«بيت من زخرف»... رواية تستعيد سيرة ابن رشد

«بيت من زخرف»... رواية تستعيد سيرة ابن رشد
TT

«بيت من زخرف»... رواية تستعيد سيرة ابن رشد

«بيت من زخرف»... رواية تستعيد سيرة ابن رشد

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت رواية «بيت من زخرف» للكاتب إبراهيم فرغلي، والتي تتناول سيرة الفيلسوف الأندلسي محمد بن أحمد أبي الوليد (1126 - 1198 م)، المعروف اختصاراً باسم ابن رشد، والذي أثبت أنه لا تناقض بين جوهر الدين الصحيح والفلسفة، كما شاع تراثه الفكري على نطاق واسع في الغرب، وأطلق عليه الأوروبيون اسم أفيروس.

تتناول الرواية قصة أكاديمي مصري مغترب يعيش في إسبانيا، هو أستاذ الفلسفة سعد الدين إسكندر الذي يترك بلاده بسبب سطوة المتطرفين وسعيهم للتفرقة بينه وبين زوجته مستغلين ما يسمى «دعاوى الحسبة». وفي قرطبة يلتقي إحدى تلميذاته؛ وهى طالبة دكتوراه تدرس فلسفة الفن، وتبدي اهتماماً خاصاً بالفيلسوف والفقيه الأندلسي ابن رشد، حتى إنها تخبر سعد الدين بوجود «خبيئة» تتمثل في مخطوطة نادرة تحكي عن محنة الفيلسوف الأندلسي حين تعرّض للنفي والاستهداف بسبب أفكاره، وكيف أن تلك المخطوطة مدفونة داخل مقبرة، واستخراجها يعد بمثابة مغامرة جريئة تتطلب كثيراً من الشجاعة.

ووفق تلك الحبكة التقليدية في السردين الأدبي والسينمائي، يغوص الراوي داخل المخطوطة، ثم يعود إلى الواقع لنصبح إزاء «نص داخل النص». ولم تكن تلك المشكلة الفنية الوحيدة التي يعانيها العمل، فقد تاهت القصة الأساسية في الرواية؛ وهى قصة «لبنى القرطبية» التي هامت حبّاً بابن رشد ورافقته في منفاه، وسط عدد من القصص والسرديات والأصوات الأخرى قديماً وحديثاً، والتي كان من الممكن أن يجري الاستغناء عن كثير منها دون أن يفقد جوهر النص شيئاً مهماً. ومن أمثلة الفصول التي جاءت زائدة، أو على الأقل كان يمكن تكثيفها بشكل مختصر في بعض أجزائها وجعلت الرواية تقع دون مبرر درامي في 428 صفحة من القطع المتوسط، «طبول الحرب»، و«المشاء»، و«مانويلا».

في المقابل، جاءت لغة العمل سلسلة تتنوع وفقاً لفضاء الحقبة الزمنية، حيث اتسمت بالبساطة والطابع العصري في الزمن الحالي، بينما مالت إلى الجزالة والبلاغة في الزمن الماضي، بينما جاءت بدايات ونهايات الفصول مشوّقة.

وإبراهيم فرغلي من مواليد 1967، صدر له عدد من الأعمال الروائية؛ مثل «أبناء الجبلاوي»، و«معبد أنامل الحرير»، و«قارئة القطار»، فضلاً عن عدد من المجموعات القصصية وكتب الأطفال والناشئة.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«بدا جسدها مترهلاً وهي تتحرك بتؤدة وبتثاقل، لم يكن الوهن علّة ذلك فقط، بل التردد والحذر. تهادت قدماها المتعبتان على القنطرة التي تصل بين ضفتي المدينة عبر نهر الوادي الكبير قادمة من ضفة الحي القديم الذي أولته ظهرها باتجاه الربض الأكثر هدوءاً في المدينة النائمة على حافتي النهر. توجهت إلى الساحة التي أعلن أنها غدت موقعاً لتنفيذ أمر الخليفة المنصور بحرق كتب الحكمة والفلاسفة ومَن لعنهم الخليفة؛ وبينهم أبو الوليد قاضي قضاة قرطبة. ترددت طويلاً في الذهاب إلى الساحة القريبة من الجامع الكبير؛ حيث توقعت مكان التجمهر، أو في الساحة الخلفية التي شاع أنها شهدت وقائع مثيلة من قبل، لكنها لم تر شيئاً هناك وتعجبت وحدّثتها نفسها بالأماني: أيكون الخليفة قد تراجع عن قراراته بإحراق الكتب؟

