرداتها وأشياؤها العادية، مثل «الحصول على سيجارة» إلى حلم شائك وسط غابة من القضبان والأسوار، وكما يقول النص:

«السيجارة الآن بين شفتيها

السيجارة الآن تطلق جناحيها

تدخنها بصمت

وبصمت ترسم بدخان السيجارة

أشياءَ لا يفهمهما أحدٌ آخر

وشخوصاً لا يعرفها أحدٌ غيرها

وعوالمَ لا تحتاج إلى مستشفى»

الملاحظ هنا أن النص يعتمد في بناء المشهد والصورة الشعرية على آلية التكرار لألفاظ بعينها ذات دلالة خاصة (القضبان، الجنون، السيجارة)، ليعطي إحساساً بثقل الحالة ووطأتها الإنسانية. وفي الوقت نفسه، يكشف كيف تتحول اللغة بين هؤلاء المرضى والحياة من أداة للتواصل والمحبة إلى سلاح للشتائم والسباب... «وتنطلق الشتائم من النافذة/ الشتائم واللعنات لا تبالي بالقضبان/ كل العالم عليل/ اللعنة على هذا العالم بأسره».

في غبار كل هذا يكشف النص عن مفارقة شديدة الحيوية، حيث يتحول الجنون بالحياة وبالحب إلى طقس ولغة سرية، يصفو فيهما الجسد لكينونته، متخلصاً من شوائب الحياة ومعاناة المرض، كأنه مغمور بينابيع أخرى للعلاج:

«نزعتْ عنها ثوباً يشبه قشرةً

وكمن يلتفُّ براية بعد فوزه في سباق

لفَّتْ جسدها النحيلَ بفستان فضفاض

ثم،

رفعتْ فوق رأسها السابحِ في دخان السيجارة يديها

ورقصتْ، رقصتْ، رقصتْ

ثم غنتْ: أنا أحببتك

أحببتك

أيها المجنون... أنا أحببتك

أحببتك حدّ الجنون»

اللعب على المجازات

ينوع الديوان طرائق المجاز، ويفتح له مجالات إدراك ورؤى لا تخلو من الجِدة في كثير من النصوص، فيقفز من مجاز الداخل الساكن الممسوس بالشوق الدائم لكسر رتابة العادة والمألوف، إلى مجاز الخارج الضاج بالحركة حد الفوضى والجنون. كما يوسع من فضاء النص باستدعاء شخوص من عباءة التراث والأساطير بعدّها رموزاً وعلامات فارقة قادرة على إشاعة حيوية التناص في القصيدة، والاشتباك مع الواقع الراهن ومنها «زوربا، وفينوس، وروزا لوكسمبورغ». تعي الذات الشاعرة أن هذه القفزة، ليست مجرد خبط عشواء، إنما هي إفراز حالة من التأمل والرصد العميق لتحولات العناصر والأشياء، وما يجري في الواقع والعالم من حولها. فـ«فينوس» إلهة الجمال عند الرومان تصارع القطط والكلاب لتجد ما تقتاته في المزبلة، وزوربا لا يزال يواصل رقصته الشهيرة وسط الثلوج، وروزا لوكسمبورغ، شهيدة الثورة الألمانية لا تزال تحرض الثوار ضد النازيين والإرهابيين الجدد. كما تعي شكل انعكاس كل هذا على مرآتها الخاصة. لذلك في مقابل متاهة العالم والواقع لا تعتصم الذات الشاعرة فقط بقصيدتها، إنما تحاول من خلالها الوصول إلى حكمة ما، فيما وراء هذا الجنون الذي جعل الحياة غابة مليئة بأزهار الشر والكراهية والسموم. فمن الطريق تعلّمتْ حكمة المشي وفلسفته، وتعلمت خيانته أيضاً، ومن خلال هذه الحكمة المرتجاة تحاول الوصول إلى أمنها الداخلي وشاطئها الخاص، حينئذ يمكنها مواجهة الموت وملاطفته شعرياً ليس بوصفه لغزاً للحياة، إنما ابنها الضال، في متاهة الحروب والكوارث والنكبات... تقول في نص بعنوان «دعوة حب - ص 56»:

«ماذا لو ندعك طين البداية

بوميض الحنين وندى الأصوات البعيدة

وعرق الخزافين

ماذا لو نشكلها جِرارا

ندسُّ فيها فاكهة العشاق

نصفِّفها على باب مدينتنا

نفتح في الليل معابرَ الطين

ندعكه حتى يكاد ينفث الماء نوافيرَ

ونطيل المشي بين أقواس الفراغ

ندس فيها ثمالة بهجتنا

ندلُّ التائهين إلى جرارنا عند الباب

لو اهتدوا نعيد إليهم ظلالهم الكسيرة

نغني... ونمشي على خيط شفيف».

هذا السؤال المشرّب بالروح الشعبية، ونوازع شتى للأمل والرجاء وإعادة تشكيل البداية من جديد بطينة الحب، يحقق تصاعداً ونمواً فنياً لافتاً في بعض قصائد الثلث الأخير من الديوان، التي يغلب عليها القصر نسبياً، وبخاصة قصائد «هروب/ هذه أنا/ أمسية شعرية/ ضحكة/ أمي/ ريح»، حيث تتخلص الصورة الشعرية - إلى حد كبير - من مجاز الحكاية بصورته النمطية المترهلة، ومفارقاته المجلوبة من الخارج، كما تتخلص من ضجيج التكرار والأنا الشاعرة المتعالية في فضاء المشهد «أنا التي لا تشبه إلا أنا/ أنا الصخرة والينبوع، الجريان والحقول/ أنا النورس يحرس الآفاق». وترتقي إلى مجاز الحالة، المفتوح على حدوسات معرفية وجمالية مباغتة. تتناسل من نسيج النص نفسه، وبحيوية شعرية تجعله مفتوحاً على براح الخيال والحواس... تقول لشاعرة في قصيدة «ضحكة - ص 108»:

«أرسلت له ضحكتي

تأبّطها وركضَ كمجنون

عثر على رغيف ساخن

بعد جوع طويل انزوى بها في آخر الشارع

كلما قضم منها قليلا

تطايرت فراشاتٌ كثيرةٌ

ابتلعها وأغمض عينيه

رقصَ

طوقته الفراشاتُ

وتمادي في

الـ .. ر.. ق .. ص».

برغم الدفقة الرومانسية التي يشي بها هذا النص، فإن مجاز الحالة يحوِّلها إلى طقس، وهي سمة لافتة في الديوان، فالقبلة الخاطفة تصبح فعل وجود تماماً كالخبز، والرقص يصبح فعل حرية، لا يستثير الفراشات فحسب، إنما يكشف عن الطاقة الكامنة في النص، وقدرته على خلق نوافذ جديدة للجمال من أبسط الأشياء ألفة وعادية.

تبقى خلاصة هذه الإطلالة على هذا الديوان الشيق، في أن مجاز «الأفكار العارية» لا يعني أن تعيش عارياً تحت هالة من الضوء، تسلطها عليك أحلامك ورغباتك المقموعة، إنما يعنى بالأساس أن يتحول النص الشعري إلى مرآة للذات الشاعرة والقارئ معاً.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.