دانييل بارنبويم: قادة إسرائيل بددوا الرأسمال الأخلاقي للشعب اليهودي

فلسطين وإدوارد سعيد في مرآة الموسيقار الإسرائيلي

إدوارد سعيد ودانييل بارنبويم
إدوارد سعيد ودانييل بارنبويم
TT

دانييل بارنبويم: قادة إسرائيل بددوا الرأسمال الأخلاقي للشعب اليهودي

إدوارد سعيد ودانييل بارنبويم
إدوارد سعيد ودانييل بارنبويم

دعونا بداية نطرح السؤال التالي؛ كيف يمكن تفسير الصداقة الحميمة التي نشأت بين إدوارد سعيد المثقف الفلسطيني الأصل، والموسيقار الإسرائيلي المشهور عالمياً دانييل بارنبويم. يبدو أنهما تعرف أحدهما بالآخر لأول مرة في أحد فنادق لندن في بداية التسعينات من القرن المنصرم. وكان إدوارد سعيد هو الذي خطا الخطوة الأولى باتجاهه، وعندما اقترب منه قال له الإسرائيلي؛ إني أعرف من أنت! وهكذا ابتدأت علاقة طويلة لم تنتهِ إلا بموت إدوارد سعيد عام 2003. فقد شارك معه المفكر الفلسطيني الكبير في حفلات موسيقية ضخمة في شتى أنحاء العالم، ومنها حفلة «هنا في المغرب» على خشبة مسرح محمد الخامس في الرباط العاصمة. بل نال كلاهما من يد ملك إسبانيا جائزة كبيرة تقديراً لجهودهما من أجل تحقيق السلام والوفاق في منطقة الشرق الأوسط. فمن هو هذا الموسيقار الشهير يا ترى؟ لقد ولد في الأرجنتين عام 1942 في عائلة موسيقية يهودية ذات أصل روسي. ثم هاجرت العائلة إلى إسرائيل لاحقاً. وبعدئذ ترفع دانييل بارنبويم في المناصب حتى أصبح مديراً لدار الأوبرا في برلين وميلانو أيضاً. وبالتالي فالرجل شخصية عالمية مرموقة ويتخذ مواقف معتدلة وعقلانية من قصة الصراع العربي - الإسرائيلي، فقد عرف هو أيضاً معنى العنصرية، ولا يريد بالتالي أن تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني. فعندما كان في مدينة ميامي بأميركا في إحدى المرات عام 1957 وجد نادياً مكتوبة عليه العبارة التالية؛ ممنوع الدخول على اليهود والسود والكلاب! ولو كان هناك عرب آنذاك في تلك المنطقة لأضافوهم حتماً إلى القائمة. لقد فكر قائد الأوركسترا هذا كثيراً بمشكلات الهوية والتعايش بين اليهود والعرب والجسور التي يمكن إنشاؤها بين الطرفين، على الرغم من كل الأحقاد التاريخية المتراكمة، وخاصة بعد تشكيل دولة إسرائيل عام 1948. ويبدو أن انخراطه السياسي لصالح السلام ابتدأ عندما سمع العبارة الشهيرة لغولدا مائير؛ الفلسطينيون غير موجودين، غير موجودين. لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني! لقد أزعجت هذه العبارة شخصاً ذا نزعة إنسانية ويتفهم عذاب الآخر مثل صديق إدوارد سعيد المقبل. وراح دانييل بارنبويم يتجه نحو الفلسطينيين ويقول ما معناه؛ ينبغي أن نعترف بأن تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 تم على حساب الآخرين وطردهم من ديارهم وسبّب لهم نكبة حقيقية. ولكنه في ذات الوقت كان يعدّ هذا التأسيس بمثابة ضرورة من ضرورات العدالة الكونية.