لكنها أدركت مما التقطته من صرخات صبية كانوا يعدون بجوارها أن موقع إحراق الكتب سيكون في الجهة الأخرى من المدينة. كان ترددها نابعاً من رفضها لتصديق الأحداث؛ من شدة استنكارها لها، رغم علمها بكل ما جرى في عموم قرطبة، على مدى الأسابيع الفائتة، فلم تبتعد هي أو أي من طلاب الإمام عنه خلال المحنة منذ بدأت. أجمعوا على ضرورة المكوث بصحبته في بيته؛ من أجل شدّ أزره أولاً، وبغية التأكيد لجماعة المتطرفين أنهم لا يهابون تهديداتهم، ورغم أن أبا الوليد حاول أن يصرفهم عن زيارته بدماثة؛ خشية تعرضهم للأذى، لكن إصرارهم وعنادهم كانا أكبر من مخاوفه».


مقالات ذات صلة

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

ثقافة وفنون ابن رشد

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟

هاشم صالح
ثقافة وفنون «سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين
TT

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ والروائي والمسرحيّ والناشط السياسيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل». وعندما نشر روايته «بلد آخر» (1962)، اختارت «الصنداي تايمز» الأسبوعية اللندنية المرموقة وصفه بـ«الزوبعة».

واليوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية ولادته (في 2 أغسطس 1924)، تبدو تلك الأوصاف عاجزة عن إيفائه حقه لدوره اللامع في توظيف أدوات الخيال الأدبي لنقل النقاش حول المسألة العرقيّة في مجتمعات الولايات المتحدة إلى المستوى الشخصيّ لكل الأميركيين؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبيّ في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل العنصري بكل آثارها النفسيّة العميقة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مرارات تعتمل في قلوب المجموعتين على جانبي خط التفريق بين بني آدم وفق ألوان بشرتهم.

وقبل وقت طويل من وفاته بسرطان غادِرٍ في 1987، أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لا بدّ منها لفهم خليط الألم والتكاذب والنّدم الذي يملأ تاريخ الحياة الأميركيّة في القرن العشرين.

جاء بالدوين إلى الأدب من الصحافة، لكنّه كان قد حسم مبكراً اختياره لقضيته بانحيازه إلى الإنسان لمحض إنسانيته، فكانت مقالاته مثالاً متقدماً على استحضار روح الجرأة والشجاعة والمنطق الهادئ للتأثير على أهم الأسئلة التي طالما راوغ المجتمع الأميركي لتجنبها، فيما ألقت قصصه القصيرة ورواياته ومسرحياته بالضوء على معاناة الأفراد جرّاء تلك المراوغة المكلفة، مدققاً في كل الزوايا المظلمة التي حفرتها في الحياة الاجتماعية للأميركي العادي. على أن الاستماع اليوم لبعض من خطبه ومقابلاته المصورة تظهر كم وجدت روحه المحلقة صوتها الأعلى في الخطابة. لقد وقف ذات يوم أمام نخبة الأكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء الأفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم الأميركي ما لم يكن الأفروأميركيين طرفاً فيه. هذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه المزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم الأميركي فحسب، بل وأيضاً جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب الأميركي عن التعامل مع تلك الكارثة. فأي بصيرة تلك، وأي جسارة على توصيف الظلام.

جمع بالدوين إلى موهبته الأدبيّة الظاهرة، ولغته المضيئة كما بلّورٍ صافٍ، قدرة بتّارة على استكشاف أوجاع ناس المجتمعات المعاصرة، واستقامة تفوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل المتوارية، وطرحها بكل عريها المخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيضاً مُقْلِقةً ومخلّة بالسلام الخادع الذي يتظاهر البعض به حفاظاً على أوضاع قائمة لمجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات.

