«ثقب المفتاح لا يرى»... الحب في قصائد نسائية أميركية

مختارات لـ20 شاعرة من مختلف الأجيال والأصول

«ثقب المفتاح لا يرى»... الحب في قصائد نسائية أميركية
TT

«ثقب المفتاح لا يرى»... الحب في قصائد نسائية أميركية

«ثقب المفتاح لا يرى»... الحب في قصائد نسائية أميركية

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدر كتاب «ثقب المفتاح لا يُرى» الذي تقدم فيه المترجمة والأكاديمية المصرية د. سارة حامد حواس مختارات شعرية لـ20 شاعرة أميركية من مختلف الأجيال والمدارس الشعرية.

قام بتحرير وتقديم الكتاب الشاعر أحمد الشهاوي، مشيراً في مقدمته إلى أن لغة المترجمة سارة حواس جاءت جميلة بعيدة عن التقعر والمعاظلة، حيث تعتمد على الإبداع والحس اللغوي العميق. وأشار الشهاوي إلى أنه «إذا كانت ترجمة الشعر أمراً معقداً وصعباً ومحفوفاً بالمخاطر وتتطلب من صاحبها مهارة خاصة وذكاء وحسن تصرف، فقد استطاعت المترجمة أن تقدم نصوصاً سلسةً خاليةً من التعقيد ومنحتها الكثير من دمها وبصمتها، إضافة إلى تقديم سيرة شعرية وحياتية لكل شاعرة بحيث منحت المتلقي فرصة لأن يتأمل مسيرة الشاعرة ومصيرها مع نفسها والقصيدة».

من جهتها، أشارت حواس إلى أنها تناولت شاعرات من أصول مختلفة، فمنهن من تعود إلى أصل أفريقي أو ألماني أو روسي، ومنهن من اتبعت الشعر الحر أو النثري أو السردي، ومنهن من اتبعت الشعر التقليدي أو الكلاسيكي القديم، ومنهن من اتسمت بالحداثة في الشكل والمضمون.

سارة تيسديل

وأوضحت أن هناك شاعرات تبنين الشعر الاعترافي مثل آن سيكستون وسيلفيا بلاث وسارة تيسديل وشارون أولدز، مشيرة إلى أنه من الملاحظ أن كثيرات من الشاعرات اللاتي كتبن الشعر الاعترافي كانت نهايتهن الانتحار، حيث لم تنجح الكتابة في إنقاذ حيواتهن من الخراب والموت، رغم أنه دائماً ما يقال إن الكتابة شفاءٌ من الألم فعندما تكتب ألمك تشفى، ولكن من الواضح أن الكتابة لم يكن لها ذلك التأثير على حيواتهن. ورغم نجاحهن في كتابة أحزانهن وآلامهن، فإنها لم تشف جراحهن وأوجاعهن الغائرة، فثمة جروح لم تعالج ولم تنته من داخلهن وظلت تنخر أرواحهن حتى انتحرن بكامل إرادتهن مستسلمات للموت كراحة أبدية لهن من الحياة. أما الشاعرات اللاتي من أصول أفريقية، فكانت معاناتهن تكمن في التفرقة العنصرية والمضايقات التي يتعرضن لها بسبب أصولهن وجاءت قصائدهن تنبض بإحساسهن بعدم الانتماء إلى وطن وشعورهن الدائم بالغربة وفقد الهوية.

في هذا السياق، قد نجد بعض اختلافات بين «تيمات» قصائد الشاعرات الأميركيات البيض ونظيراتهن اللاتي من أصل أفريقي، حيث تتناول أشعارهن قضايا التفرقة العنصرية والقمع السياسي الذي تعرضن له في مسيرة حياتهن، وكذلك الظروف السياسية والاجتماعية والاضطهاد من المجتمع.

ليسيل مولر

وجاءت قصائد الشاعرة الأميركية - الألمانية ليسيل مولر أشبه بلوحات خيالية في شكل سؤال وجواب حول الحب والموت والمستقبل والسعادة والإيمان بالقدر والحنين والكذب، كما أن أعمالها تتضمن خيالاً جامحاً وإتقاناً للغة وتلاعباً بالألفاظ، فضلاً عن شغفها بالأساطير.

