نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث

ابتدأت ملامحه ترتسم على الأفق... والموجة الأصولية ستنحسر عاجلاً أو آجلاً

نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث
TT

نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث

نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث

تقول لنا كتب التاريخ ما فحواه: في أواسط القرن الثامن الميلادي، حصل شجار داخلي كبير أدى إلى زعزعة العالم العربي. فقد تغلَّب العباسيون على الأمويين، واستولوا على السلطة بعد أن أعملوا المجازر فيهم. كل العائلة الأموية أُبيدت عن بكرة أبيها. ولم يبقَ منهم إلا شخص واحد نجا من الموت وهرب إلى آخر الدنيا: هو عبد الرحمن الداخل، الملقب بصقر قريش. وهذا الشخص الواحد المذعور الهارب استطاع أن يؤسس إمبراطورية جديدة في الأندلس! من يصدق ذلك؟ معجزة حقيقية. على أي حال، هكذا انتقلنا من عهد السلالة الأموية التي استمرت قرناً تقريباً إلى عهد السلالة العباسية التي استمرت خمسة قرون. وقد بلغت فيها الحضارة العربية الإسلامية أوجها؛ بلغت ذروة العظمة والمجد. عندئذ انتقل مركز الإسلام والعروبة من سوريا إلى العراق، ومن دمشق إلى بغداد. وعندئذ أشرق العصر الذهبي بأنواره على العالم.

ينبغي العلم بأن الصراع بين العباسيين والأمويين دار حول مفهوم الإسلام الصحيح: أي صحيح الدين. كل طرف كان يتهم الطرف الآخر بالانحراف عنه، وعن نهج العقيدة القويمة المستقيمة، وذلك لكي يزيحه عن السلطة ويحل محله. والواقع أن العباسيين استخدموا هذا الأسلوب في الدعاية و«البروباغندا» لكي يسفِّهوا الأمويين ويشوِّهوا صورتهم. وقد نجحوا في ذلك كل النجاح. فقد أشاعوا عنهم أنهم انحرفوا عن نهج القرآن والشريعة، وأنهم منافقون، فاسدون، ماجنون، لا أثر للإيمان في قلوبهم. ونجحت الإشاعة وانتشرت في كافة الأمصار الإسلامية، الشيء الذي أدى إلى سحق الأمويين عام 750م وحلول العباسيين محلهم على رأس الإمبراطورية العربية الإسلامية. وهذا ما يدعوه المؤرخون «الثورة العباسية».

وهذا يعني أنك لا تستطيع أن تسقط أي نظام بالقوة «الخام» -إذا جاز التعبير- أو بالقوة المحضة فقط. وإنما ينبغي أن تسقط مشروعيته الإلهية أو الدينية أولاً. الآن نقول: مشروعيته الآيديولوجية أو السياسية. انظر الصراع الجاري حالياً بين التيارات الظلامية للإسلام السياسي، وبين تيار الإسلام المستنير الصاعد بكل قوة على الرغم من كل شيء. صحيح أنه لا يزال أقلية قليلة، ولكن حركة التاريخ تمشي في اتجاهه، والمستقبل له حتماً.

متى سنكف عن فهم الإسلام على أساس أنه تكفير وحرب وضرب وتفجيرات وطائفيات مشتعلة؟ متى سندرك أنه يوجد فهم آخر للإسلام: فهم حضاري وأخلاقي وروحاني عظيم. لأن «الربيع العربي» لم يدرك ذلك؛ فشل فشلاً ذريعاً. (أفتح هنا قوساً وأقول بأن سكوت معظم المثقفين العرب عن المجازر المخزية التي ارتكبها الأصوليون خلال العشرين أو الثلاثين سنة الماضية في الداخل والخارج، وكذلك اغتيال المثقفين والصحافيين في الجزائر وسواها، هو أكبر دليل على مدى تخلف الثقافة العربية؛ ليس فكرياً فقط، وإنما أخلاقياً وإنسانياً أيضاً. ولهذا السبب لا توجد لنا أي مصداقية ولا أي احترام على المستوى العالمي).

