الرواية بصفتها بحثاً

أحمد الشويخات في «الأميركي الذي قرأ جلجامش»

الرواية بصفتها بحثاً
TT

الرواية بصفتها بحثاً

الرواية بصفتها بحثاً

هناك أكثر من تفصيل في رواية أحمد الشويخات يستحق الانتباه، لولا أن بعض هذه يشل الرويّ ويمسك بأطراف الرحلة في الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003. التقط الشويخات تاريخاً معيناً أقدمت فيه المقاومة العراقية في الفلوجة على تعليق جثث ثلاثة (مقاولين)، بمعنى أنهم ليسوا أفراداً في الجيش النظامي. جاء ذلك في أعقاب إطلاق النار على مظاهرة سلمية تطلب من جيش الاحتلال عدم الإطلال من سطوح البنايات على البلدة وأهاليها. وكان ما كان من أمر الفلوجة.

لم يهتم الشويخات بأكثر من إشارة إلى ما تلاحق من تطورات: (العراق 2006 م ... في مساحة قرية اسمها «الباب»، عُلقت ثلاث جثث عالياً على أعمدة خشبية - ص 11). الروائي ليس صحافياً، ولا يريد أن يكون مؤرخاً، وعليه أن يأخذ أمراً ويزيد عليه، أو يعيد تكوينه ليقوده إلى ما يريد: محنة المترجم ديفيد بوكاشيو الذي دفعته ميوله للقراءة والمعرفة، واطلاعه الواسع على حضارة العراق القديمة، إلى ركوب هذه الرحلة الشاقة. ولئلا يلتبس الأمر على القارئ، يريد الروائي التعريف بديفيد بوكاشيو، المترجم الأميركي، ليأتي التعريف بمثابة بعض من يوميات بوكاشيو، وهو يكتب اسمه وسلالته التي تمتد إلى مؤلف (الأيام العشرة) أو الديكاميرون، الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (ص 27).

ولم يأت الاختيار عبثاً؛ فبوكاشيو منح السلالة اسماً وانتماء إلى (الروي) والمرويّات، ولا بد من أن يظهر في السلالة من يليق بالإرث السردي: ويكون هذا ديفيد بوكاشيو. لكن هذا الإرث يأتي محملاً أيضاً بمشكلات المعرفة عندما يكون المأزق الذي يتعثر عنده طقس العبور. فضباط الفريق الذين ينشغلون في التحقيق مع الأهالي لمعرفة (فراس إبراهيم)، قائد المقاومة المفترض والمسؤول عما حدث، يستغربون برود ديفيد بوكاشيو، وتململه في أثناء التحقيق، فقراءاته تتيح له أن يتبين أن هؤلاء الأهالي لا علاقة لهم بفراس إبراهيم، والكهل المقيد اليدين يشبهه صورة، ولكنه محض فلاح.

كان رئيس التحقيق يستجوب المترجمين اللذين أجلسهما خارج غرفة التحقيق، ومن خلف حاجز شفاف يتيح سماع صوت التحقيق، لا لسبب غير التأكد من دقة ترجمة ديفيد بوكاشيو. هذه العقدة هي التي تستدعي الرويّ. فالمترجم المثقل بقراءاته واقتباساته من ملحمة جلجامش يتأمل كل ما يراه في العراق بعين أخرى تلتقي ما قرأت وعرفت، ولهذا ثمة دهشة وغرابة، وحب، تجعل المترجم يخرج من جبة الاحتراف.

ويكون مأزق ديفيد بوكاشيو مأزق المغامر والدارس والمتمعن في تآلف طبيعة البلد المحتل وأناسه مع تاريخ من الحضارة لم تزل سماتها ترتسم على ملامح الناس والخضرة والطبيعة والبساتين. وبقدر ما تكون هذه القراءة والمعرفة محركاً وفاعلاً في حيثيات السرد، فإن الإمعان فيها قد يعيق السرد ويتحول إلى استعراض لمعرفة المؤلف. هكذا نقرأ مثلاً: (الفن، كرؤية وسرد، هو الجذوة في صقيع الحياة، وهو الفعل الجميل ضد الخراب والخواء والوحدة، كما قال رجب سمعان ذات يوم - ص 69). ويكون ذلك باب المؤلف للاقتباس من الملحمة:

«اصعد إلى سور أوروك

نقّل خطاك عليه جيئة وذهاباً

وانظر من عليّ إلى بيوت المدينة

انظر إلى بساتين النخل

انظر إلى بئر الطين ومشغل الفخار

انظر إلى معبد عشتار - ص69»

هذه الاسترجاعات من الملحمة هي سبيل الروائي لمنح (مأزق) المترجم ديفيد بوكاشيو مصداقية ما تتيح للقارئ معرفة سبب شكوك المحقق هنري بيكر الذي يقدم الصورة الأخرى الكالحة للمحترف الذي لا يألف التكوين المعرفي للآخرين. وعلى الرغم من أن الاسترجاعات التي تشغل ذهن بوكاشيو وتسرح به بعيداً عند رؤية الأرض وأهلها التي حتمت ظهور الملحمة وحضارتها قد تؤدي بالسرد إلى مهاوي (الإفراط السردي)، لكنها ليست ثقيلة لمن يريد المزيد من الملحمة والإرث الحضاري القرين بها. كما أنها تقدم جانباً من (التعارض) و(التقابل) الذي ينهجه السرد: فهناك بابل وسومر وأشعار وأناس وأرض من جانب، وهجوم مسلح لقوى غريبة على البلاد جاهلة بعمقه الحضاري ومتسلحة بالجهل والإرهاب والشعور بالسيادة من جانب آخر. عند هذه النقطة من التقابل السردي يحضر ديفيد بوكاشيو موزعاً ما بين شراكة ملتبسة في العدوان وحب لبلاد أنتجت هذه الحضارة. ولهذا يكون مأزقه مختلفاً عن مأزق المترجمين المحليين التي غالباً ما تكون ذات علاقة برؤية السكان لهم متواطئين مع المحتل. ويشمل ذلك المترجم من أصول عراقية الذي يتوزع بين إرث عائلي وثقافي يتمثل بأجيال من الآباء والأجداد والمترجم المجند الذي جاء بصحبة الاحتلال. هل تتقاضين راتبك من كوفي عنان (أي الأمم المتحدة) أم من بوش؟ هذا هو السؤال الذي تثيره جدة المترجمة في رواية (الحفيدة الأميركية) لإنعام كجة جي.

رواية (الأميركي الذي قرأ جلجامش) تجعل من التبئير الذي اختطته بمثابة (التعارض) الذي يولد توتراً وشداً قد يؤدي إلى جعل ديفيد بوكاشيو متهماً بالتواطؤ. لهذا ترى التبئير يتخذ جملة من الخيوط السردية التي تنقاد إلى (العقدة)، أي مأزق المترجم الذي يزاول الترجمة الفورية مزاولة هاوٍ غرضه الأول مطابقة ما قرأ من قبل مع واقع بلاد تتعرض للانتهاك. ولهذا يكون الضابط المحقق مع المعتقلين (هنري بيكر) بمثابة (الغريم)، أو مضاد البطل (بمفهوم النقد التقليدي). إنه (الرذيل) الذي ينساق وراء حرفته عسكرياً بغرور وصلف وعنف. ولهذا تراه يبحث عن سبب للاعتقال، هو نفسه السبب الذي يتيح للروائي التعريف بماهية الاحتلال: (نقل ديفيد بوكاشيو إلى الضابط هنري إجابة الرجل أن زوجته قضت في أثناء زيارة لأهلها. قصفوا البيت وماتت هي وأهلها في القصف الذي قالوا إنه حدث بالخطأ - ص 74).

وحملات التفتيش والاعتقال التي ينهض بها المحترف الرذيل تتيح للروائي التعريف بما جرى ويجري. وشأنها شأن الاستطرادات والاقتباسات من الملحمة تروم تعميق الوعي بخلفية هذا التناقض الصارخ الذي يعتمده ما بين محقق ومترجم مجيد، ولكنه عارف بما يجهله الآخر. ويضطر الروائي إلى الشروح للتعريف بالمأزق: (في أثناء حملة التفتيش طيلة المساء، لم يكن المترجم ديفيد بوكاشيو على وئام مع الضابط هنري بيكر. لم يكن المترجم يتعمد معارضة الضابط، لكن مقترحات وآراء الضابط الشاب ذي العينين الزرقاوين بدت أحياناً غير محلها في أثناء مداهماتهم للبيوت - ص 75).

