«الجيل القَلِق»... كيف شوهته الأجهزة الإلكترونية؟

الحالات المستعصية في أميركا ارتفعت 134 % منذ 2010

أطلق انتشار الشاشات جائحة من الأمراض النفسية والعقلية بين المراهقين (أدوبي ستوك)
أطلق انتشار الشاشات جائحة من الأمراض النفسية والعقلية بين المراهقين (أدوبي ستوك)
TT

«الجيل القَلِق»... كيف شوهته الأجهزة الإلكترونية؟

أطلق انتشار الشاشات جائحة من الأمراض النفسية والعقلية بين المراهقين (أدوبي ستوك)
أطلق انتشار الشاشات جائحة من الأمراض النفسية والعقلية بين المراهقين (أدوبي ستوك)

سيجد كثير من الآباء والأمهات في كتاب جوناثان هايدت، أستاذ مقعد توماس كولي للقيادة الأخلاقية في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، والمعنون «الجيل القلق: كيف أطلق التحول في تشكيل خبرات الطفولة وباء من الأمراض العقلية» - دار «أين لين»، 2024 - ما يؤكد أشدّ مخاوفهم بشأن التأثير السلبي للأجهزة الإلكترونية الحديثة، لا سيما الهواتف الذكيّة والكومبيوترات اللوحية، على الصحة النفسية والحياة الاجتماعيّة لأبنائهم وبناتهم.

يقدّم عالم النفس الاجتماعي الأميركي ومؤلف العديد من الكتب حول الصحة العقلية في الغرب، سلّة من الإحصائيات والدلائل الموثقة التي تتقاطع للإشارة إلى تحقق تحوّل نوعي وبائي الأبعاد في زيادة معدلات القلق، والاكتئاب، والكسل، وفقدان الاهتمام، وإيذاء النفس، وحالات الانتحار لدى المراهقين في العديد من بلدان العالم، مع تراجع ملموس في المهارات الاجتماعيّة والقدرة على التواصل المباشر مع الآخرين، وذلك مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي (مطلع عام 2010).

شاشات أكثر... لعب أقل

ويقول هايدت إن تلك اللحظة المفصليّة ارتبطت بانتشار الهواتف الذكيّة، وتوسع تعاطي الأجيال الجديدة مع مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، توازياً مع تراجع كميّة اللّعب الحر التي يتمتع بها المراهقون بسبب اتجاه الأهالي إلى تجنيب أبنائهم وبناتهم التجول بحرية خوفاً من انتشار الجريمة والمخدرات، وأن العلاقات العائليّة - أقلّه من النماذج التي اطلع عليها في الغرب - اتسمت بتوترات وخلافات تمحورت أساساً حول التكنولوجيا.

يرصد الكتاب بالإحصاءات ارتباطاً بين بدء انتشار الهواتف الذكية وتفاقم الظاهرة لدى المراهقين (أدوبي ستوك)

بحسب هايدت، فإن رواد صناعة التكنولوجيا الرقميّة الذين تجرعوا من ذات أقداحٍ ثقة زائدة احتستها النّخبة الأميركيّة في أجواء انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي (1991)، انطلقوا، كأبطال أو آلهة، بلا روادع إلا إرادتهم الذاتية، في التربح من التأسيس لما صار يُعرف بفضاء (الإنترنت) السيبيري، أي ذلك العالم الافتراضي الجديد، المتخم بالوعود والإمكانات في توازٍ مع التجربة البشرية المادية التي لم تتغير كثيراً منذ انتشار التلفزيون في الخمسينات من القرن العشرين.

منتجات هذه المرحلة لم تغيّر من إحساس الراشدين بالعالم فحسب، وإنما أيضاً مسّت الأطفال والمراهقين الذين يعيشون بحكم تطورهم البيولوجي مراحل من الهشاشة والسيولة العقليّة تجعلهم عجينة طيعة في يد نوع من الرأسماليّة المنفلتة من كل عقال: شركات مواقع التواصل الاجتماعي التي يحمّلها هايدت مسؤولية إفساد نفسيات المراهقات الإناث بشكل أساسيّ، مقابل منتجي ألعاب الفيديو الذين تولوا، يداً بيد مع المواقع الإباحيّة، تدمير الصحة العقليّة للمراهقين الذكور من خلال خوارزميات جبارة قادرة على توريط الصغار في لجج من الإدمان على المحتوى المتجدد لحظياً بلا نهاية.

يقول هايدت الذي بدأ بتتبع الإحصائيات حول الصحة العقلية للمراهقين الأميركيين أثناء إعداد كتابه السابق حول «الدّلال الذي يتلقاه العقل الأميركي» بأن ثمة إشارات محدودة على حدوث تغير في مستويات المعاناة النفسية لدى صغار السن مع بداية القرن الحادي والعشرين.

لكن العقد التالي، أي في السنوات 2000 - 2010، شهد صعوداً متسارعاً لاستعمال الأجهزة الإلكترونية الشخصيّة مع توسع قاعدة مستعملي الإنترنت، وظهور النماذج الأولى من تطبيقات التواصل الاجتماعي («فيسبوك» 2004 و«تويتر» 2006)، ووصلت ذروتها في عام 2010 مع انطلاق الهواتف الذكية المزودة بالكاميرات التي تسمح بالتقاط الصور الذاتية، وتالياً ابتلاع العملاق «فيسبوك» لتطبيق «إنستغرام»، الذي أصبح الأكثر شعبية حينئذ بين المراهقين.