كنوز التراث أو ذخائر العرب

بين عامي 750 و1100م، كان جميع العلماء إما عرباً، وإما فُرساً، وإما أتراكاً من آسيا الوسطى، وإما بربراً أمازيغيين في الأندلس وشمال أفريقيا، وإما يهوداً، أو مسيحيين، أو مسلمين بطبيعة الحال. ولكن كانت هناك خاصية مشتركة تجمع بينهم جميعاً، ألا وهي: أنهم كلهم كانوا يفكرون ويكتبون باللغة العربية. صحيح أنهم كانوا يتحدثون بلغتهم الأم عندما يعودون إلى بيوتهم وعائلاتهم وأطفالهم، ولكن لغة العلم والفلسفة والمناقشات الفكرية الكبرى المحتدمة كانت تتم باللغة العربية. ولهذا السبب جرى استخدام تعبير «الحضارة العربية» وتفضيله على تعبير «الحضارة الإسلامية». لماذا؟ لأن كثيراً من العلماء آنذاك ما كانوا مسلمين؛ بل إن معظم المترجمين الكبار كانوا عرباً مسيحيين. ولكن كانوا كلهم يتقنون العربية ويؤلفون كتبهم الأساسية بها.

كانت اللغة العربية آنذاك لغة الحضارة العالمية. لهذا السبب نقول بأن مستقبل اللغة العربية أمامها لا خلفها، ولكن بشرط واحد: ألا وهو تبسيط قواعدها ونحوها وصرفها وصياغاتها التعبيرية. ثم بشرط تخلي المثقفين العرب عن ظاهرة التفاصح والتقعر. كنا ننتظر منهم تطوير اللغة العربية وتسهيلها، فإذا بهم يعقِّدونها أكثر فأكثر بنوع من الشطارة البهلوانية المزعجة والمقلقة فعلاً. ثم بشرط نقل كل العلوم والفلسفات الحديثة إليها. ثم بشرط اشتقاق آلاف المصطلحات الجديدة المقابلة للمصطلحات الإنجليزية والفرنسية، بغية مواكبة روح العلم والعصر واستدراك ما فات. كل يوم ينبغي أن نبتكر مصطلحاً جديداً في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية أيضاً. ثم بشرط حرية الإبداع والابتكار. ثم بشرط نقد الأصولية الظلامية وتفكيكها من جذورها، من أساسات أساساتها. وهذا هو الشرط الأساسي لتدشين حركة التنوير العربي القادم. على هذا النحو يمكن أن يعود العصر الذهبي مرة أخرى.

هذا وقد أبدع علماء الإسلام في كافة المجالات بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد (بين قوسين: أخشى ما أخشاه أن يصحح لي أحدهم تعبير «في كافة المجالات» فيصبح «في المجالات كافة»! يكاد يجن جنوني. هذا هو التقعر والتفاصح اللغوي بعينه. هذا التقعر المتفاصح سوف يلجم اللغة العربية، ويمنعها من التطور والانطلاق، وربما قتلها أو خنقها في نهاية المطاف. ومن الحب ما قتل. ومن الحب ما خنق. وهذه المعركة الكبرى كانت هي أيضاً معركة جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وبقية الرواد النهضويين. متى ستقترب اللغة العربية من لغة الحياة؟ هذا هو السؤال. متى سنردم الفجوة الحاصلة، والهائلة، بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية؛ بدلاً من أن نوسعها ونفاقمها ونصبح أضحوكة للأمم والشعوب؟).

حركة «الإخوان المسلمين» التي تأسست عام 1928 هي التي قصمت ظهر النهضة العربية التي كانت صاعدة بقوة من خلال التفاعل مع أفضل ما أعطته أوروبا

انتصار عصر الانحطاط

نعود إلى صلب الموضوع، ونقول: ولكن هذا العصر الذهبي كان قصيراً مع الأسف الشديد؛ لأنه لم يستمر أكثر من ثلاثة أو أربعة قرون في بغداد العباسية أولاً، ثم في قرطبة الأموية ثانياً. بعدئذ ابتدأ عصر الانحطاط الطويل الذي لم نقم منه إلا بعد سقوط السلطنة العثمانية عام 1918. وهي السلطنة التي هيمنت على مقدرات العالم العربي من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين. وفي تلك القرون الظلامية الأربعة لم يواكب المسلمون الحركة العلمية والفلسفية إطلاقاً؛ بل ولم يسمعوا بها. بل كانوا يغطون في نوم عميق عندما كانت أوروبا تنهض وتصنع العلوم والحضارات والمعجزات. وهكذا انعكست الآية؛ في تلك القرون الأربعة ظهر كل علماء وفلاسفة أوروبا الكبار، من أمثال: كوبرنيكوس، وغاليليو، وديكارت، ونيوتن، وكانط، وهيغل، وعشرات آخرين؛ ولكن هل سمع بهم قادة السلطنة العثمانية وشيوخها الكبار؟ أبداً، لا. لم يسمعوا بهم، ولم يترجموا لهم كتاباً واحداً، ما عدا كتاباً واحداً في الطب؛ لأن السلطان كان مصاباً بمرض جنسي. وهذا يعني أن عصر الانحطاط استمر مدة ستة أو سبعة قرون؛ أي منذ القرن الثاني عشر، تاريخ سحق المعتزلة والفلاسفة وانطفاء أنوار قرطبة بعد أنوار بغداد، وحتى القرن التاسع عشر، تاريخ انطلاقة النهضة العربية في مصر وبلاد الشام، على يد: محمد علي، والطهطاوي، وبطرس البستاني، ويعقوب صروف، وشبلي شميل، والأفغاني، والكواكبي، وعشرات النهضويين الآخرين.

أخيراً، هكذا نلاحظ أن عصر الانحطاط والظلام هو الأكثر استمرارية ورسوخاً في تاريخنا. من هنا صعوبة الاستيقاظ والنهوض. كلما حاولنا النهوض انتكسنا وعدنا إلى الوراء. هناك قوى هائلة تشدنا دائماً إلى الخلف. من هنا صعوبة التخلص من الحركات الظلامية التي تهيمن علينا الآن. فالعصر الذهبي الأول لم يستمر أكثر من بضعة قرون في بغداد وقرطبة. والعصر الذهبي الثاني لم يستمر أكثر من قرن ونصف قرن: وأعني به عصر النهضة في القرن التاسع عشر وحتى عام 1970. بعدئذ صعدت الموجة الأصولية بقوة وعنفوان هائل، وتسلَّمت زمام الأمور منذ خمسين سنة وحتى الآن؛ بل وحتى قبل ذلك. يمكن القول بأن حركة «الإخوان المسلمين» التي تأسست عام 1928 هي التي قصمت ظلنهضة العربية التي كانت صاعدة بقوة من خلال التفاعل مع أفضل ما أعطته أوروبا. وهي التي أرعبت العلماء والمثقفين في شتى الأقطار. انظر محاولة اغتيال عباس محمود العقاد الفاشلة لحسن الحظ.

والآن، نحن نقف على مشارف العصر الذهبي الثالث: أي عصر التنوير العربي الذي ابتدأت ملامحه ترتسم على الأفق. فهذه الموجة الأصولية سوف تنحسر عاجلاً أو آجلاً، وسوف يحل الإسلام المستنير محل الفكر الإسلامي الظلامي المهيمن علينا حالياً. ولكن ذلك لن يتم قبل أن تحصل معركة كسر عظم مع الأصوليات السوداء المزمجرة. لن يتم قبل أن ننخرط في معركة فكرية شرسة جداً مع ذاتنا التراثية العميقة. وهي معركة ظل المثقفون العرب يتحاشونها خوفاً من الاشتباك معها. ولكن في نهاية المطاف لا بد مما ليس منه بد.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.