«عمتي الرومانتيكية»... النساء والحب في البلاد الخاسرة

نجم والي يجمع «أخبار» العمة وكناياتها العجيبة

«عمتي الرومانتيكية»... النساء والحب في البلاد الخاسرة
TT

«عمتي الرومانتيكية»... النساء والحب في البلاد الخاسرة

«عمتي الرومانتيكية»... النساء والحب في البلاد الخاسرة

يستعيد نجم والي في روايته الأخيرة عمتي الرومانتيكية وصديقاتها ورجالها... وأنا «روايات: الشارقة، 2024»، أجواء ثمانينات العراق الدامية الممتدة لحقبة التسعينات الكئيبة. إنها أزمنة الديكتاتور بأسوأ حالاتها وأقنعتها المختلفة من حرب وحصار وذاكرة متورمة. وهي الأزمنة الأكثر تمثلاً لإشكالية السرد في مدونة والي كلها؛ فهي، عنده، ميدان الذاكرة الأصيل وصندوقها الأسود بشخوصها وحكاياتها ورواتها المتماثلين إلى حد كبير؛ إذ نادراً ما نجد السرد يفارق زمنه الأثير، سوى أنه يتخذ صياغات متعدِّدة تختلف عن بعض باختلاف الحكايات وعوالمها السردية. في العمة الرومانتيكية، هذه المرة، نستعيد ميراث الخاسر كل شيء: الخاسر الصديقات، الرجال، الزهور وأزمنتها الزاهية، الحب، الذاكرة برمتها. إنه حال العمة الرومانتيكية الخاسرة الأبدية والممثلة الأصلح، ربما، لصيغة الفقدان والخسارة الكلية؛ وهل هناك خسارة وفقدان أكثر من الحرمان من الاسم ذاته والاكتفاء بصفة «العمة»؛ عمة الراوي ذي الاسم القناع «صبري: أمين صندوق البصرة؛ كما غنت يوماً صديقة الملاية، أو حافظ أسرار (أخبار) العمة كما تريد الرواية أن تقنعنا» كناية عن حفظ الأسرار غير المباحة، مما لا يمكن الجهر بها في عراق الثمانينات شأن اسم الحي البغدادي الذي سكنه الراوي وعائلته جوار عمته الرومانتيكية. لا ذكر للاسم، إذن، في حالتي العمة والراوي، في مقابل بذخ في ذِكر الوقائع والأسماء، وهذه إحدى الكنايات الكبرى في قصة العمة.

كنايات العمة الخاسرة

أربع كنايات رئيسية استخدمها الراوي بصفتها مداخل لا غنى عنها في كتابة قصة العمة، وهي أقسام الرواية الأربعة: «في خبر رجالها» و«في خبر صديقاتها» و«في خبر زهور عمتي» و«في خبر الحب وتبعاته». تنشغل الكنايات الثلاث الأولى بقصة العمة وحدها، في حين يشترك الراوي مع العمة في القسم الرابع. وهذه أحد مقاصد العنوان الفرعي للرواية «وصديقاتها ورجالها وأنا»، سوى أن كنايات الرواية الأربع، لنقل أقسامها، لا تلتزم بتراتبية العنوان الفرعي المقترحة؛ فنص الرواية يبدأ بـ«خبر رجالها»، ثم «خبر صديقاتها»، ثم «خبر زهورها»، ثم «خبر الحب» الخاص بالراوي. ماذا تريد أن تقول لنا الرواية باصطناع هذا الاختلاف؟ أزعم أن الإجابة كامنة في نظام الكناية ذاته، أقصد في تحويل الخبر كناية. نتحدث، هنا، عن الأخبار الأربعة التي تشكَّلت منها قصة العمة. وفي اختيار صيغة «الخبر» ما يُفيد معنى الجهر بما جرى إخفاؤه أو تغييبه. وهي تقنية جديدة تضاف إلى مدونة «والي» السردية، وتقوم على تحويل نظام الخبر إلى كناية سردية تتضافر مع كنايات أخرى لتؤلف خطاباً كنائياً مفارقاً في الرواية، يعمل على دمج الأخبار الأربعة مع بعض. لنتأمل المقاصد المتوخاة من تحويل وظيفة الخبر نحو النظام الكنائي. يظهر القصد الأول، والأهم ربما، في ربط الخطاب الكنائي السردي ببنية الإخفاء، وهذه الأخيرة إحدى نتائج سردية القاتل المتخفية في الرواية. نتحدث، هنا، استعارات تقنية وثيمية كثيرة أخذتها الرواية من نظام الرواية البوليسية، وإن شئنا الدقة أكثر فإن الكلام هنا عن إعادة تكييف لبنية هذه الرواية بما ينسجم مع مقولات قصة القاتل، وفي مقدمتها بنية الإخفاء: إخفاء اسمي العمة والراوي والحي السكني، بل إخفاء البشر بسجنهم مثلاً، أو حتى تغييب ذاكرتهم كما حصل مع العمة عندما فقدت ذاكرتها.