إدارة الصورة الشخصية

في هذه المرحلة غدا نجاح المراهقين في محيطهم الاجتماعي مرتبطاً أكثر ما يكون بقدرتهم على تقديم ذواتهم للآخرين من خلال منصات التواصل الافتراضي، والحصول على الرضا الذاتي عبر التقبّل والتعزيز الفورّي من هؤلاء الآخرين الغرباء من خلال «الإعجابات»، حتى لم يعد مستغرباً أن يفضّل عديدون منهم الفناء الجسدي (الانتحار) على الفضيحة في الفضاء الافتراضيّ.

عزز هذه الموجة الوبائيّة تقليص فرص اللّعب الحر في العالم الواقعي أمام الأطفال (أدوبي ستوك)

يرى هايدت أن ذلك تسبب بإنفاق المراهقين سحابة نهاراتهم وخلاصة وعيهم في إدارة معالم صورهم الشخصية على المواقع الافتراضيّة، حتى إن ما يقرب من نصف المراهقين في الولايات المتحدة يظلّون على اتصال شبه دائم بالإنترنت طوال 24 ساعة في اليوم، مع إشارات حاسمة إلى أن قضاء أكثر من 5 ساعات يومياً على وسائل التواصل يؤدي إلى حالة الاكتئاب السريري الحاد في 40 في المائة من الحالات على الأقل، لا سيّما بين الفتيات المراهقات.

لقد أغرق ذلك كله الجيل الجديد من مواليد ما بعد 1996 (أو ما يسميه الخبراء بالجيل «Z») في لجة ساحقة من متاعب الصحة العقليّة، فارتفعت بينهم حالات القلق المستعصية (نموذج الولايات المتحدة حيث تتوفر الإحصاءات)، بنسبة 134 في المائة منذ عام 2010، وحالات الاكتئاب الإكلينيكي بـ106 في المائة، وفقدان الشهية العصابي بـ100 في المائة، وحالات نقص الانتباه وفرط الحركة بـ72 في المائة، والشيزوفرانيا بـ67 في المائة، واضطراب ثنائي القطبية بـ57 في المائة، وإدمان المواد المخدرة بـ33 في المائة.

ويعتقد هايدت أن هذه الموجة وبائيّة الطابع وجدت لها أرضاً خصبة في توجه الآباء والأمهات المعاصرين (في الغرب) إلى الإفراط في الإشراف على كل جانب من جوانب حياة أطفالهم خارج الفضاء السيبيري، وتقليص فرص اللّعب الحر في العالم الواقعي أمامهم؛ ما يحرمهم من الخبرات والمهارات التي يحتاجون إليها لتطوير قدر أكبر من المرونة والخبرات اللازمة لمستقبلهم، ويدفعهم بالنتيجة إلى قضاء مزيد من الوقت أمام الشاشات (على تعدد أشكالها)، بدلاً من اغتنام الفرص للتفاعل مع أقرانهم وجهاً لوجه، وفي الوقت الفعلي.

حلول لأزمة «الجيل القلق»

هايدت، الذي يمتلك الشجاعة لإدانة خذلان الآباء والأمهات للجيل الجديد وتركه فريسة لشركات التكنولوجيا المتوحشة دون حماية تذكر، ينتهي، في «الجيل القلق» إلى تقديم قائمة من الحلول التي يراها ممكنة للتعامل مع الأزمة، لكنّه، وتماماً كما يليق بكاتب أميركي من نخبة واشنطن، لا يقترب من اقتراح تغييرات بنيوية تمس أسس المنظومة التي مكنّت للأزمة، ويكتفي بالدعوة إلى إجراءات إصلاحية، مثل السماح بمزيد من وقت التسكع واللعب الحر غير الخاضع للإشراف المباشر، كي يتسنى للمراهقين اكتساب المهارات الاجتماعية الأساسيّة وبناء ثقتهم الذاتية بأنفسهم للمضي نحو الاستقلال، ومنع حصول الأطفال دون 14 على الهواتف الذكيّة، والمراهقين دون 16 عاماً من التجوال في مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت.

وهو يرى ضرورة بناء تحالف مجتمع مدني فاعل بين كل من الآباء/ الأمهات ومدارس أنجالهم بحيث يضغط كل من الطرفين على الآخر لتبني سياسات تقلل من تعرض الأطفال والمراهقين لجبروت الشاشات شركات التكنولوجيا، بما في ذلك منع استخدام التليفونات الذكية والكومبيوترات اللوحية الشخصيّة داخل حرم المدارس، وتوفير أماكن لتخزين ما قد يحملونها منها، وذلك لحماية وتعزيز فرص التفاعل الشخصي بين التلاميذ، والتّعلم من التجارب في إطار بيئة آمنة ليصبحوا راشدين أصحاء.

الاستنتاجات في «الجيل القلق» يمكن نقدها دائماً من زاوية تعقيد أمراض الصحة العقلية، وتعدد العوامل التي قد تكون وراءها، ما قد يقلل من حجم مساهمة الهواتف الذكية تحديداً في إثارة المصاعب النفسيّة لدى الجيل الجديد. لكن المؤكد أن تلك الهواتف (والشاشات عموماً) على أهميتها الفائقة للحضارة المعاصرة، لعبت دوراً محورياً في تشويه النمو السيكولوجي لجيل كامل من المراهقين في القرن الحادي والعشرين، وأن صرخة هايدت، الخجولة (لكن المدججة بالإحصائيات والأرقام) لترشيد استعمالها، يجب ألا يتلاشى صداها سريعاً، وإلا كنا شهوداً على تَرْكنا الكوكب في عهدة جيل قلق، ومتأزم.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.