الحب والعمى وجهان لمتخيَّل واحد

الوهج الشمسي للمعشوق يشلُّ قدرة العاشق على تبيُّن ملامحه

طه حسين
طه حسين
TT

الحب والعمى وجهان لمتخيَّل واحد

طه حسين
طه حسين

لم يترك الفلاسفة والشعراء والباحثون وجهاً واحداً من الوجوه الكثيرة للحب، إلا وتناولوه عبر حقب التاريخ المختلفة بالدرس والتمحيص والتحليل. ورغم أنهم أسرفوا إلى أبعد الحدود في امتداحه أو هجائه، واختلفوا في تأويله واكتناه طبيعته، مدبجين حوله الكثير من الكتب والمصنفات، دون أن يصل أحدٌ في تأويله له إلى مرسى أو يقين، فقد أكد الجميع، وبمعزل عما يصاحبه من فرح غامر أو تكلفة باهظة، بأن الحب هو العنصر الملازم للحياة نفسها، والأكسير الأكثر نجاعة الذي من دونه يتحول الكوكب الأرضي إلى صحراء.

ولم يكونوا بعيدين عن الصواب، أولئك الذين توصلوا إلى الاستنتاج بأنه ليس علينا أن «نفهم» الأشياء لكي نصادقها، وأن نحيل كل ما نود عيشه أو تعاطيه، إلى مشغل التفكر والتفكيك. ليس فقط لأننا بذلك نحول الحياة إلى جحيم من الكوابيس والهواجس العصية على التبدد، أو نسلخها عن متعة انسيابها التلقائي، بل لأن سعينا المفرط للوقوف على الجوانب الحسية الظاهرة من المعشوق يمكن أن يُفسد الخلطة السحرية اللازمة لكل افتتان، والتي يشكل المتخيل ممرها الإلزامي ورأس حربتها الأهم.

شوبنهاور

ولعل عبارة «الحب أعمى»، التي يتداولها العرب وغيرهم من الشعوب، لم تأت من فراغ محض، أو تأويل اعتباطي لهذه العاطفة المشتركة بين بني البشر، بل هي الترجمة الفعلية لطبيعته الملتبسة، وللانجذاب الغامض الذي يؤلف بين قلبين، كما للمعايير الجمالية المتفاوتة، التي من دون طابعها النسبي كان يمكن للرجال أن يعشقوا امرأة واحدة، وللنساء أن يفتتنوا برجل واحد. والواقع أن الشخص المحبوب لا يلزمه أن يبذل كبير جهد لكي يوقع المحب تحت سطوته الجاذبة، «فعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ»، كما يقول الإمام الشافعي، والعاشق تبعاً لذلك يخلق المعشوق من عندياته، مؤالفاً بينه وبين نموذجٍ للجمال ماثلٍ في بهاء التصورات أو في حياة سابقة، كما ذهب أفلاطون.

على أن مفهوم العمى لم يكن واحداً لدى الفلاسفة والدارسين وعلماء النفس والاجتماع. فالإغريق تحدثوا عن قدرة الجمال المعشوق على حجب الحقيقة عن عيني العاشق الرائي، وعن الإشعاع الشمسي للكائن المشتهى، بما يملأ عينيه بغبش دامع، ويسد عليه سبل الإبصار. ولم يكن تشبيه الحبيبة بالشمس في الشعر العربي وغيره، سوى ترسيخ إضافي لهذا المفهوم، حيث يتدفق من جهة المعشوق جمالٌ عصيٌّ على الفهم، لا تملك العين لسحره دفعاً، «وله كل ساعة تجديد»، وفق ما وصف به ابن الرومي جمال وحيد المغنية. أما رولان بارت فيرى أن الشخص المصاب بالعشق يبدو وكأنه يتخبط في عتمة واسعة، دون أن يعرف الجهة التي باغتته من صوبها ضربة الحب. ولأنه محروم من نور إدراك الأسباب والغايات، فهو يتعلق بشكل أعمى بالأشياء، أو بما ينجم عنها من فوضى. ومع أن الشهوة التي تعتريه ناقلة للضوء، فيما لو شاء البحث عن مخرج، فهو لا يكف عن استبدال ليل بآخر، مؤثراً بشكل طوعي أن يلازم عتمة اللامعنى، لأنها بالنسبة إليه «بوابة العجائب». واللافت في هذا السياق أن نيتشه، بتأثير من علاقته الفاشلة بسالومي، ومن سوء تكيفه مع المحيطين به، لا يكتفي بجعل الحب حالة من أحوال العمى، بل يضع الصداقة في خانة مشابهة، مختزلاً العلاقتين بقوله «الحب أعمى والصداقة تغلق عينيها».