لكن مقولة «الرومانتيكية» تعيد توجيه الإخفاء بما يحقق التوازن المطلوب بين الاقتصاد السردي ونقيضه الإسراف. أفكّر، هنا، بمقدار الإسراف الموجود في الرواية «لماذا لا أقول الراوي!»، الإسراف بذكر الوقائع السردية غير الضرورية، ربما. هل للأمر صلة بسردية العمة وكناياتها؟ وقد يكون الأحرى أن نسأل عن معنى الرومانتيكية في أزمنة الحرب والموت وتغييب البشر؟

في المهاد الحكائي للرواية المعنون بـ«في خبرها» يتكتم الراوي على الدلالة الكلية لمقولة «الرومانتيكية»، فلا ذكر ولا احتفاء سوى بمهمة الراوي الخاصة بكتابة قصة العمة. لكننا نقرأ في المهاد ذاته تلميحاته عن «صندوق» حكايات العمة، ونعثر على إشارات مفيدة تخص معاني الرومانتيكية المتخيلة. وهي محض إشارات عامة غير دالة، في مقدمتها جُمل الافتتاحية الخاصة بمعنى الرومانتيكية؛ فالدلالات الحقة لصفة العمة تأتينا عن طريق كنايات النص السردية كلها ومدخلها أيضاً. أفكر بوظائف النظام الكنائي في الأخبار الأربعة. أتحدث عن الرابط الجامع بينها، وهي عندي الدلالة الكلية لمقولة «الرومانتيكية»؛ فذكر الرجال المحبين، رجال العمة، لا سيّما «آدم» المتوج الأخير لخسارتها الفادحة، بعد أن تخلى عن حبها وشقَّ لنفسه حياة مختلفة في باريس، ثم في ذِكر الرجال السابقين بما أضافوه من دلالات لرومانتيكية العمة، فإبراهيم كان سبباً في اغتصابها من قِبل خال إبراهيم، العقيد في الجيش، وممثل القاتل في حياة العمة، وسمعان أو إسماعيل الفنان المنتحر، ثم آدم الذي زرع في نفس العمة الرغبة الأصيلة في الفرار من زمن القاتل والهجرة من بلاد الحروب اللانهائية إلى بلاد أخرى نجهلها كلياً.

هؤلاء برعوا في تأبيد الصفة المهيمنة في الرومانتيكية وهي معنى المأساة؛ فأن تكون رومانتيكياً في بلد القاتل فهذا لا يعني سوى أن تكون ذا مصير مأساوي. ولا تبلغ المأساة سرديتها القصوى من دون تحقُّق المصائر التعيسة لرفيقات العمة في السجن والعمل والحياة؛ ألا تقول العمة نفسها للراوي: «قل لي من هو صديقك، أقل لك من أنت!؛ فكيف إذا كانت الصديقة، أو الصديقات، ممن يصفهن الراوي بـ«العجيبات». وهن كذلك في حياتهن ومصائرهن التعيسة، لا سيّما رفيقات السجن وصديقات الحياة لاحقاً.

تختلف كنايات الصديقات، أو أخبارهن كما يجادل الراوي، بتباين وظائف كلٍّ منهن؛ لنأخذ «فاتن» مثلاً لصديقات الجامعة، ما قبل السجن، فرقاً عن منار، السجينة الطارئة، ثم صديقة العمة وحبيبة الراوي. حالة فاتن تظل جزءاً من تفاصيل الحكاية الأصلية، حكاية العمة قبل منعطف السجن، فهي مادة سردية تضاف، وقد لا تضاف، إلى متن الحكاية، وهي موجودة في الحالتين. وهذا الوصف يختلف عن حالة منار؛ إذ تؤلف «سردية» مختلفة وحالة جديدة تولِّد تحوِّلاً كبيراً في مسار السرد برمته، وقد نبالغ فنقول إن حكاية العمة، ومن خلفها حكاية الراوي أيضاً، كادت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة لولا منعطف السجن، فكانت حالة منار إضافة حقيقية إلى النص كله؛ فقد أسهمت بمدِّ السرد بمواد حكاية جديدة، وهي ذاتها من منحت الراوي قيمة كبرى بوصفه شخصية سردية أو فاعلا رئيسا في النص وليس محض راوٍ. والنتيجة أن منار كانت سببا في القسم الثالث «في خبر زهور عمتي» والرابع «في خبر الحب وتبعاته»؛ إذ لولا سردية منار ما كان للسرد أن يتقدَّم خطوة واحدة للأمام، ولظل النص يعاني من التضخم الحكائي غير المجدي.