وبناء على ذلك، راح ينتقد السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني. والأهم من كل ذلك هو أنه ركّز على البعد الأخلاقي للمشكلة. ففي رأيه أن الشعب اليهودي الذي عانى كثيراً على مدار التاريخ واضطهد كثيراً من كل الجهات كان يمتلك رصيداً أخلاقياً كبيراً قبل تأسيس دولة إسرائيل أو قل بالأحرى قبل أن تنتهج إسرائيل هذه السياسات القمعية الرهيبة ضد الفلسطينيين. وبالتالي فقد خسر الشعب اليهودي رصيده الأخلاقي الكبير بعد أن تحول من مقموع إلى قامع، ومن ضحية الى جلاد. ويمكن أن نضيف؛ الآن بعد فاجعة غزة أصبحت خسارته الأخلاقية أكثر فداحة. وهذا ما يحزّ في نفس صديق إدوارد سعيد، ومعه الحق. فطرح الأمور من هذه الزاوية موفق جداً وصحيح 100 في المائة. وأصلاً إذا لم تطرح قضية فلسطين من هذه الزاوية فإنها لا تكون قد طرحت أبداً. مسألة فلسطين هي مسألة أخلاقية بالدرجة الأولى قبل أن تكون مسألة سياسية. إنها مسألة حق وحقيقة وعدالة كونية قبل أن تكون مسألة أرض أو بشر أو شجر أو حجر.

ثم يذكرنا دانييل بارنبويم بقصة مؤسس الفكرة الصهيونية هرتزل عندما أرسل حاخامين يهوديين من فيينا إلى فلسطين لاستكشاف الأوضاع فيها ومعرفة ما إذا كان تأسيس دولة يهودية هناك أمراً ممكناً أم لا. فعادا وقالا له؛ العروس حلوة، يا أستاذ، ولكنها مأخوذة! بمعنى أن هناك شعباً في فلسطين والبلاد مليئة بأهلها. وعن إنكار هذه الحقيقة الجوهرية نتجت الكارثة التي لا تزال تتوالى فصولاً حتى الآن.

ولذا فإن المتطرفين في إسرائيل يهاجمون صديق إدوارد سعيد، لأنه ينتقد بشدة الاحتلال والقمع الإسرائيلي لسكان المناطق المحتلة، ويعتبرونه مضاداً لإسرائيل ومصالحها. لكنه يرد عليهم قائلاً؛ شارون هو المضاد لإسرائيل، وليس أنا. الاحتلال هو المضاد للأخلاقية اليهودية العريقة، وليس أنا. لقد بدّد قادة إسرائيل الرأسمال الأخلاقي الكبير للشعب اليهودي، وهذا ما لن أغفره لهم ما حييت. فنحن أصبحنا الآن قامعين ومحتلين، مثلنا مثل غيرنا. ولا يحق لنا بعد اليوم أن نتحدث عن مآسينا واضطهادنا من قبل الآخرين على مدار التاريخ. لا يحق لنا أن نعطي دروساً في الأخلاق لأحد. لقد خسرنا أعزّ ما لدينا بعد عام 1967، بعد أن احتللنا أراضي الآخرين، وأهنّا كرامتهم في عقر دارهم. وبالتالي، ينبغي أن ينتهي الاحتلال إذا ما أراد الشعب اليهودي أن يسترجع بعضاً من رصيده الأخلاقي المهدور. ثم يضيف هذا المفكر والموسيقار الشهير قائلاً؛ نحن الذين كنا أقلية مضطهدة على مدار ألفي سنة أصبحنا نحتقر ونضطهد الآخرين!

دانييل بارنبويم يعدّ إدوارد سعيد أكبر مفكر نهضوي وإنساني عربي في هذا العصر

والواقع أن المثقفين اليهود منقسمون الآن إلى قسمين؛ قسم عاد إلى عصبيته اليهودية وأمجاده التاريخية في فلسطين قبل ألفي عام، وقسم يرفض ذلك بشدة. ومن بينهم هذا الموسيقار، بالإضافة إلى الفيلسوف إدغار موران وبعض الآخرين. فالموسيقار الشهير بارنبويم يحذر اليهود من نزعة الانكفاء على الذات، ويدعوهم إلى تبني القيم التنويرية الكونية التي طالما حلم بها سبينوزا وماركس وفرويد وأينشتاين وكبار فلاسفة اليهود. نقول ذلك ونحن نعلم أن عباقرة اليهود ساهموا كثيراً في تشييد الحضارة البشرية. فالانكفاء على الذات يعني العودة إلى غيتو فارصوفيا؛ أي الموت والانقراض. ولكن نزعة الخوف من الآخر تظل تلاحق اليهود بسبب تاريخهم المأساوي والفجائعي الطويل. ولهذا السبب، فإن على المثقفين العرب مهمة طمأنتهم والسير باتجاههم خطوة واحدة على الأقل، كما فعل إدوارد سعيد يوماً ما مع دانييل بارنبويم. وكان أن نشأت صداقة كبيرة نادرة المثال.