ساراماغو

وإذا كان أكثر الفلاسفة والدارسين قد اتفقوا على الربط بين الحب والعمى، إلا أنهم اختلفوا حول الأسباب والأدلة التي قادتهم إلى ذلك الاستنتاج. فقد رأى شوبنهاور بأن المخاتلة هي من طبيعة الشخص المعشوق. والمرأة على نحو خاص «تشبه سمك الحبار الذي يطلق حبره الداكن، لكي يحيل الماء من حوله ماءً حارقاً، فهي لا تمتلك للدفاع عن نفسها في مواجهة الرجل سوى الخداع والتمويه». والعمى، وفق ساراماغو، في روايته التي تحمل الاسم نفسه، هو أن لا نرى سوى لون واحد من الألوان، حتى لو كان الأبيض لا الأسود هو اللون المرئي، وسواء تعلق الأمر بالحب أو بالأفكار والمعتقدات. أما جان لوك ماريون فيرى في كتابه «ظاهرة الحب، ستة تأملات» أن كل حب جارف لا بد أن يولّد الغيرة والوساوس المؤرقة، وليست مقولة الحب الأعمى سوى طريقة البشر في التعبير عن خوفهم من اكتشاف الحقيقة «المبصرة». ولأن الحب نقيض الفكر، فإن الآخر عنده لا يحضر بوصفه مفكراً بل بوصفه معشوقاً. فالعاشق لا يرى مَن يحبه كما هو بالفعل، بل كما تتخيله رغبته. ولأنه لا ينظر إلا بعيون الحب العمياء لشدة بلبالها، «تصبح المرأة الكبيرة عنده مهيبة، والصغيرة لذيذة، والهستيرية شغوفة، والفاجرة مثيرة، والبلهاء عفوية، والمماحكة نبيهة».

ومع ذلك فنحن لا نستطيع إشاحة النظر عن الآراء المضادة لفلاسفة وباحثين آخرين رفضوا بإصرار مقولة الحب الأعمى، معتبرين أن هذا الأخير ليس مجرد عاطفة بحتة وكلمات خاوية، بل هو طاقة «مضادة للعقم، ولا تقايَض إلا بالحب نفسه»، وفق تعبير كارل ماركس. فالحب بالنسبة لإريك فروم فن نتعلمه بالدأب والخبرة، كما نتعلم الرسم والهندسة والموسيقى، بقدر ما هو رعاية وحدب وعطاء، «فأن تحب الزهور يعني بالضرورة أن تسقيها، وإلا فإن حبك كاذب». ويسخر فروم من مقولة الحب الأعمى، لأنها تضع الشخص العاشق في مرتبة انعدام الشعور بذاتيته، بما يجعله يغترب عن قواه ويميل إلى تأليه المحبوب وعبادته. وإذا كان هذا النوع من الحب لا يعكس سوى جوع العاشق وبؤسه وامحائه، فإن الحب الحقيقي في رأي فروم، لا يكون ممكناً إلا بتواصل العاشقين من مركز وجودهما الإنساني والمتكافئ.

وخلافاً لما ذهب إليه شاتوبريان من أن إقحام العقل بالعواطف، وإخضاع ذلك الجزء من كياننا الذي يعيش بالحب للمراجعة والتحليل، هو عملية شائنة ورعناء، فإن باسكال يعتبر بأن الحب والعقل هما الشيء ذاته مع فارق قليل في التوقيت، وما يفعله الأول ليس سوى استعجال الثاني وتمهيد الطريق له. والشعراء وفق باسكال «ليسوا على حق حين يصورون الحب بأنه أعمى، إنما يجب أن ننزع عن عينيه العصابة التي تحجب عنه نور العالم».

ولم تغب ثنائية الإبصار والعمى عن أذهان الشعراء العرب، الذين أعشى العشق أبصار بعضهم عن جمال النساء كلهن، ولم يضئ لهم سوى النور الذي يشع من جهة المرأة المعشوقة. وهو ما يعكسه قول عروة بن أذينة، في أبياته الحوارية مع حبيبته سعدى:

قالت، وأبثثْتُها وجدي فبحتُ به

قد كنتَ عندي تحب الستْر فاستترِ

ألستَ تبصر مَن حولي ؟ فقلت ُلها

غطّى هواكِ وما أَلقى، على بصري

وإذا كان بعضهم قد رأى في الحب ضياعاً للبصر والبصيرة، فقد رأى فيه آخرون العيون التي يبصرون بها، والتي يفقدون بفقدها الطريق إلى فردوس الوجود الآمن. وهو ما جسّده قول الفرزدق في نُوار، وقد عمد إلى تطليقها في لحظة غضب، قبل أن يأخذ منه الندم والأسى كل مأخذ:

ندمتُ ندامة الكسَعيّ لما

غدتْ مني مطلّقةً نُوارُ

وكانت جنتي فخرجتُ منها

كآدمَ حين لجّ بها الضِّرارُ

وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمداً

فأصبح لا يضيء له النهارُ

إذا كان بعضهم قد رأى في الحب ضياعاً للبصر والبصيرة فقد رأى فيه آخرون العيون التي يبصرون بها

لكن الأمر يختلف تماماً حين يتعلق بالعشاق المكفوفين، وفاقدي البصر بالمعنى المحسوس. فهؤلاء لا يحتاجون إلى مزيد من العزلة المعتمة لكي يتمكنوا من مواصلة حياتهم، بل إلى الحب الذي يؤنس وحدتهم، ويتحول عندهم إلى عصا النجاة من الوحشة والتعثر. ووفق مبدأ التعويض عن الحاسة المفقودة بأخرى غيرها، فإن المصابين بالعمى الفيزيولوجي يعولون على الأذن بدلاً من العين، وعلى إشراقة القلب والبصيرة بدلاً من البصر المطفأ. وهو ما جسّده بوضوح بشار بن برد، الذي لم يمنعه عماه من الشغف بالحياة والنساء والملذات، قبل أن يقع في حب «عبدة»، المرأة التي سحره جرْس صوتها وأشجته حلاوة ألفاظها، وبات قوله فيها «والأذن تعشق قبل العين أحيانا» أحد الأمثال السائرة عند العرب. أما الإبصار بعين القلب فيختصره بشار بقوله:

يزهّدني في حب عبدةَ معشرٌ

قلوبهمُ فيها مخالفةٌ قلبي

فقلتُ دعوا قلبي وما اختار وارتضى

فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحبِّ

وإذا كان بورخيس الذي فقد بصره باكراً، قد وجد في الكتابة حبل النجاة المشع الذي مُدَّ له في ليل حياته الدامس، وفق اعترافاته لألبرتو مانغويل، فإن طه حسين، وقد تقاسم مع نظيره الأرجنتيني وطأة العمى وملكة الابداع، لم يجد خلاصه في الكتابة وحدها بل في الحب. وهو ما يؤكده قوله لسوزان، حبيبته وزوجته الفرنسية، «أشعر بدون وجودك أنني أعمى حقاً. أما وأنا معكِ فأتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي».


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين
TT

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ والروائي والمسرحيّ والناشط السياسيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل». وعندما نشر روايته «بلد آخر» (1962)، اختارت «الصنداي تايمز» الأسبوعية اللندنية المرموقة وصفه بـ«الزوبعة».

واليوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية ولادته (في 2 أغسطس 1924)، تبدو تلك الأوصاف عاجزة عن إيفائه حقه لدوره اللامع في توظيف أدوات الخيال الأدبي لنقل النقاش حول المسألة العرقيّة في مجتمعات الولايات المتحدة إلى المستوى الشخصيّ لكل الأميركيين؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبيّ في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل العنصري بكل آثارها النفسيّة العميقة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مرارات تعتمل في قلوب المجموعتين على جانبي خط التفريق بين بني آدم وفق ألوان بشرتهم.

وقبل وقت طويل من وفاته بسرطان غادِرٍ في 1987، أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لا بدّ منها لفهم خليط الألم والتكاذب والنّدم الذي يملأ تاريخ الحياة الأميركيّة في القرن العشرين.

جاء بالدوين إلى الأدب من الصحافة، لكنّه كان قد حسم مبكراً اختياره لقضيته بانحيازه إلى الإنسان لمحض إنسانيته، فكانت مقالاته مثالاً متقدماً على استحضار روح الجرأة والشجاعة والمنطق الهادئ للتأثير على أهم الأسئلة التي طالما راوغ المجتمع الأميركي لتجنبها، فيما ألقت قصصه القصيرة ورواياته ومسرحياته بالضوء على معاناة الأفراد جرّاء تلك المراوغة المكلفة، مدققاً في كل الزوايا المظلمة التي حفرتها في الحياة الاجتماعية للأميركي العادي. على أن الاستماع اليوم لبعض من خطبه ومقابلاته المصورة تظهر كم وجدت روحه المحلقة صوتها الأعلى في الخطابة. لقد وقف ذات يوم أمام نخبة الأكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء الأفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم الأميركي ما لم يكن الأفروأميركيين طرفاً فيه. هذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه المزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم الأميركي فحسب، بل وأيضاً جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب الأميركي عن التعامل مع تلك الكارثة. فأي بصيرة تلك، وأي جسارة على توصيف الظلام.