لم يكن هذا التعريف بمجريات الاحتلال من جانب والمقاومة من جانب آخر محض تفعيل للتعارض ما بين مترجم يرى عبثية حملات القصف والهدم والقتل ومجانية الفعل العسكري؛ ذلك لأن الرواية تريد تعميق محنة المقروء والمعروف عند المترجم والضرر الخطير الذي يتحقق الآن: «ديفيد بوكاشيو يراقب المشاهد غارقة في الأضواء الصفراء الترابية. وقد لاحظ، وهو يسير مع فرقته وراء هنري بيكر، أن القرية بلا ماء ولا كهرباء، وأن كثيراً من البيوت الطينية بدت جوانب منها أطلالاً تضررت من قصف سابق» (ص 76).

المترجم المأخوذ بما قرأ من قبل وما يُشاهد الآن، ليرى تطابقاً ما كالذي تخيله من قبل الرحالة الذين تعوزهم القراءات الأوسع في الإرث السومري - البابلي، هو نقطة التوتر في «الأميركي الذي قرأ جلجامش» وبين انشداده إلى (عذوق النخيل المكتنزة التي ألقت منذ فترة ثمارها على الأرض، رطباً يانعاً يلتمع على العشب - ص78)، هذا المترجم يستفز بمعرفته هذا الضابط هنري بيكر الذي يود أن يسوق البشارة لرؤسائه أنه حصل على معلومات عن فراس إبراهيم. وكان أن (رمق ديفيد بوكاشيو بنظرة فيها لوم وعتاب مع كثير من الحنق، وكأنه يحمّل ديفيد بوكاشيو مسؤولية إخفاق مجموعتهم ... ص 82).

مثل هذه التقاطعات هي التي تبرر عنوان السرد، لكنها تتيح توتراً نفسياً معيناً لدى المترجم مرده لوم نفسه على ركوب هذه المغامرة بينما يترك وراءه زوجه لورا وأمه الراقدة في مستشفى المسنين بعد تعرضها لجلطة دماغية - ص 80).

وبينما كان المترجم يستحث معاملة تسريحه من عمله، كان بيكر يرى في شروده دليلاً على تواطئه مع الأهالي (ص 84، 85).

وتأتي استدراكات الرواية وكذلك الاتصالات المحدودة بزوجه لورا ورفقته السابقة لرجب سمعان، من أهالي المنطقة الشرقية، بمثابة مكملات سردية تزيينية لا تقدم كثيراً لذلك التوتر الذي يكاد يطيح بالسرد بوصفه محض واقعة أخرى في صفوف القوات الغازية. ولهذا يأتي الكولونيل ستيفن راشفيلد ليعرب عن إعجابه بترجمة ديفيد بوكاشيو، مع إشارة خفية إلى عدم رضاه عن قائد المجموعة، و(الظل الملازم) لديفيد، أي هنري بيكر. وبينما يجمع بيكر أدلته من الصمت والمواربة، يكون ذلك الأمر مبعث ارتياح الكولونيل الذي يراه منصرفاً إلى عمله باقتدار - ص 85، 87).

تأتي استدراكات الرواية بمثابة مكملات سردية تزيينية لا تقدم كثيراً

وشأن السرديات الموفقة، كان المؤلف أحمد الشويخات يأتي بين الفينة والأخرى بما يتيح حقن التعارض والتقابل، ومن ثم التوتر والتبئير، بزرقات تظهر (مضاد البطل)، أو رذيل السرد هنري بيكر، بمظهر الجاهل السفيه الذي يجمع أدلته من خلفية الجهل التي ميّزت أعداداً كبيرةً من القادمين، فإذا كان المترجم يسقط قراءاته في الملحمة وغيرها على ما يرى، وينظر إلى السكان بتعاطف ما، فإن بيكر ينكر عليه ما يجهله، وهكذا يشكو إلى الكولونيل رفض بيكر ترجمة الرسوم والأشكال والإشارات في كتابين؛ أحدهما نسخة مذهبة من القرآن الكريم، والأخرى من كتب عروض الشعر العربي، و(دوائر... الصوائت والصوامت في مقاطع الكلمات التي تكوّن إيقاعات الشعر - ص 96).

