مدخل إنساني لتجربة محمد عفيفي مطر الشعرية

شريف قنديل يوثق لها في كتاب «نزع الأقنعة»

مدخل إنساني لتجربة محمد عفيفي مطر الشعرية
TT

مدخل إنساني لتجربة محمد عفيفي مطر الشعرية

مدخل إنساني لتجربة محمد عفيفي مطر الشعرية

يتسم كتاب «نزع الأقنعة»، الصادر أخيراً عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، بأهمية خاصة؛ لأكثر من سبب؛ كونه يلقي الضوء على تجربة الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر (1935 - 2010)، الذي لم ينل ما يستحق من احتفاء، رغم أنه صاحب تجربة فارقة في تاريخ الشعرية المصرية، كما أن الكتاب يأتي باعتباره «مدخلاً إنسانياً» لتجربة مطر، بحكم صلة المصاهرة التي ربطت بينه وبين مؤلفه شريف قنديل، شقيق زوجة مطر.

ويُعد عفيفي مطر أحد أبرز شعراء الستينات في مصر، وُلد بريف محافظة المنوفية، وتخرّج في قسم الفلسفة بكلية الآداب، ونال جائزتي الدولة؛ «التشجيعية» 1989، و«التقديرية» 2006، و«سلطان العويس» 1999. ومن أبرز أعماله «فاصلة إيقاعات النمل»، و«كتاب الأرض والدم»، و«أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت»، و«أوائل زيارات الدهشة»، و«من مجمرة البدايات».

ويؤكد الشاعر جمال القصاص، في تقديمه للكتاب، أن شعرية محمد عفيفي مطر ارتبطت بالأرض ودبيب الإنسان وأشواقه وكدحه وعرقه فوق ترابها، ولا تنفصل نوازع الحكمة لديه بمشاربها الجمالية وظلالها الروحانية عن هذا الارتباط العضوي الذي يصل في كثير من قصائده إلى حالة من الامتزاج والتوحد والوجد الصوفي. وتتقطر حكمة الأرض في شعره، وتتراكم صورها في زخم فني ولغوي سيّال، أحياناً يتراص في شكل كتلة بصرية تتناثر على حوافها الرموز والعلامات والدلالات والخطوط والإشارات، بينما يتسم الإيقاع لغوياً وموسيقياً بنفَس ملحمي تتواشج فيه كل هذه العناصر في تشكيل اللحن الشعري وتنميته درامياً ليكتسب معنى السيمفونية الشعرية.

ويضيف القصاص أن مطر أحياناً يفكّك هذه الكتلة إلى مجموعة من العناصر البنائية المنفردة، ليصبح لكل عنصر إيقاعه المفرد الخاص، لكنها تنفرد وتجتمع بقوة هذه الحكمة وصلابة الأرض وامتدادها الروحي في شرايين الزمان والمكان، ومن ثم في شرايين الشعر والقصيدة والحياة، هنا يتحقق ما يمكن تسميته «جدل الكتلة والمفرد»؛ وهو جدل يتمتع بصيرورة شعرية خاصة تتبلور فلسفياً من خلال متوالية الصعود والهبوط من السفح إلى القمة.

ويشير شريف قنديل إلى أنه بحكم المصاهرة عاصر مطر شاباً متفرداً عن كل شباب القرية شكلاً وموضوعاً. ولأن مساءلة الموضوع أو الجوهر كانت عصية على الفهم في تلك المرحلة، فقد انبهر بشكله، وتحديداً بإطلاق شَعره الذي يبدو من بعيد أشعث، فإذا ما اقتربت منه وجدت خصلاته الدائرية متسقة، وقد غزاها اللون الأبيض الفضي مبكراً جداً.

وكان إذا جلس مع والد قنديل، جلس على الأرض محملقاً إلى وجه أبيه، ومستمعاً بانبساط ودهشة وفرحة سرعان ما يعبر عنها بكلمة أو بجملة أو بحركة حفّزت الأب على الاستمرار في الحكي.

في كل مرة كان مطر يعطي المؤلف درساً أو نظرية في الحياة، وحين يبدأ في الكلام تتغير نبرة صوته فيشعر بالفعل بأنه أمام حكيم، بحر من العلوم بمختلف أنواعها، ورأي ثاقب وواضح وضوح الشمس، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بقيمة من قيم الحق والعدل والحرية، صلابة في الموقف المبني على دراسة وتأمل وتسامح، فلم يكن شاعراً كبيراً وفيلسوفاً عميقاً فحسب، وإنما كان أحد حكماء العصر.

