هل طردت جوائز الشعر «العمودي» شعراء النثر؟

من الصعب القول بأن قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل

محمد الماغوط
محمد الماغوط
TT

هل طردت جوائز الشعر «العمودي» شعراء النثر؟

محمد الماغوط
محمد الماغوط

يُثير حديث العودة إلى قصيدة النثر أسئلةً عن رهاب الهيمنة الشعرية، وعن مشاكلتها مع التاريخ والسياق، ومع مفاهيم «الفحولة» و«العمود»، فهل يكون هذا الحديث محاولةً لإعادة الثقة بـ«ناثري الشعر»؟ وهل الاكتفاء بجوائز الشعر «العمودي» جعل شعراء النثر مطرودين، وخارج لعبة الضوء والتنافس؟

هذه الأسئلة تبدو مفارقة، وفاجعة أحياناً، ليس لأن «قصيدة النثر» تجاوزت ما هو أجناسي، لتحضر بوصفها شكلاً وأداءً في الممارسة الشعرية، لها شعراء رواد، و«أبطال» جعلوا منها حافزاً على إعادة قراءة التاريخ الشعري، واستغوار مساحاته التي يمكن أن تتسع للمغامرين.

ما بين هذا وذاك، تحضر أسماء وظواهر بعينها، لتجعل السؤال الشعري قابلاً للجدل والمشاكلة، لا سيما في الحديث عن أسماء مثل أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وظواهر مثل مجلة «شعر» ومجلة «مواقف».

«هو بيننا الأنقى» عبارة أطلقها الشاعر أدونيس على أنسي الحاج، حملت معها اعترافاً ضمنياً بجدّة «قصيدة النثر»، فجعل من النقاء الوجودي قريناً لـ«النقاء الشعري»، وربط ذلك بالشغف العميق بحيوية نظرته للتجديد والمغايرة، إذ يردف ذلك التوصيف بالمراجعة عبر قوله: «كلنا ملوثين بالتقليد، فمعك، يا أنسي، يزداد استمساكنا بحبل الرؤيا، يتّسع أسلوبنا في التعبير عنها، وينمو ويُغنى، يصبح لنا نوع آخر من الشعر، ومن النثر أيضاً».

إنسي الحاج

هذا القول، يضعنا إزاء حساسية أدونيس لقصيدة أنسي الحاج ولخصوصيته في كتابة قصيدة النثر، وعلاقة هذه القصيدة بالتجديد، بوصفه رهاناً على الحلم بالتطهير الشعري، وعلاقة هذا التطهير بفاعلية الوعي بالتجديد، وبالنزوع إلى جعل التمرد على التاريخ وعياً بالتغيير، وباتجاه إخراج الكتابة الشعرية من «تابوات الممنوع»، إذ يكون الشعر هو جوهر «الهوية العميقة» مثلما هو شفرتها في التعاطي مع مفاهيم الجدّة والحداثة، التي تعني - بالضرورة - مساءلة مركزيات «تاريخ الشعر»، ومقاربة مداولاته النقدية/ المفاهيمية، وصولاً إلى التعرّف على لحظات المفارقة الصادمة بين التاريخ والمغامرة، بوصفها تمثيلاً لثنائية «المطابقة والاختلاف»، فبقدر ما تاريخ الشعر حافلٌ بقوة المركزية ومطابقتها، فإنه حافل بمغامرين حالمين بالاختلاف مثل أبي نواس وأبي تمام، وصولاً إلى ما حفلت به القصيدة الأندلسية، وأحسب أن الحديث عن مجلة «شعر» اللبنانية يدخل في سياق تلك المفارقة، وفي التبشير بـ«مشروع القصيدة الجديدة»، كما أشار لذلك الشاعر يوسف الخال في افتتاحية العدد الأول من المجلة، إذ ارتهن هذا المشروع بطبيعة القلق الذي كان يعتور المسار الشعري، وبجرأة الأسئلة الفارقة التي أثارها شعراء الريادة في العراق؛ السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي.

