«كتاب الرسائل»... تأملات شاعر في القرآن

منهج لإصلاح البشرية وعلاج أغلب أزمات الإنسان المعاصر

«كتاب الرسائل»... تأملات شاعر في القرآن
TT

«كتاب الرسائل»... تأملات شاعر في القرآن

«كتاب الرسائل»... تأملات شاعر في القرآن

كتاب الشاعر المصري علي منصور، الموسوم «صباح الخير يا صديقي» أو «كتاب الرسائل»، والصادر عن دار أخبار اليوم، ضمن سلسلة «كتاب اليوم» لشهر يناير (كانون الثاني) 2024، كان بمثابة هدية، هدية تسمو بقيمتها على أيّ من الهدايا المتعارف عليها، خصوصاً أنها تزامنت مع إطلالة العام الجديد. وموضوعة «كتاب الرسائل» مختلفة عمّا هو شائع ومتعارف عليه في غالبية الإصدارات في حقل الأدب، بشكل خاص، إذ حين يكون صاحب الإصدار شاعراً أو قاصاً، يتبادر إلى القارئ عادةً أنه بصدد إصدار لا يخرج عن دائرة الشعر أو القصة، أو ما له صلة مباشرة بذلك، في الوقت الذي اختار الشاعر علي منصور فضاءً آخر، وإن كان يمتح من الأدب في معالجته، هو الفضاء القرآني ليكون مجالاً لتأملاته واستشرافاته وتدبّراته، معنى ولغةً ونغماً وبلاغة وإعجازاً، والكتاب ليس تقليدياً سواء في أسلوب معالجته للمادة القرآنية أو في الطريقة التي أراد الكاتب أن يقدم هذه المادة من خلالها، وهذا الاختلاف يتجسد في أكثر من شكل، ويبدأ من المقدمة التي تكشف عن «اللعبة» أو «الحيلة» الفنية التي لجأ إليها الكاتب لبناء كتابه في مناورة فنية مشوّقة. نتعرف في المقدمة على طبيعة تشكل الكتاب، الذي لم يكن يعوزه الخيال القصصي في مخطّطه الأساس ليبدو أشبه ما يكون باللُّقية، ولهذا دلالاته، فالكتاب عبارة عن رسائل متبادلة عُثر عليها في صندوقين متماثلين ممتلئين حتى النصف، وهي تعود لصديقين وقد تعاهدا على أن يتبادلا الرسائل حول تأملاتهما في القرآن الكريم، والرسائل متماثلة العدد في الصندوقين وهي غير ممهورة بتوقيع أو مؤرخة، لكن نعرف لاحقاً أنّ كلا الصديقين يحملان اسم «علي»، وهو ما تفصح عنه الرسالة الأولى التي تشهد تعارفهما، ويمكن عدّ هذه الرسالة مقدمة ثانية ضرورية لاستجلاء الغامض في التقنية المعتمَدة للكتاب وحتى تفسير بعض الإشارات في المقدمة التي ستبقى مبهمة دون الإضاءة التي جاءت بها الرسالة. يقول الكاتب واصفاً، عبر غلالة شعرية، نشأة العلاقة بين «العليَيْن»، وهو يخاطب صديقه: (هل تذكر ذلك اليوم الذي قابلتني فيه أول مرة عند الشلال وأنا مستغرق في تأمل الزبد الأبيض الوفير الذي لا ينضب، يومها وقفت ورائي، ورتّلت بصوت الشيخ محمود خليل الحصري «فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال». فلما التفتّ إليك أحببتك، وأخذت بيدك إلى ظل شجرة التوت وأنا أقول: تعال نمكث هنا في الأرض، تحت شجرة التوت يا... وسألتك عن اسمك، فقلت علي، اسمي علي، فقلت لك: تعال نمكث هنا في الأرض، تحت شجرة التوت يا علي، فأنا أيضاً اسمي علي. كان يوم جمعة، على ما أتذكر). الجو الذي يصفه الكاتب هو جو روحي، يخالطه تطلّع فردوسي، حيث الماء والشجر، وروح الألفة والمحبة، والمسحة القرآنية التي أفعمت الفضاء عبر التلاوة القرآنية المذكورة، ومن ثمّ التوقف عند (النازعات غرقاً) و(الناشطات نشطاً) لاستجلاء معنيَيْهما، وهما الآيتان اللتان تُفتتح بهما سورة «النازعات». كما أن اختيار يوم الجمعة ليكون يوم اللقاء، بدا أنه ليس من دون قصد لما لهذا اليوم من خصوصية وقدسية لدى المسلمين، وكأن الكاتب أراد القول أن هذا اللقاء كان قدرياً، بصرف النظر عن حقيقية أو افتراضية الشخص الآخر المخاطَب في الرسائل، وهي تبدأ جميعها بعبارة صباح الخير يا صديقي، من هنا جاء اسم الكتاب، وقد استُهلّ بآية من سورة الإسراء «ونُنزّل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا خساراً». وهو اختيار موفق لاستهلال الكتاب، فهذه الآية تصلح كأحد التعريفات للقرآن، من جانب، ومن جانب آخر، لما تمتلئ به مفردتا الشفاء والرحمة من لطف وما يعنيه ذلك من بشرى بالنسبة للمؤمن، وما تحمله الآية، في الوقت نفسه، من تقريع للظالمين وإنباءً عن حالهم مع القرآن، الذي هو (كتاب الله المسطور مثلما الكون هو كتاب الله المنظور)، كما لو أن الكاتب يريد القول بكونية القرآن من خلال هذا التناظر. وفي انتباهة هي دأب من يُعمل تفكيره بالقرآن استقراءً ومحاولات لا تكلّ للنهل منه والتبصّر فيه، يتحدث الكاتب عن مفهوم «أنسنة الأشياء» وهو إضفاء الروح الإنسانية على الجمادات ومن ثم العلو بشأنها ومنحها جمالاً وحياة، حسب تعريفه المُستقى من الحقلين الأدبي والفني، ليبيّن أنّ مثل هذا الإسقاط ظالم بحق الأشياء، فهو يرى أنّ الصفة الملحقة بالإنسان في القرآن عادة ما تكون سلبية وتنتقص منه، مثال ذلك: «وخُلق الإنسان ضعيفاً»، «إن الإنسان ليطغى»، «إن الإنسان لظلوم كفّار»، «وكان الإنسان قتوراً» وسوى ذلك، وإزاء سلبية الإنسان يشيد الكاتب بإيجابية الجمادات وجماليتها، لما فيها من خصلة السجود لله، استناداً إلى النص القرآني. لكن على الرغم مما تقدم، لا ينسى الكاتب حقيقة تكريم الله للبشر، وتسخير كل ما في الكون من أجلهم.