إن فلسفة بالدوين الأثيرة العابرة لمجمل تراثه الأدبيّ كانت دائماً وحدة المصير البشري بحكم الإنسانية المشتركة، ولذلك كان يرى أن مهمة المثقف المبدع لا تبتعد عن نطاق اكتشاف حر لمساحات القواسم المشتركة - على الرغم من وجود الاختلافات التي ينبغي عنده أن تكون مصدراً لإثراء الاتصال بين البشر، لا أساساً لخنقه - ليخلص إلى أن العائق الأساسي أمام تلك المهمة في حالة المجتمع الأميركي جبن أخلاقيّ ترسّخ في القطاع الأبيض منه ولم يَعُد يَسهُل اقتلاعه. على أن هذا التخلي، وفق بالدوين دائماً، لا يُلحق فقط أضراراً مدمرة بنفسيات الأفروأميركيين الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنما تسقط الأميركي الأبيض أيضاً في هاوية من الاستحقاق الظالم، وفقدان الحس الإنساني الأساسي، والتناقض القاتل.

انخرط بالدوين شاباً بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى الأدب والأفلام والمسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهرباً من إغراءات الجريمة والمخدرات التي تفشت بين الشبان الأفروأميركيين بحكم الواقع الموضوعي لظروف عيشهم حينئذٍ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثراً بزوج والدته الواعظ الإنجيليّ، لكنه سرعان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ المسيحية، التي استخدمت - في توظيف فجّ - لاستعبادهم. لكن تجربته في أجواء الكنيسة كانت مهمة كي يدرك أن لديه سلطة كمتحدث ومَلَكة كخطيب، ويمكنه التأثير على حشد من المستمعين.

بعد فترة وجيزة على تخرجه من المدرسة الثانوية بداية أربعينات القرن الماضي، اضطر بالدوين إلى العثور على عمل للمساعدة في إعالة إخوته وأخواته، بعدما أعجز المرض زوج والدته، لكن قناعة تكونت لديه بأن مستقبله سيكون في الكتابة، فانطلق يدبّج رواية بينما يجمع قليلاً من الدولارات بالعمل في وظائف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه الأديب ريتشارد رايت في عام 1944، الذي تدبّر له أمر الحصول على زمالة يوجين إف ساكستون كي يتفرّغ للكتابة. ومع أن بالدوين بدأ يتلقى نوعاً من الاعتراف بموهبته من خلال قبول نصوص منه للنشر في مجلات مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر بالاختناق والغربة عن المناخ الاجتماعي المسموم في الولايات المتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت أموال زمالة أخرى حصل عليها عام 1948 بتكاليف سفره، وفيها نشر روايته الأولى «أعلِنوا مولده من فوق الجبل» (1953) ومعظم أعماله التالية. ويشعر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا الانتقال عبر الأطلسي كان جذرياً في مسار تطوره الفكريّ والأدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من المستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير.

أمضى بالدوين الأربعين عاماً التالية متنقلاً في أرجاء أوروبا؛ حيث تعرّف على أشهر مثقفيها، مع زيارات قصيرة للولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت مع عائلته الكبيرة، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية المهمة كما نشاطات حركة الحقوق المدنية، فكان شاهداً على مسيرات الحركة الشهيرة في واشنطن (1963) ومونتغمري (1965) وغيرهما. لكن الاغتيالات التي طالت أصدقاءه من القادة الأفروأميركيين السود خلال ستينات القرن العشرين المضطربة (مدغار إيفرز، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينغ الابن) أنهكته عاطفيّاً، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعياً للتعافي.

اشترى بالدوين منزلاً له في سانت بول دي فينس الخلابة على أطراف جبال الألب، وتوفي فيه يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، بعد معركة قصيرة خاسرة مع سرطان المعدة. وقد دفن تالياً في مقبرة فيرنكليف بنيويورك، وأقيم لراحة روحه قداس مهيب شاركت فيه عائلته ورموز الثقافة الأفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كومبس - في رثائه: «لأن بالدوين كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع العنصري الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عالماً عدائياً ومتعالياً».