مجسّمات أنثوية جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

تتبع تقليداً واحداً جامعاً وتُعرف باسم «تماثيل النائحات»

5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
TT

مجسّمات أنثوية جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة

يحتفظ «متحف البحرين الوطني» في المنامة بمجسّمين أنثويين صغيرين من الطين المحروق، مصدرهما مقبرة تُعرف باسم «مقبرة سار الأثرية»، كما يحتفظ بقطعة مشابهة لهذين المجسمين، مصدرها مقبرة أثرية أخرى تُعرف بـ«مقبرة الشاخورة». تتبع هذه القطع الثلاث تقليداً واحداً جامعاً شكّل بداية لطراز تكوّن لاحقاً، وبرز خلال مجموعة من التماثيل صُنعت بتقنية الجص المصبوب، عُرفت باسم مجموعة «تماثيل النائحات».

كما كشفت أعمال التنقيب المستمرة في مدافن البحرين الأثرية عن مجموعة من التماثيل الطينية تتبع تقاليد جنائزية فنية عدة، كما تشهد الدراسات الخاصة بهذا الميراث الأثري.

تمثّل هذه القطع الثلاث طرازاً من هذه التقاليد التي تنوّعت على مدى قرون من الزمن. تتماثل هذه المجسّمات في تكوينها، كما في ملامحها، إلى حد كبير، وتختلف في بعض التفاصيل الثانوية. يمثّل كل من مجسّمَي «مقبرة سار» امرأة تقف منتصبة على قاعدة مستطيلة، رافعة يدها اليمنى في اتجاه صدرها، غير أن إحداهما تبدو أطول من الأخرى. في المقابل، يمثل «مجسّم الشاخورة» امرأة تقف في وضعية مشابهة، إلّا إنها تحضر في كتلة غابت عنها القاعدة المستطيلة.

تقع منطقة سار في المحافظة الشمالية، على بعد نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة، وتحدّها من جهة الشرق منطقة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها. يتألّف الموقع الأثري في سار من مستوطنة، ومعبد، والقليل من تلال المدافن. تقع المقبرة على بعد نحو 500 متر إلى الجنوب من المستوطنة، وفيها تنفصل كل غرفة دفن عن جاراتها على غرار أقراص خلية النحل. عثرت بعثة محلية على المجسّمَين في أثناء حملة التنقيب التي أجرتها خلال عام 1991. خرج أحدهما من القبر الذي حمل رقم «44»، وخرج الآخر من قبر مجاور حمل رقم «47».

تقف المرأة الأكبر حجماً على قاعدة تأخذ شكل مكعّب مجرد، ويبلغ طولها مع هذه القاعدة 14 سنتيمتراً. ترتدي هذه السيدة، كما يبدو، ثوباً طويلاً يحجب تفاصيل جسدها بشكل كامل، ومن خلف هذا الثوب، يبرز نتوء الساقين المنتصبتين على قدمين غابت ملامحهما. الذراعان ملتصقتان بالصدر. تنثني الذراع اليمنى، وترتفع يدها وتلتصق بالصدر. تنحني الذراع اليسرى انحناءة طفيفة، وتلتصق يدها بأعلى الفخذ. يرتفع الرأس فوق عنق ناتئة طويلة، وتكلّله «طَرْحَة» عريضة ينسدل طرفاها على الكتفين بشكل متواز. العينان دائريتان ضخمتان ناتئتان، يتوسط كل منهما بؤبؤ يحل على شكل نقطة غائرة. الأنف كتلة مثلثة تستقر بين العينين، والفم غائب وممحو بشكل كلّي. الأذنان كبيرتان، توازيان في ضخامتهما حجم العينين، وتتميزان بأقراط كبيرة تتدلى منهما. في هذه العلياء، تقف هذه السيدة في صمت مطبق، وتحدّق في المجهول.