في «كتاب الرسائل» لا يمكن إغفال الصفة الأساس لكاتبه فهو شاعر في المقام الأول، وما يعنيه ذلك من تعامل مع مادته من منظور جمالي، وهو ما طبع الكثير من فصول الكتاب، (إذا اعتبرنا أن كل رسالة تمثل فصلاً) وعبر هذا المنظور الجمالي كانت تمرّ المعالجة التاريخية واللغوية والتفسيرية للنص القرآني المُضاء، لاستجلاء كُنهه، بالحديث النبوي وكتب المفسرين، أمثال الزمخشري والقرطبي والسمرقندي والطبري، وسواهم من القدامى، والآلوسي والشنقيطي ومحمد سيد طنطاوي، من المعاصرين. وقد امتازت الكثير من الرسائل بما هو شعري، سواء في مداخلها أو ضمناً، مثال ذلك، «أنا أحب الدموع ذات الذكريات الخضراء»، أو استهلاله إحدى الرسائل بالتالي: (هذا صباح ماطر جميل، الغيوم طيبة لا رعد فيها ولا برق، خفيف هو المطر ومتواصل منذ ساعة، فما ظنك بالمطر يا عليّ..؟)، ليكون ذلك مدخلاً للحديث عن أن القرآن أشبه ما يكون بالمطر للقلب، مثلما هو المطر للأرض المجدبة، وكم من الآيات القرآنية التي أشارت إلى العلاقة بين الأرض والمطر، وهي علاقة تم تصويرها على أرفع ما يكون جمالياً، وذروة ذلك عقد الصلة بين إحياء الأرض اليابسة المغبرّة بعد تلقيها الماء، وإحياء الموتى، لتخلص الرسالة التي اهتمت بهذا المعنى للتنبيه إلى ضرورة سقي القلب بالقرآن، وهو تشبيه اقتضاه السياق «المائي» الذي اتخذه الموضوع. وليس بعيداً عن ذلك يجري الحديث في واحدة من الرسائل المميزة في الكتاب عن مفردة «أَفَمَن» حيث تتجلى هنا شاعرية الكتاب، في الوقت الذي يلفت الكاتب الانتباه إلى هذه المفردة وسياقاتها النورانية، كما يسمّيها. ومؤكَّداً أن من يطلع على ما نالته هذه المفردة من اهتمام ومديح لن يمر بعد ذلك وهو يقرأ القرآن مروراً عابراً عليها. يقول عن ذلك: كلما قابلتني مفردة «أفمن» وأنا أقرأ في كتاب الله الكريم، أشعر ناحيتها بإحساس حلو، بحب جارف... فكرت مرة أن أكتب فيها قصيدة، سوى أنها كانت أجمل وأجلّ من قصيدة. لكنني منحت إحدى قصائدي عنواناً يقول: آه لو اطلعتم على جمال «أفمن». شعرت حينها أنني اصطحبتها في نزهة، وما زال جمال «أفمن» يلحّ على قلبي وروحي وقلبي وعقلي... كم