شأن كل الحكّائين الرائعين، أحب محمد عفيفي مطر التجول في الأسواق. يتذكر المؤلف جيداً يوم أن أيقظه مبكراً لاصطحابه إلى قرية شما، المجاورة؛ للحاق بسوق الاثنين؛ أكبر أسواق الماشية والخضراوات والفواكه ومستلزمات الزراعة. ومن قسم إلى آخر مضيا سريعاً لرصد أحوال وطقوس البيع والشراء، قبل أن يقرر شراء بقرة حلوب وابنها، على أن فرحته بالبقرة وابنها سرعان ما تبددت حين رأى مطر يُسلّم حبلها لقريب لهما ليربّيها له.

يقول مطر: «أحبُّ التجول في الأسواق، وأعشق الشوارع المكتظة بدكاكين الفاكهة والخضراوات والأسماك، أبهج عيني بالألوان الطازجة، وأنعش روحي بروائح ما يجلبه الباعة من كل مكان، وأمتع سمعي بنداءات الباعة ومبالغاتهم الجميلة ومنافساتهم المرحة ومشاغباتهم الأخوية الذكية».

ارتبطت شعرية محمد عفيفي مطر بالأرض ودبيب الإنسان وأشواقه وكدحه وعرقه فوق ترابه

ويصف الناقد إبراهيم فتحي، مطر بأنه «شاعر عابر للأجيال»، وهو وصف يراه الشاعر حلمي سالم محكماً ودقيقاً، فقصائد مطر تحمل ملمحاً من ملامح كل جيل؛ بدءاً من المدرسة الرومنطيقية السابقة على حركة الشعر الحر، وانتهاء بالقصيدة الجديدة، مروراً بقصيدة التفعيلة وحداثة السبعينات، إنه ضارب في كل حلبة منها بسهم، باستثناء موقفه المتحفظ من قصيدة النثر.

ووفقاً لحلمي سالم، فإن محمد عفيفي مطر تجربة عريضة عميقة متشابكة ومتراكبة؛ من شهقة الطين المغموسة بقهر القرية المصرية، إلى تصفح «كتاب الأرض والدم»؛ حيث العالم متر في مترين من جرّاء العنت والاستبداد. ومن التغلف المقنع بالفيلسوف الإغريقي أنبادوقليس، إلى «إيقاعات النمل»؛ حيث تدب ببساطة الخرافة الريفية.

ويوضح المؤلف شريف قنديل أن المتابع بدقة لمسيرة مطر الثرية يمكنه أن يضع يديه على ثلاثة ملامح كبرى رافقت تجربة «شاعر الحرث والزرع»، الملمح الأول يتمثل في سطوع الطابع الفلسفي في شعره، وقد درس مطر الفلسفة ثم درّسها طوال 20 سنة في المدارس الثانوية، ويهيمن هذا الملمح في شكل أكثر بروزاً على ديوانيْ «ملامح من الوجه الأنبادوقليسي»، و«رباعية الفرح» الذي يقوم على أربع قصائد طويلة؛ تتعلق كل واحدة منها بأصل من أصول الحياة في الفلسفة اليونانية القديمة؛ الماء والنار والهواء والتراب.

أما الملمح الثاني فهو الاستناد الشامل إلى التراث العربي، حتى ليُخيَّل إليك أن تجربة مطر هي مغامرة الغوص في التاريخ العربي القديم لتقديم إحالة أو مساءلة معاصرة، وهو ما نواجهه طوال الوقت في قصائده؛ الحسن بن الهيثم، وغيلان الدمشقي، وغيرهما.

والملمح الثالث هو النهل من ميثولوجيا القرية، وتجسيد الأمثولة الريفية، مع معالجة شعرية لطقوس الفلاحة وشعائر الحرث والغرس. وفي هذا السياق يقول مطر في قصيدة «نوبة رجوع»:

«ثقلت عليّ عباءة الدم والرماد

والريح تصفر في بوالي العظم

فالأبواب تفتح والنوافذ

بين إبهامين في الشفتين أو سبابتين

يهز كلب أو تفر دجاجة

أو تؤذن النوق العصية الحليب أو السفاد».

وهكذا ينسج من الأسطورة اليونانية والأسطورة العربية والأسطورة الريفية سبيكة أسطورته الفريدة.

بقي أن نشير إلى أن الغلاف الخلفي للكتاب يحمل صورة وكلمة على لسان زوجة الشاعر الناقدة الراحلة نفيسة قنديل، جاء فيها «عايشت قصائد محمد عفيفي مطر وعايشتني، تنطفئ وتتوهج، تحضر وتغيب، تصلني بما لم أستطع أن أسمّيه من غموض العالم واستراره. ومع ذلك قلت: ما علاقتي، أنا الناقدة المتطفلة على الشعر، بقصائد مطر التي قالت كل شيء وأحجارها بَنَت وهدمت، أشارت وأدانت، فتحت».


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).