لا يمكن قراءة مشروع القصيدة الجديدة، إلّا في سياق نزوعها لمفارقة تاريخ المركزة الشعرية، والخروج من النظام الصارم إلى حساسية العالم، حيث تكون هذه القصيدة «وعياً جديداً للعالم»، وسؤالاً وجودياً محفوفاً بالقلق والتململ، واستكناه أشكال كتابية تتمثّل هاجس المغايرة.

أدونيس

هذا المعطى التجديدي ليس بعيداً عن المتغيرات السياسية العالمية، ولا عما حدث في الواقع العربي ما بعد الحرب العالمية الثانية من تحولات، جعلت من مجلة «شعر» وكأنها حاضنة لبعض التوجهات الليبرالية التي أطلقها «الحزب القومي السوري» الذي التف حوله عدد كبير من المثقفين العرب في لبنان وسوريا، من أبرزهم يوسف الخال وأدونيس وعصام محفوظ وعادل ظاهر، ورغم ما أثير حول «المجلة» من لغط يخصّ مصادر تمويلها، فإنها كانت علامة فارقة على مسار التحول الفارق في الشعرية العربية، وانغمارها في استشراف أفق شعري جديد، على مستوى الوعي بالأشكال الشعرية، وعلاقة الشعر بالآيديولوجيا، أو على مستوى الوعي بالعلاقة مع الآخر، إذ تحولت المجلة إلى «مجال ثقافي» مفتوح على المغايرة، حيث استقطب أفكاراً جديدة، وأطروحات مثيرة للجدل، لا سيما في الكتابة والترجمة، وفي الانفتاح على تابوهات ثقافية، تخص قضايا إشكالية مثل الهوية والتاريخ والأمة والدين، فضلاً عن إشكالية الكتابة الشعرية ذاتها، وهو ما بدا واضحاً وصادماً بعد ترجمة أدونيس لفصول من كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»، الذي تحول إلى منهل سحري وغاوٍ لمواجهة مركزية التاريخ والنمط الشعري السائد.

كما أنّ التلازم بين ليبرالية الوعي وليبرالية الكتابة استقطب - من جانب آخر - عدداً مهماً من الأدباء العرب إلى مغامرته، لا سيما الشعراء ذوي النزعات التجديدية مثل السياب وسلمى الخضراء الجيوسي ومحمد الماغوط وخالدة سعيد وحليم بركات وفؤاد رفقة وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.

أثارت هذه المجموعة «الثقافية» أسئلة جديدة، وتحدياً جديداً، كشف عن المخفي في الصراعات الثقافية والآيديولوجية، فبدت ليبرالية مجلة «شعر» وكأنها «ضدٌ نوعيٌّ» لمجلة «الآداب» البيروتية ذات التوجه القومي الناصري، وكذلك في مواجهة ما كانت تطرحه مجلة «الثقافة الوطنية» ذات التوجهات الماركسية التقليدية، التي استثمرت أجواء انتصار معسكر الحلفاء والقوى الاشتراكية في الحرب العالمية الثانية، فاستغرقتها أطروحات الأدب الثوري والأدب الملتزم.

التوصيف والمغامرة

توصيف قصيدة النثر بأنها «روح التصميم الحداثي»، كما قال الشاعر كمال خير بك، أطلق العنان للحديث عن علاقتها بالمتغيرات الكبيرة، غير البعيدة عن التأثرات بمتغيرات «الحداثة» الشعرية في أوروبا، ومخاضات التجديد في فلسفات التنوير والإصلاح، التي وجدت في الترجمات الفلسفية، والشعرية، هاجساً لمقاربة أسئلة الوعي العميق بتوصيف مغامرة كتابة هذا الشعر، لا سيما عند الشعراء الفرنسيين والإنجليز والأسبان، إذ أعطت هذه المتغيرات زخماً دافعاً، جعلها مفتوحة، وقريبة من هواجس المثقف العربي المسكون بصراع «التاريخ والحداثة» والغامر في صراعات سياسية واجتماعية جاءت بعد الحراك الثوري والانقلابات العسكرية في مصر والعراق ولبنان، وكذلك بعد نجاح الثورة الجزائرية وبعد معركة التحرير والاستقلال.