والآن نطرح هذا السؤال؛ كيف يقيّم الموسيقار الإسرائيلي صديقه الفلسطيني إدوارد سعيد؟ أولاً ينبغي الاعتراف بأنه لا يزال يبكيه حتى الآن، ويرى فيه مفكراً وإنساناً كبيراً لا يعوض. يقول عنه مثلاً ما يلي؛ كان أكبر مفكر نهضوي وإنساني عربي في هذا العصر. وكان يعرف كيف يقيم الجسور والعلاقات بين مختلف الاختصاصات والعلوم على طريقة فلاسفة النهضة الأوروبية. لم يكن ينغلق داخل اختصاص واحد، كما يفعل بعض الباحثين الأكاديميين أو معظمهم. وكان يزعج الإسرائيليين والعرب على حد سواء. كان يزعج الإسرائيليين لأنه يذكرهم بضحاياهم؛ أي الفلسطينيين. وكان يعيب عليهم عدم تعاطفهم مع كارثتهم أو نكبتهم، حتى عدم الاعتراف بها! وكان يزعج العرب أو بعض العرب القومجيين الأصوليين، لأنه كان يعرف العالم اليهودي عن كثب ومن الداخل بشكل نادر. وكان يستشعر فعلاً آلام اليهود على مدار التاريخ.

وعظمة إدوارد سعيد الأخلاقية والإنسانية ناتجة عن كونه المثقف العربي الوحيد الذي كان يستطيع أن يرى المشكلة العربية - اليهودية، أو الفلسطينية - الإسرائيلية من مختلف أبعادها وجوانبها. بهذا المعنى، إننا نفتقد إدوارد سعيد الآن بكل حرقة ولوعة. إن غيابه المبكر (67 سنة فقط!) خسارة كبيرة للعرب واليهود، للفلسطينيين والإسرائيليين ذوي النزعة الإنسانية. لم يعد عندنا مثقفون من هذا الحجم لكي يساعدونا على حلّ هذا المشكل العويص. لم يعد هناك مثقف ذو شهرة عالمية كإدوارد سعيد يستطيع أن يفرض نفسه على الجميع. ويمكن أن نضيف ما يلي؛ كان آخر نص نشره إدوارد سعيد، قبل أن يرحل، بعنوان «النزعة الإنسانية كآخر متراس لنا ضد البربرية والوحشية». والنزعة الإنسانية هنا تعني الفلسفة التنويرية التي دشنها كانط وجان جاك روسو وفولتير وغيرهم من عباقرة الغرب. كما تعني فلسفة عباقرة العرب والمسلمين من أمثال ابن سينا والفارابي والبيروني والمعري حتى ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وطه حسين ونجيب محفوظ ومحمد أركون وسواهم من الأعلام. إنها تعني الفلسفة التنويرية التي تنطبق على جميع شعوب الأرض وعلى الإنسان في أي مكان كان بغضّ النظر عن أصله وفصله وعرقه ودينه ومذهبه. فالنزعة الإنسانية (أي هيومانيزم في اللغات الأوروبية) تعني النزعة الروحانية والأخلاقية والعلمانية والحضارية المضادة للبربرية والهمجية والوحشية، أي المضادة لكل ما يحصل الآن في غزة. إنها تعني النزعة التي تجمع بيننا كبني آدم، كبني البشر، كبني الإنسان، فيما وراء كل اختلافاتنا العرقية والدينية والمذهبية. إنها فعلاً نزعة كونية تشمل الجميع وتتسع أحضانها للجميع. هذه هي النزعة الإنسانية والفلسفة التنويرية. وهذا ما قصده إدوارد سعيد في نصّه الذي خلّفه لنا كوصية نهائية قبل أن يغادر هذا العالم.


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».