ولتوسيع دائرة الاشتباك والتوتر، هناك الكولونيل ستيفن راشفيلد الذي يعترف بجودة تقارير بوكاشيو؛ بينما يقف رئيس التحقيق ريتشارد فلاير مع بيكر في رسم ما يتيح تجريماً ما للمترجم البارع. وشأن الروائي الحاذق لم يدع الشويخات هذا التكتل الرذيل من دون تصدع: (إذ إن ذهاب بيكر في شكواه إلى الكولونيل يحرج رئيس التحقيق فلاير ويدعوه إلى توبيخ بيكر - ص 97، 98).

مثل هذه التقاطعات تتيح للرويّ التمدد خارج بؤرة السرد؛ أي صراع المترجم مع رغباته وقراءاته من جانب، ومن الجانب الآخر انخراطه في احتلال يهدم الإرث الثقافي الذي يبصره في الطبيعة والناس. ولهذا يأتي تبريره لنفسه، وكذلك في رسالته لزوجه، أن هذا البعاد عنها وصبرها وعنايتها بأمه جعله يسأل نفسه عما إذا كان محقاً في الانخراط في الجيش: (كيف تصبرين عليّ؟)، كان يسألها في رسالته (ص 146). وهكذا يأتي الانفراج في طلب إنهاء عقده: كان (وجودي في العراق ضرورياً لأعود إليك - ص151). وثمة انفراجات أخرى، بعضها لتحميل صورة رئيس التحقيق فلاير وفك تكتله مع هنري بيكر. وكان التحقيق مع شاب سرياني اللغة اعتقل للاشتباه به شأن الموجودين في المنطقة: الشاب يرسم علامة الصليب، عند انتهاء التحقيق. وفلاير يسأل المترجم: أي لغة هذه؟ إنها السريانية لغة السيد المسيح (140). ورغم موزائيكية المجتمع العراقي لكن بعض المناطق لا يعرف عنها وجود السريان. ويبدو أن الشويخات يستعين بالضرورات (الشعرية) لاستكمال تصوير المحتل في علاقته بمجتمع تجرأ على اجتياحه بدوافع أخرى تتقصد تجاهل ثقله الثقافي والاجتماعي.

ويمكن أن يقال إنها رواية جريئة للخوض في الاحتلال وحماقاته؛ وإنها إضافة مسهبة لإشكالية (المترجم)، سواء أكان منتمياً مواطنةً أو سلالة للعراق، أو أنه انتمى إليه فكرياً وثقافياً... إنها رواية بحث أولاً.


مقالات ذات صلة

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

ثقافة وفنون سلطان العويس

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

حينما يرد اسم أيّ جائزة تكريمية في العلوم والآداب والفنون والاجتماع، دائماً ما يحضر اسم السويدي ألفريد نوبل وجائزته العالمية لـ«السلام»!

محمد رضا نصر الله
ثقافة وفنون أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

بعض الكتب كأنها زهور، تترك رائحتها في النفس آثاراً عميقةً لا تزول، أو مثل قوس قزح في سماء بيضاء. كتاب «التثقيف زمن التأفيف»

ثقافة وفنون قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

يتناول كتاب «قصيدة الرفض» الصادر في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة «كتابات نقدية» للناقدة والأكاديمية الدكتورة ناهد راحيل،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون تدمير المسجد العمري

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون وفود من المدارس المغربية تزور المعرض

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتم

عمر الراجي (الرباط)

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

سلطان العويس
سلطان العويس
TT

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

سلطان العويس
سلطان العويس

حينما يرد اسم أيّ جائزة تكريمية في العلوم والآداب والفنون والاجتماع، دائماً ما يحضر اسم السويدي ألفريد نوبل وجائزته العالمية لـ«السلام»! وقد أوصى قبل وفاته بإنشائها سنة 1890 «تكفيراً» عن صناعة المتفجرات التي ورثها عن أبيه وأسرته، ففي سن الرابعة والعشرين، شرع في العديد من المشروعات التجارية مع عائلته، أبرزها امتلاك شركة «بوفورس»، وهي شركة لإنتاج الحديد والصلب، التي طوّرها لتصبح شركة رئيسية لتصنيع المدافع والأسلحة الأخرى. وكان استخدام اختراعه الديناميت أحد أسباب الدمار البشري في حرب القرم، وغيرها من حروب لاحقة في أوروبا.

كان نوبل قد انتقل مع أسرته، قبل اندلاعها، من استوكهولم إلى سانت بطرسبرغ في روسيا القيصرية، منتصف القرن التاسع عشر، وقد تفوّق في دراسة العلوم، خصوصاً الكيمياء، وإتقان اللغات.

ويؤرّخ بعض كُتّاب سيرته أن وفاة شقيقه لودفيغ في باريس، كأنها تسببت خطأً في نشر العديد من الصحف نعياً لألفريد نفسه، فأدانته بعض الصحف الفرنسية لاختراعه الديناميت، فوصفته بـ«تاجر الموت»، مما كان له الأثر في وصمه بتاجر حروب. فهل كان ذلك مدعاة إلى قراره العمل على أن يتحلّى بسمعة حسنة بعد وفاته؟ وهو ما دفعه إلى التبرع بأغلب ثروته بعد وفاته لتأسيس جائزة تحمل اسمه.

بينما سلطان العويس، المولود بعد نوبل بقرابة ربع قرن سنة 1924، وافق أن تحمل جائزته الثقافية اسمه كاملاً، بعد ضغط من أصدقائه ومحبيه. وهو في سيرته، على النقيض من نوبل، حيث وُلد في أسرة تمثّلت فيها قيم الإحسان والتكافل الاجتماعي والتربية والمعرفة والشعر، ممتهنة العمل في البحر بالغوص على اللؤلؤ في أعماق الخليج العربي، حيث بدأ العمل مع والده «الطواش» وهو بين نهاية الصبا ومطالع الشباب، ماخراً البحر إلى «هيرات»، أي مغاصات اللؤلؤ يستلمها بدل أبيه.

وفي العشرين من عمره، ركب البحر بأهواله المرعبة وتقلباته العاصفة إلى الهند، التي كان مهراجاتها يتطلّعون إلى الحصول على لآلئ الخليج العربي ومنتوجات نخيله ومزارعه. وفي الهند تجلّت صدمة سلطان الحضارية، حين كانت محتلة من قبل بريطانيا، منبهراً بمآثرها الحضارية، وتخطيطها العمراني بشوارعها المضاءة ومدارسها الحديثة، متفاعلاً مع حياتها المدنية وحراكها الوطني ولغاتها المختلفة.

في حيدر آباد، انضم سلطان إلى مجتمعها التجاري العربي، ممن كان أفراده يمكثون فيها وقتاً طويلاً لإدارة شؤونهم المعيشية وأعمالهم الاقتصادية. ومحافظةً على هويتهم القومية، أنشأوا فيها مطبعة عربية، صدرت منها كتب وصحف، تأثّر بها الكاتب والسياسي المصري حافظ وهبة، والشاعر السعودي الكويتي خالد الفرج، قبل سلطان العويس، وغيرهم ممن ارتاد الهند وقتذاك.

هذه الصدمة الحضارية كانت إيجابيةً لدى صاحب هذه الجائزة، الذي يصرّ في أحاديثه لمن قابله وكتب سيرته، أن جائزته وُلدت في حيدر آباد، حينما قرر أن ينشئ في مسقط رأسه قرية الحيرة، الواقعة بين الشارقة وعجمان، مدرسة يتلقى فيها أبناؤها وسائل التربية والتعليم. فبدأها بـ20 طالباً، تمكّن من إقناع أهاليهم بالانضمام إلى فصولها الابتدائية، عبر تعهّده بمساعدتهم مالياً ومعيشياً، وهو ينتزع أبناءهم من العمل في البحر وتربية الماشية في البر، إلى أتون مبادرته الجريئة... وهكذا سارت تجربة سلطان العويس في نقل أبناء قريته إلى آفاق التعليم الحديث، بإنشاء مدرسة أخرى في الشارقة بمئات الطلبة، موفّراً لهم اللوازم المدرسية، ومستقدماً إليها المعلمين من المملكة العربية السعودية والبحرين والكويت، والعراق فيما بعد، رغم امتناع نوري السعيد، رئيس وزرائه الخانع لعلاقة بلده مع بريطانيا المستعمرة.