ثمة تأكيدات كثيرة تصدر عن الراوي نفسه تقول لنا إنه مكلَّف من العمة سرد قصتها... لكن النص وكناياته يقولان لنا إنها قصة الراوي أيضاً

حكاية العمة أم حكاية الراوي؟

ثمة تأكيدات كثيرة تصدر عن الراوي نفسه، تقول لنا إنه مكلَّف، من العمة، حتماً، سرد قصتها. عنوان الرواية نفسه «عمتي الرومانتيكية»، يقول لنا، ابتداءً، هذا الأمر: إنها قصة العمة فقط، لكن النص وكناياته يقولان لنا إنها قصة الراوي أيضاً. سردية الراوي شاهد حي، ليس على موثوقيته المؤكدة من قِبل العمة فقط، إنما هي دليل إضافي على فاعلية النظام الكنائي المساهم بتدعيم الحكاية الأصل، حكاية العمة، وعلى توريط الراوي بسرد حكاية لم يكن شاهداً حقيقياً على أغلب تفاصيلها؛ بحكم سنه الصغيرة؛ فهو ابن السنوات الأربع عندما تحوَّلت العائلتان إلى الحي البغدادي، ولا دليل على صحة مروياته السردية من حكايات عمته. هو صندوق حكايات العمة، وهو صبري أمين البصرة كما يصر على هذا الاسم؛ حتى غلب على الاسم الحقيقي غير المذكور. وهو وريث صندوق العمة الأسود، وإن شئت الدقة قل إنه وريث ذاكرتها بعد فقدانها الذاكرة وضياعها في متاهة ما في بغداد. يمكننا أن نضيف توصيفات أخرى تصف هذا الراوي، وهذه كلها لا تحقِّق للراوي الموثوقية المطلوبة، كما نعتقد، في سرد وقائع حكاية العمة. هل نريد القول إن «لحظة» ما بعد السجن وظهور منار ثم زواجه منها هو التسويغ الحكائي المفترض لتحقيق بعض الموثوقية؟ ربما؛ فحالة ما بعد السجن هي «انقلاب» سردي كامل على صُعد النص كلها، ومنها التحوِّل التدرجي للحكاية ذاتها من الصيغة الفردية المطلقة، التي لا يشغل فيها الراوي سوى وظيفة السرد وإدارته، إلى الصيغة الحكائي المشتركة بين العمة والراوي، حتى كأننا نشهد تنازعا بينهما على من يكون موضوع الحكاية الأصلي، لا سيّما في القسم الرابع والأخير «في خبر الحب وتبعاته»، الذي نشهد فيه تراجع حضور العمة مقابل تنامي حكاية الراوي الشخصية.

«عمتي الرومانتيكية» الرواية الثالثة في سياق روايات تعطي البطولة المطلقة للنساء؛ فقد سبق لوالي أن أصدر «إثم سارة: 2018»، و«سعاد والعسكر: 2021»، والآن «عمتي الرومانتيكية». وأغلب الظن نحن إزاء متتالية روائية سردية موضوعها حكايات النساء في أماكن عربية مختلفة: «الرياض، والقاهرة، وبغداد». وفي الرواية الأخيرة يبرع «نجم والي» كثيراً في انتشال الحكاية النسوية من براثن «السياسة»؛ دافعاً الأخيرة إلى الوراء لتكون محض ديكور ذي وظيفة تفسيرية. نحن، هنا، أمام حكاية امرأة تنفتح على حكايات النساء الأخريات من جارات السكن في الحي البغدادي أو صديقات أو سجينات. إنه عالم العمة النسوي المستقل بنفسه. عالم يحتفي بسردية المرأة وحكاياتها، وينتصر لذاكرتها المفقودة.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.