تحضر نظيرة هذه المرأة في كتلة مشابهة، وتقف في وضعية مماثلة فوق قاعدة مستطيلة بسيطة. ساقاها قصيرتان للغاية قياساً بحجم النصف الأعلى من جسدها، وعناصر بدنها ممحوة. الذراع اليمنى مثنية نحو الأعلى، واليسرى متدلية، مع انحناءة بسيطة عند الكوع. العنق طويلة، وهي أشبه بوصلة تمتدّ بين الرأس والجسد، وتشكل قاعدة للوجه البيضاوي. تتكرر ملامح هذا الوجه وسماته الخاصة المتمثلة في العينين الدائريتين الشاسعتين والأذنين البيضاوين الضخمتين المزينتين بقرطين متدليين. يحيط بهذا الوجه وشاح يحجب الشعر، ويتدلى من خلف الكتفين.

خرج المجسم الثالث كما أشرنا من مقبرة أثرية تقع شمال غربي قرية الشاخورة، على بعد نحو 700 متر جنوب شارع «البديع»، شمال المنامة، ومصدره قبر حمل الرقم «12» في التل الذي حمل الرقم «1». يتكرّر المثال الجامع في هذه القطعة، ويظهر الاختلاف الثانوي في بنية العنق التي بدت هنا عريضة، والاتساع العجيب للعينين اللتين اتخذتا شكلاً بيضاوياً. تعود هذه القطع الأثرية الثلاث إلى الفترة الممتدة من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول للميلاد، وتتبنّى تقليداً فنياً مستقلاً لم ينتشر انتشاراً واسعاً كما يبدو؛ إذ لا نجد ما يماثلها في الميراث الجنائزي الذي يعود إلى تلك الحقبة.

مهّد هذا التقليد لنشوء طراز متطوّر، تمثل في ظهور مجسمات جنائزية أكبر حجماً وأكثر إتقاناً، صُنعت بتقنية الجص المصبوب والمطلي بالألوان. يجسّد كلّ من هذه التماثيل امرأة تثني ذراعيها، وتمسك بيديها خصلات شعرها المتدلية على كتفيها، في حركة تعبّر عن النحيب. وصلت إلينا مجسّمات عدة تختزل هذا المثال، ودخلت «متحف البحرين الوطني» في المنامة، أشهرها مجسّم خرج من مقبرة تُعرف باسم «المقشع»، نسبة إلى قرية تقع غرب المنامة، وتبعد عنها بنحو 5 كيلومترات، وتطل على شمال شارع «البديع».

يبلغ طول هذا المجسم 24 سنتيمتراً، وتشابهه قطع عدة من الحجم نفسه، تتبنّى هذا الطراز. يبرز الطابع الهلنستي بقوة في هذا النتاج، ويظهر في الثوب الإغريقي التقليدي، المطلي بخطوط سوداء وحمراء تُحدّد ثناياه عند حدود الصدر والخصر وأسفل الساقين. القامة منتصبة ومستقيمة، ونسبها التشريحية واقعية. ملامح رأس الباكية واضحة، وعيناها محددتان باللون الأسود. خصل الشعر مطلية كذلك بهذا اللون، ومنها خصلتان طويلتان تحدّان الوجنتين وتنسدلان على الصدر.

يحضر هذا النموذج بشكل مغاير في قطعة دائرية عُثر عليها في تل من تلال «مقبرة سار»، دخلت بدورها «متحف البحرين الوطني». تغيب القامة التقليدية المستقيمة، ويحضر النصف الأعلى منها وسط قرص قطره 13.6 سنتيمتراً، حدّد إطاره الناتئ باللون الأحمر. تطلّ المرأة النادبة، وترتفع خصلتا شعرها الطويلتان التقليديتان، وتشكلان نصف دائرة حول وجهها. تحدّق الباكية بعينيها المكحّلتين عبر هذه النافذة، وتندب صاحب القبر الذي ترافقه في مرقده الأرضي.

تشكّل هذه المجسّمات طرازاً من طُرز النحت والنقش الجنائزية المتعدّدة التي راجت في البحرين خلال الحقبة الطويلة التي حملت فيها الجزيرة اسم «تايلوس» اليوناني، وهو الاسم الذي أُطلق عليها عند استكشاف أرخبيل البحرين. يقابل هذا الطراز تقليد آخر وصلت منه عشرات الأمثلة، يتمثّل في شواهد القبور التي عُثر عليها في كثير من الأماكن خلال العقود الأخيرة في أثناء حملات المسح والتنقيب في مقابر «تايلوس» الحافلة بالمفاجآت الأثرية.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.