مغامرة الكتابة الجديدة بدت وكأنها حساسية فائرة إزاء ما يجري في الواقع، وهذا ما أعطى لمشروع القصيدة الجديدة أفقاً غير واضح الملامح، وتوصيفات توزعت بين «الثورة، التمرد، المغامرة، الانقلاب» أعادت الشاعر إلى نرجسيته، وإلى إحساسه بأن العالم لم يعد ضيقاً، وأنه غير محكوم بذاكرة النوع الشعري الواحد.

اقتران قصيدة النثر بمجلة «شعر» لم يكن واضحاً، فالحديث عن «مشروع القصيدة الجديدة» كان هو الهاجس، والمُحرّض على المغامرة الشعرية، لكن موضوع هذه القصيدة بدا واضحاً بعد ما كتبه الشاعر محمد الماغوط في العدد الخامس من المجلة، وكذلك بعد ما كتبه أنسي الحاج، الذي وضعه عنواناً لبيانه الشعري المنشور مع مجموعته الشعرية «لن»، إذ استشرف هذا الشاعر سؤالاً وجودياً رافضاً للنمط القديم، وباعثاً لروح جديدة عبر الشكل الجديد، وعبر الرؤيا الجديدة التي أدرك ضرورتها بمواجهة ما يعتور النمط القديم من شيخوخة وتكرار وترهل... ولأن مشروع الحديث ومفارقة النمط في المجلة كان مضطرباً، فكان بروز إشكالية فهم التحديث من أكثر عوامل الإغلاق الأول للمجلة، لا سيما بعد ما أثارته قراءة يوسف الخال لمجموعة شاعر العامية اللبنانية ميشيل طراد، من أسئلة تخص هوية المجلة، وهوية المشروع الشعري، والطابع «الشعبوي» الذي اقترن بما هو هامشي في الثقافة العربية، لا سيما تمثيل الهامش اللغوي عبر تحفيز الكتابة باللهجات المحلية، وهو ما جعل البعض يدرك خطورة هذا النزوع الذي يُهدد هوية «الشعر العربي» عبر تهديد اللغة، مثلما جعل من مشروع المجلة وكأنه مشروع «تسقيطي» يهدف إلى المغالاة بالثقافات المحلية، مما دفع أدونيس الفاعل في تأسيس المجلة إلى التقاطع مع يوسف الخال، ومع مشروعه في «لبننة» توجهاتها الشعرية، وهو ما قاد شعراء آخرين إلى التمرد على سياسة المجلة مثل خليل حاوي ونازك الملائكة وصولاً إلى خروج أدونيس عنها.

أثار وعي المغامرة الشعرية جدلاً مفاهيمياً حول هوية هذه القصيدة وحول شرعيتها، وهل أن حيازتها على عناصر جمالية وكثافة صورية تكفي لإعطائها «حق الإقامة» في المجال الشعري؟

هذه الإثارة ظلت محط شّذٍ وجذب، فرغم أهمية مجلة «شعر» في حماية هذه القصيدة، فإن واقع الحال جعلها تبدو الأقرب إلى تمثيل المفارقة في تاريخ الشعر العربي الحديث، ولعل ما حدث في الستينيات من القرن الماضي جعلها تدخل في أكثر تحولاته وأحداثه صخباً، وحتى بالحركات التي استغرقت الجسد السياسي والثقافي والآيديولوجي العربي، الذي جعل من الانفتاح على «قصيدة النثر» وكأنه انفتاح على جزيرة سحرية، أغوت الكثير من الشعراء بالتطهّر من عقد التاريخ والنمط والمركزة الشعرية، لا سيما بعد الانقلاب الدموي في العراق عام 1963 والهزيمة العربية عام 1967، وهو ما حدا ببعض النقاد والباحثين إلى البحث في التاريخ العربي وأسفاره ومقاماته وخطبه عن جذور لهذه القصيدة، رغم أن أطروحات سوزان برنار حول «قصيدة النثر» قطعت الطريق على ذلك، من خلال التأكيد على عنصر «القصدية» في كتابتها.

التجاوز على تاريخ النمط أعطى للبعض غواية التمرد، والبحث عن أطرٍ «معاصرة» تُعطي للكتابة الشعرية وجوداً متعالياً على مستوى وعي الزمن الشعري في حركاته وتجدده، أو على مستوى الصياغة والتركيب والكثافة والإيحاء بما يشبه «الإيقاع الداخلي» كغطاء نظري لربط الشكل بالتوصيف الشعري، وعلى نحوٍ يجعل من هذه الكتابة تعبيراً عن وعي حاد باستحداث فهم مجاور وجديد للشعر يقوم على توكيد مفهومي للمغايرة والتجاوز، أشار إليه أدونيس بالقول «لم تعد حركة الشعر الحقيقية وسط الركام الكثير للموروث مرتبطة بالسياسة أو الأخلاق والعادات العامة والشائعة، بقدر ارتباطها بحركة التطور الحضاري، ولم يعد الشعر بمعنى آخر للفائدة والمنفعة، بقدر ما أصبح عملاً إبداعياً داخلياً يجد فيه الشاعر تعزيته وخلاصه».

مغامرة الكتابة الجديدة بدت وكأنها حساسية فائرة إزاء ما يجري في الواقع

الشعرية والتجاوز

من الصعب القول بأن قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل، لأن هذا التوصيف سيجعلها وكأنها تحمل معها معياراً يُحدد كل ما يتعلق بمفهوم «الشعرية» وحتى بطبيعة التجاوز الذي هو تمثيل لحركة دائبة، فالشعر في هذا السياق يجعل من فكرة «الشعرية» جوهراً للقيمة، وللحساسية التي ينبغي أن تتمثلها القصيدة في سياقها الوجودي، وحتى في تمثيل الذي تحمله «قصيدة النثر» بوصفها تقع في المفارقة، وفي التجاوز ذاته، وفي إعطاء التجاوز طابعاً مفهومياً يعكس فلسفة الوعي بالوجود، وبخصوصية الشاعر في النظر إلى العالم، فهذا الشاعر «لا يستطيع أن يبني مفهوماً شعرياً جديداً، إلّا إذا عانى في داخله من انهيار المفهومات السابقة، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر، إذا لم يكن عاش التجدد».

فإذا كانت الشعرية تعني دراسة فعل اللغة في الشعر، عبر التعرف على انزياحاته، فذلك يجعلها مرهونة بدراسة «شعرية الخطاب» كما عند تودوروف، و«الوظيفة الشعرية» كما عند جاكوبسن، أو بدراسة «الانزياح» كما عند جون هوكين، أو بشعرية الفجوة - مسافة التوتر كما عند كمال أبو ديب، أو بشعرية الرؤيا كما عند أدونيس، وهذه الوظائف تنطلق من فكرة «أن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعراً، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق»، وبما يُعطي لفاعلية التجاوز وعياً بحمولات الشعرية ذاتها، لا سيما في النظر إلى قصيدة النثر، بوصفها أداء تتكثف فيه الوظيفة والانزياح والرؤيا، وبما أن هذه القصيدة قد كرست حضورها، فإن مفهوم الشعرية يظل مفهوماً مُحفِزاً على المساءلة والتجاوز، وحتى على إعادة التعريف والتوصيف، وربما للقبول بشكل شعري جديد ومغاير.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.