لم يقف طموح العويس عند هذا الحد، بل إنه، مع توسع ثروته في تجارة اللؤلؤ وغيرها من أعمال، راح يبتعث بعض طلاب وطنه إلى جامعات القاهرة وبيروت، مع بناء الجسور، وإقامة معاهد مهنية، ومساعدات لجامعات داخل الإمارات وخارجها في دول خليجية وعربية، يحدوه في ذلك إيمان ديني مستنير، ونَفَس قومي صادق.

هذا الاهتمام الواعي بقيمة العلم وأثر المعرفة في تطور المجتمعات العربية لم يأتِ عفو الخاطر، وإنما جاء بسبب انتمائه إلى أسرة تعاطى بعض أبنائها الأدب والشعر، حيث كان الكتاب والمجلة والصحيفة تأتيهم - وقتذاك - من القاهرة وبيروت من وراء البحار، مستغرقاً وصولها إليهم شهوراً عدداً.

كما أن هذا العامل الثقافي هو الذي حفّز في سلطان العويس السفر مبكراً إلى بعض دول الشرق العربي... وربما بسبب قراءاته لأدبائهم وتأثره بشعرائهم، أصبح يكتب الشعر بلغة بسيطة، متحرّرة من أثقال الألفاظ البلاغية والصور النمطية في الشعر العمودي، متمحورة قصائده حول الغزل والوصف والحكمة والتغني بالوطن، واعياً كل الوعي بدور رجال المال والأعمال في خدمة المجتمع، والمساهمة في نشر الثقافة، مبادراً إلى بناء برج من أربعة أدوار يضم مكتبة ومسرحاً وصالات معارض للفنون بخدماته الإدارية، داعماً هذا الصرح الثقافي ببرج تجاري من تسعة طوابق، مخصص لاستثمار عوائده المالية في تمويل المشروعات الثقافية والخيرية.

وكأنه، بمبادرته الرائدة في تعليم أبناء قريته، ودعم المشروعات الثقافية والجامعية والتنموية داخل وطنه وخارجه، قد لمس التبخيس المُخِلّ لقيمة الثقافة والمعرفة والإبداع، وعدم تمكينها في العالم العربي، بوصفها العامل المؤثر في نهضة المجتمعات ووعي الشعوب. تقابلها صورة نقيضة في مجتمعات أميركا وأوروبا، كشف عنها تقرير نشرته شركة «ويلث إكس» سنة 2018، عن تتبّع رؤوس الأموال في العالم، في تبرعات الخيّرين من الأثرياء الذين تبلغ ثروة الواحد منهم 30 مليون دولار، إذ منحوا - وقتها - نحو 153 مليار دولار للأعمال الخيرية في العالم. ويؤكد التقرير أن ما قدّمه هؤلاء الأثرياء يعادل إجمالي إنفاق الحكومة الفيدرالية الأميركية على الرعاية الصحية والتعليم والطاقة، بينما لم يتجاوز ما قدّمه أثرياء منطقة الشرق الأوسط، بما فيهم أثرياء العالم العربي، 5 في المائة من إجمالي تبرعات الأثرياء في العالم! مكدّسين ثرواتهم دون جني أي طائل معنوي، أو ربح رمزي، أو احترام اجتماعي يخلّد ذكراهم.

من هنا، تكمن أهمية ما قدّمه عبد العزيز البابطين من دعم للتعليم والثقافة والإبداع الشعري، وكذلك بعض من أثرياء العرب الخيّرين، أمثال رجل الأعمال السعودي عبد المقصود خوجة، والكويتية الدكتورة سعاد الصباح، والفلسطيني عبد المحسن القطان، والفلسطيني الآخر عبد الحميد شومان، عبر مجالسهم، ومطبوعاتهم الثقافية، وجوائزهم العلمية والأدبية.