وعلى النقيض، جاءت قصائد الشاعرة الأميركية الروسية مايا زاتو رينسكا تقليدية متأثرة بالثقافة الإنجليزية والشكل الكلاسيكي للشعر الإنجليزي، حتى في كتاباتها الرومانسية، فكانت تميل إلى الكتابة عن الموضوعات المستهلكة مثل الشمس والقمر والبحر والطبيعة بصفة عامة متأثرة بالشعر الإنجليزي القديم.

وعُرفت الشاعرة الأميركية إيمي لويل بشكل من أشكال الشعر يسمى «الشعر التصويري»، وقد ظهرت هذه الحركة في الشعر الأنجلو - أميركي في أوائل القرن العشرين، واعتمدت على دقة الصور واللغة الواضحة الحادة، وتعدُّ أول حركة أدبية حداثية في مطلع القرن. تقول الشاعرة في قصيدة تحمل عنوان «أوبال»:

«أنت ثلج ونار

لمسة منك تحرق يدي كالجليد

أنت برد ولهب

أنت زهرة نرجس قرمزية

زهرة ماجنوليا لامسها قمر فضي

عندما أكون معك

قلبي بركة متجمدة

تشتعل بمصابيح هائجة»

وتلاحظ المترجمة أنه فيما يتعلق بالشاعرات آن سيكستون وسيلفيا بلاث وسارة تيسيديل، كان الفشل في الحب سبباً رئيسياً في انتحارهن والتخلص من حياتهن البائسة رغم تحقيقهن نجاحات كبيرة في الحياة الأدبية حتى أصبحن من أكبر الشاعرات الأميركيات ونلن أرفع الجوائز. وعُرفت سارة تيسديل بأنها شاعرة غنائية تحدثت في قصائدها الشعرية عن الجمال والحب والموت، ونجحت في دمج تجاربها الشخصية مع شعرها حتى أصبح شعراً اعترافياً، وبهذا سبقت كلاً من آن سيكستون وسيلفيا بلاث في ذلك النوع من الشعر.

تحت عنوان «لست ملكك» تقول سارة:

«لست ملكك

لست ضائعة فيك

لست ضائعة برغم أنني أتوق

إلى الضياع كشمعة مضاءة في الليل

أو كقطعة ثلج في البحر».

كثيرات من الشاعرات اللاتي كتبن الشعر الاعترافي كانت نهايتهن الانتحار حيث لم تنجح الكتابة في إنقاذ حيواتهن من الخراب والموت

أما ماريا زاتو رينسكا، فقد ولدت في كييف بروسيا عام 1902، وفي عام 1910 هاجرت عائلتها إلى الولايات المتحدة ضمن موجة الهجرة من أوروبا السائدة حينها.

ورغم عمل الشاعرة ماريا في سن صغيرة بمصنع خياطة لتحسين ظروف المعيشة، كانت لديها إرادة كبيرة للتعلم. تقول في قصيدة بعنوان «للفصول»:

«للفصول

متقدة بين الدفء والبرودة

في طقس ربيعي حنون

تركت يدي المتوترة تحتضن ما استطاعت جمعه من الحب

تهز الرغبة فرعاً

من كل شجرة مرتجفة

فالحب كالانهيار الجليدي

يدمرني».

جونيدلوين بروكس

وتعد جويندولين بروكس أول شاعرة أميركية من أصل أفريقي تنال جائزة «بوليتزر»، وتدور «تيمات» بروكس الشعرية حول الهوية السوداء والإنسانية والتمييز العنصري وحركة الحقوق المدنية في الخمسينات والتمرد الأسود في الستينات، حيث عبرت بنجاح عن حياة الفقراء والصعوبات التي كانت تواجههم في حياتهم، كما تناولت موضوعات حول أحقية السود في القيادة الاجتماعية. تقول بروكس في قصيدة تحمل عنوان «أن تقع في الحب»:

«أن تقع في الحب

يعني أن تُلمس بيدٍ أخف

يعني أن تشعرَ بالبراح داخلك

وأنك بخير

أن ترى الأشياء بعينيه».


مقالات ذات صلة

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

ثقافة وفنون ابن رشد

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟

هاشم صالح
ثقافة وفنون «سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.