جمع بالدوين إلى موهبته الأدبيّة الظاهرة، ولغته المضيئة كما بلّورٍ صافٍ، قدرة بتّارة على استكشاف أوجاع ناس المجتمعات المعاصرة، واستقامة تفوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل المتوارية، وطرحها بكل عريها المخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيضاً مُقْلِقةً ومخلّة بالسلام الخادع الذي يتظاهر البعض به حفاظاً على أوضاع قائمة لمجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات.

إن فلسفة بالدوين الأثيرة العابرة لمجمل تراثه الأدبيّ كانت دائماً وحدة المصير البشري بحكم الإنسانية المشتركة، ولذلك كان يرى أن مهمة المثقف المبدع لا تبتعد عن نطاق اكتشاف حر لمساحات القواسم المشتركة - على الرغم من وجود الاختلافات التي ينبغي عنده أن تكون مصدراً لإثراء الاتصال بين البشر، لا أساساً لخنقه - ليخلص إلى أن العائق الأساسي أمام تلك المهمة في حالة المجتمع الأميركي جبن أخلاقيّ ترسّخ في القطاع الأبيض منه ولم يَعُد يَسهُل اقتلاعه. على أن هذا التخلي، وفق بالدوين دائماً، لا يُلحق فقط أضراراً مدمرة بنفسيات الأفروأميركيين الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنما تسقط الأميركي الأبيض أيضاً في هاوية من الاستحقاق الظالم، وفقدان الحس الإنساني الأساسي، والتناقض القاتل.

انخرط بالدوين شاباً بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى الأدب والأفلام والمسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهرباً من إغراءات الجريمة والمخدرات التي تفشت بين الشبان الأفروأميركيين بحكم الواقع الموضوعي لظروف عيشهم حينئذٍ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثراً بزوج والدته الواعظ الإنجيليّ، لكنه سرعان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ المسيحية، التي استخدمت - في توظيف فجّ - لاستعبادهم. لكن تجربته في أجواء الكنيسة كانت مهمة كي يدرك أن لديه سلطة كمتحدث ومَلَكة كخطيب، ويمكنه التأثير على حشد من المستمعين.

بعد فترة وجيزة على تخرجه من المدرسة الثانوية بداية أربعينات القرن الماضي، اضطر بالدوين إلى العثور على عمل للمساعدة في إعالة إخوته وأخواته، بعدما أعجز المرض زوج والدته، لكن قناعة تكونت لديه بأن مستقبله سيكون في الكتابة، فانطلق يدبّج رواية بينما يجمع قليلاً من الدولارات بالعمل في وظائف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه الأديب ريتشارد رايت في عام 1944، الذي تدبّر له أمر الحصول على زمالة يوجين إف ساكستون كي يتفرّغ للكتابة. ومع أن بالدوين بدأ يتلقى نوعاً من الاعتراف بموهبته من خلال قبول نصوص منه للنشر في مجلات مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر بالاختناق والغربة عن المناخ الاجتماعي المسموم في الولايات المتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت أموال زمالة أخرى حصل عليها عام 1948 بتكاليف سفره، وفيها نشر روايته الأولى «أعلِنوا مولده من فوق الجبل» (1953) ومعظم أعماله التالية. ويشعر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا الانتقال عبر الأطلسي كان جذرياً في مسار تطوره الفكريّ والأدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من المستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير.

أمضى بالدوين الأربعين عاماً التالية متنقلاً في أرجاء أوروبا؛ حيث تعرّف على أشهر مثقفيها، مع زيارات قصيرة للولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت مع عائلته الكبيرة، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية المهمة كما نشاطات حركة الحقوق المدنية، فكان شاهداً على مسيرات الحركة الشهيرة في واشنطن (1963) ومونتغمري (1965) وغيرهما. لكن الاغتيالات التي طالت أصدقاءه من القادة الأفروأميركيين السود خلال ستينات القرن العشرين المضطربة (مدغار إيفرز، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينغ الابن) أنهكته عاطفيّاً، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعياً للتعافي.

اشترى بالدوين منزلاً له في سانت بول دي فينس الخلابة على أطراف جبال الألب، وتوفي فيه يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، بعد معركة قصيرة خاسرة مع سرطان المعدة. وقد دفن تالياً في مقبرة فيرنكليف بنيويورك، وأقيم لراحة روحه قداس مهيب شاركت فيه عائلته ورموز الثقافة الأفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كومبس - في رثائه: «لأن بالدوين كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع العنصري الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عالماً عدائياً ومتعالياً».