هؤلاء هم من أصبح يشملهم مصطلح «رأس المال الثقافي»، وقد صكّه بيير بورديو، عالم الاجتماع والمنظّر الثقافي الفرنسي، على أنه «رأسمال رمزي» يحصل عليه الأفراد والنخب الثقافية أو المؤسسات. وهذا الرأسمال الرمزي أو الثقافي هو مجموع القدرات والمواهب المتميّزة للحائزين عليه من الأثرياء، بتفوقهم وحضورهم، إضافة إلى ما يحصلون عليه من مكاسب مادية. وبذلك، يحظون بالمكانة الاجتماعية داخل الحقل الثقافي، وبهذا يحصلون على رأسمال اجتماعي، يتمثل في مدى تأثير الثري المحسن في المجال العام، وهو بهذا يحصل في نهاية المطاف على رأسمال رمزي، من شهادات وأوسمة وألقاب، نظير ما اقتطعه من رأسماله المادي في دعم المشروعات التنموية المختلفة. يقول بيير بورديو في آخر فصل من كتيّبه «الرمز والسلطة» المعنون بـ«الرأسمال الرمزي والطبقات الاجتماعية»: «أن تكون نبيلاً معناه أن تُبذِر، محكومٌ عليك بالرفاه والبذخ، وقد احتدّ الميل إلى التبذير رداً على الارتقاء الاجتماعي للأثرياء الجدد... في قرون مضت، فما الذي يميّز الفارس الأصيل عن حديث النعمة؟ ذلك أن الثاني بخيل، أما الأول فهو نبيل؛ لأنه يصرف كل ما لديه بكامل الانشراح، وإن كان مثقلاً بالديون».

هل لهذا، تبدّى سلطان العويس فارساً شهماً نبيلاً أمام من أحبّها، وهو يقول:

إِلَيْكِ مَالِي فَمَا مَالِي سِوَى وَرَقٍ

لَنْ يُؤَثِّرَ الْمَالُ قَلْباً قَدْ سَكَنْتِيهِ

لِي مِنْ عُيُونِكِ أَمْوَالٌ أُكَدِّسُهَا

وَمِنْ حَدِيثِكِ دُرٌّ لَسْتُ أُحْصِيهِ

بهذه الروحية، انطلقت جائزة سلطان العويس الثقافية عبر اتحاد الكتّاب والأدباء في دولة الإمارات العربية المتحدة سنة 1987 بأمانتها العامة، مستقلةً بمؤسستها الثقافية، كما أوصى نوبل قبل ذلك بقرن من الزمان، بأن يكون النادي السويدي النرويجي منطلقاً لجائزته، مكرّساً الجزء الأكبر من ثروته لقيام جائزة نوبل التي أصبحت عالمياً ملء السمع والبصر... غير أن ما تفوّقت عليه جائزة هذا العربي الخليجي، هذا البدوي البحّار، هو معيارها الأكاديمي الموضوعي في اختيار الفائزين دون «أدلجة» أو انحياز... وهو ما اعتادت عليه جائزة نوبل، التي لم يفز بها أحد من العرب - مثلاً - سوى الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ، الذي كان يستحقها، بغير وصول ضوء موافقة ممن اهتم بأدبه (سان سوميخ اليهودي العراقي)، إثر دعوة محفوظ المبكرة إلى التطبيع الثقافي مع إسرائيل.

هذه الأدلجة السياسية وخلفيتها (الديناميتية) هي التي جعلت بعض من فاز بجائزة نوبل يرفضون استلامها، ومن أبرزهم جورج برنارد شو، الأديب والروائي الآيرلندي، وذلك سنة 1925، محطّاً من قدرها وساخراً من سيرة نوبل، وكذلك الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر.

وكان فوز السياسي الفيتنامي لي دوك تو، أوائل السبعينات، مناصفة مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي، محل استياء داخل لجنة اختيار الفائزين بها، ضد منحها عرّاب التفاوض لإخراج واشنطن من مأزق حربها المذلّة في فيتنام، حيث كرت السبحة فيما بعد، لتكريم الإسرائيلي مناحيم بيغن، سفّاح دير ياسين، وغيره من السياسيين الغربيين الذين خدموا المشروعات الاستعمارية.

لذلك، تأتي جائزة سلطان العويس، منذ بدأت سنة 1990 حتى يومنا هذا، وكأنها ردٌّ عربي ساطع و«قوة ناعمة» على مخرجات جائزة نوبل المنحازة، وقد منحت لأبرز المفكرين والأدباء والشعراء العرب، ممن تبنّى قضايا الأمة والإنسانية والحق والعدل والسلام، متمنياً لو أن جائزة العويس فتحت الباب لبعض الكتّاب العالميين ممن نصَر العرب والمسلمين وساند قضاياهم.