وددت لو أن أجمل البنات اسمها «أفمن» أو أن أجمل الزهور اسمها «أفمن» (...) وأن أجمل الفساتين قاطبةً على وجه الأرض هي السياقات القرآنية التي جاءت لنا فيها مفردة «أفمن»، راداً افتتانه بها إلى موسيقيتها، (فهي ثلاث حركات فساكن على وزن «فَعَلَنْ»)، فضلاً عن معاني الآيات التي أتت في سياقها وهي تتكرر في 15 آية، ضمن 13 سورة. من ذلك «أفمَن وعدناه وعداً حسَناً فهو لاقيهِ كمن متّعناه متاعَ الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المُحضَرين». القصص: 61. و«إنّ الذين يُلحدون في آياتنا لا يَخفَون علينا أفمَن يُلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يومَ القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير». فُصّلت: 40.

إن الإيمان بالقرآن وبكل هذا الشغف هو ما يحمل الكاتب على التأكيد بأنّ في سورة الحجرات، مثلاً، منهج إصلاح البشرية وعلاج أغلب أزمات الإنسان المعاصر، فسرّ النجاة يكمن دائماً في العودة إلى الله. ونظراً لغنى مادة الكتاب وتعدد الزوايا التي قارب بها الكاتب موضوعاته يتعذر في هذه المساحة المحدودة استيفاء الكثير مما يستوجب التنويه به، لكن والحال هذه لا بد من الاختيار وهنا تنبغي الإشارة إلى رسالة من الأهمية والعمق لا يمكن تجاوزها تتحدث عن الزمن في القرآن، يقول الكاتب مستهلاً موضوعه أن الزمن في القرآن أمره عجيب، زمن ليس كالذي نعرفه، إنه زمن خاص بالقرآن وهو يخضع لهيمنته خضوعاً تاماً، فهو حين يتحدث عن أشياء ستقع في المستقبل (يوم القيامة مثلاً)، يتحدث عن ذلك بصيغة الماضي لا المستقبل، ومصداق ذلك: «ونادَوا يا مالك ليقض علينا ربُّك قال إنكم ماكثون». الزخرف آية 77. وحين يسرد القرآن وقائع حدثت في الماضي فإنه يشير إليها بصيغة المستقبل، كما في الآية 152 من سورة الأعراف «إنّ الذين اتخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربهم وذلّة في الحياة الدنيا». ليتوصل الكاتب إلى القول، وكأنّ القرآن موجود قبل البشرية وقبل وقوع الأحداث. وثمة أمثلة أخرى، منها ما جاء في أول آية من سورة النحل «أتى أمر الله فلا تستعجلوه..» لافتاً النظر إلى صيغة الفعل (أتى) ومن ثم صيغة الفعل (تستعجلوه)، متسائلاً عن مدى استقامة هذين الفعلين بالمفهوم الزمني المعهود لكل من الماضي والمضارع. حقاً إنّ ذلك من بين عجائب القرآن، التي استجلاها أو أعاد التذكير بها هذا الكتاب، الذي كان مشرعاً على مختلف الآفاق، لذا لم يتوانَ كاتبه عن القول في واحدة من رسائله بأن فكرة العدل في النظرية الماركسية هي ما جذبه في هذا الفكر، معبراً بذلك عن منحى ثقافي وموقف إنساني. الكتاب غير منقطع الصلة بحاضره، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، أي أنه ينطلق من كل ذلك معاً؛ فكم حفل بمثل هذه التواشجات. وهو كتاب نصيحة وموعظة لمن شاء وكتاب تاريخ وكتاب أدب، رغم أنّ عدد صفحاته لم يتجاوز المائة إلّا قليلا. هذا الكتاب الذي سرّني أن أكون شاهدا عليه منذ بداياته وعبر مختلف أطواره كمخطوط حتى رؤيته النور.

 



في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب