«عمتي الرومانتيكية»... النساء والحب في البلاد الخاسرة

نجم والي يجمع «أخبار» العمة وكناياتها العجيبة

«عمتي الرومانتيكية»... النساء والحب في البلاد الخاسرة
TT

«عمتي الرومانتيكية»... النساء والحب في البلاد الخاسرة

«عمتي الرومانتيكية»... النساء والحب في البلاد الخاسرة

يستعيد نجم والي في روايته الأخيرة عمتي الرومانتيكية وصديقاتها ورجالها... وأنا «روايات: الشارقة، 2024»، أجواء ثمانينات العراق الدامية الممتدة لحقبة التسعينات الكئيبة. إنها أزمنة الديكتاتور بأسوأ حالاتها وأقنعتها المختلفة من حرب وحصار وذاكرة متورمة. وهي الأزمنة الأكثر تمثلاً لإشكالية السرد في مدونة والي كلها؛ فهي، عنده، ميدان الذاكرة الأصيل وصندوقها الأسود بشخوصها وحكاياتها ورواتها المتماثلين إلى حد كبير؛ إذ نادراً ما نجد السرد يفارق زمنه الأثير، سوى أنه يتخذ صياغات متعدِّدة تختلف عن بعض باختلاف الحكايات وعوالمها السردية. في العمة الرومانتيكية، هذه المرة، نستعيد ميراث الخاسر كل شيء: الخاسر الصديقات، الرجال، الزهور وأزمنتها الزاهية، الحب، الذاكرة برمتها. إنه حال العمة الرومانتيكية الخاسرة الأبدية والممثلة الأصلح، ربما، لصيغة الفقدان والخسارة الكلية؛ وهل هناك خسارة وفقدان أكثر من الحرمان من الاسم ذاته والاكتفاء بصفة «العمة»؛ عمة الراوي ذي الاسم القناع «صبري: أمين صندوق البصرة؛ كما غنت يوماً صديقة الملاية، أو حافظ أسرار (أخبار) العمة كما تريد الرواية أن تقنعنا» كناية عن حفظ الأسرار غير المباحة، مما لا يمكن الجهر بها في عراق الثمانينات شأن اسم الحي البغدادي الذي سكنه الراوي وعائلته جوار عمته الرومانتيكية. لا ذكر للاسم، إذن، في حالتي العمة والراوي، في مقابل بذخ في ذِكر الوقائع والأسماء، وهذه إحدى الكنايات الكبرى في قصة العمة.

كنايات العمة الخاسرة

أربع كنايات رئيسية استخدمها الراوي بصفتها مداخل لا غنى عنها في كتابة قصة العمة، وهي أقسام الرواية الأربعة: «في خبر رجالها» و«في خبر صديقاتها» و«في خبر زهور عمتي» و«في خبر الحب وتبعاته». تنشغل الكنايات الثلاث الأولى بقصة العمة وحدها، في حين يشترك الراوي مع العمة في القسم الرابع. وهذه أحد مقاصد العنوان الفرعي للرواية «وصديقاتها ورجالها وأنا»، سوى أن كنايات الرواية الأربع، لنقل أقسامها، لا تلتزم بتراتبية العنوان الفرعي المقترحة؛ فنص الرواية يبدأ بـ«خبر رجالها»، ثم «خبر صديقاتها»، ثم «خبر زهورها»، ثم «خبر الحب» الخاص بالراوي. ماذا تريد أن تقول لنا الرواية باصطناع هذا الاختلاف؟ أزعم أن الإجابة كامنة في نظام الكناية ذاته، أقصد في تحويل الخبر كناية. نتحدث، هنا، عن الأخبار الأربعة التي تشكَّلت منها قصة العمة. وفي اختيار صيغة «الخبر» ما يُفيد معنى الجهر بما جرى إخفاؤه أو تغييبه. وهي تقنية جديدة تضاف إلى مدونة «والي» السردية، وتقوم على تحويل نظام الخبر إلى كناية سردية تتضافر مع كنايات أخرى لتؤلف خطاباً كنائياً مفارقاً في الرواية، يعمل على دمج الأخبار الأربعة مع بعض. لنتأمل المقاصد المتوخاة من تحويل وظيفة الخبر نحو النظام الكنائي. يظهر القصد الأول، والأهم ربما، في ربط الخطاب الكنائي السردي ببنية الإخفاء، وهذه الأخيرة إحدى نتائج سردية القاتل المتخفية في الرواية. نتحدث، هنا، استعارات تقنية وثيمية كثيرة أخذتها الرواية من نظام الرواية البوليسية، وإن شئنا الدقة أكثر فإن الكلام هنا عن إعادة تكييف لبنية هذه الرواية بما ينسجم مع مقولات قصة القاتل، وفي مقدمتها بنية الإخفاء: إخفاء اسمي العمة والراوي والحي السكني، بل إخفاء البشر بسجنهم مثلاً، أو حتى تغييب ذاكرتهم كما حصل مع العمة عندما فقدت ذاكرتها.

لكن مقولة «الرومانتيكية» تعيد توجيه الإخفاء بما يحقق التوازن المطلوب بين الاقتصاد السردي ونقيضه الإسراف. أفكّر، هنا، بمقدار الإسراف الموجود في الرواية «لماذا لا أقول الراوي!»، الإسراف بذكر الوقائع السردية غير الضرورية، ربما. هل للأمر صلة بسردية العمة وكناياتها؟ وقد يكون الأحرى أن نسأل عن معنى الرومانتيكية في أزمنة الحرب والموت وتغييب البشر؟

في المهاد الحكائي للرواية المعنون بـ«في خبرها» يتكتم الراوي على الدلالة الكلية لمقولة «الرومانتيكية»، فلا ذكر ولا احتفاء سوى بمهمة الراوي الخاصة بكتابة قصة العمة. لكننا نقرأ في المهاد ذاته تلميحاته عن «صندوق» حكايات العمة، ونعثر على إشارات مفيدة تخص معاني الرومانتيكية المتخيلة. وهي محض إشارات عامة غير دالة، في مقدمتها جُمل الافتتاحية الخاصة بمعنى الرومانتيكية؛ فالدلالات الحقة لصفة العمة تأتينا عن طريق كنايات النص السردية كلها ومدخلها أيضاً. أفكر بوظائف النظام الكنائي في الأخبار الأربعة. أتحدث عن الرابط الجامع بينها، وهي عندي الدلالة الكلية لمقولة «الرومانتيكية»؛ فذكر الرجال المحبين، رجال العمة، لا سيّما «آدم» المتوج الأخير لخسارتها الفادحة، بعد أن تخلى عن حبها وشقَّ لنفسه حياة مختلفة في باريس، ثم في ذِكر الرجال السابقين بما أضافوه من دلالات لرومانتيكية العمة، فإبراهيم كان سبباً في اغتصابها من قِبل خال إبراهيم، العقيد في الجيش، وممثل القاتل في حياة العمة، وسمعان أو إسماعيل الفنان المنتحر، ثم آدم الذي زرع في نفس العمة الرغبة الأصيلة في الفرار من زمن القاتل والهجرة من بلاد الحروب اللانهائية إلى بلاد أخرى نجهلها كلياً.

هؤلاء برعوا في تأبيد الصفة المهيمنة في الرومانتيكية وهي معنى المأساة؛ فأن تكون رومانتيكياً في بلد القاتل فهذا لا يعني سوى أن تكون ذا مصير مأساوي. ولا تبلغ المأساة سرديتها القصوى من دون تحقُّق المصائر التعيسة لرفيقات العمة في السجن والعمل والحياة؛ ألا تقول العمة نفسها للراوي: «قل لي من هو صديقك، أقل لك من أنت!؛ فكيف إذا كانت الصديقة، أو الصديقات، ممن يصفهن الراوي بـ«العجيبات». وهن كذلك في حياتهن ومصائرهن التعيسة، لا سيّما رفيقات السجن وصديقات الحياة لاحقاً.

تختلف كنايات الصديقات، أو أخبارهن كما يجادل الراوي، بتباين وظائف كلٍّ منهن؛ لنأخذ «فاتن» مثلاً لصديقات الجامعة، ما قبل السجن، فرقاً عن منار، السجينة الطارئة، ثم صديقة العمة وحبيبة الراوي. حالة فاتن تظل جزءاً من تفاصيل الحكاية الأصلية، حكاية العمة قبل منعطف السجن، فهي مادة سردية تضاف، وقد لا تضاف، إلى متن الحكاية، وهي موجودة في الحالتين. وهذا الوصف يختلف عن حالة منار؛ إذ تؤلف «سردية» مختلفة وحالة جديدة تولِّد تحوِّلاً كبيراً في مسار السرد برمته، وقد نبالغ فنقول إن حكاية العمة، ومن خلفها حكاية الراوي أيضاً، كادت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة لولا منعطف السجن، فكانت حالة منار إضافة حقيقية إلى النص كله؛ فقد أسهمت بمدِّ السرد بمواد حكاية جديدة، وهي ذاتها من منحت الراوي قيمة كبرى بوصفه شخصية سردية أو فاعلا رئيسا في النص وليس محض راوٍ. والنتيجة أن منار كانت سببا في القسم الثالث «في خبر زهور عمتي» والرابع «في خبر الحب وتبعاته»؛ إذ لولا سردية منار ما كان للسرد أن يتقدَّم خطوة واحدة للأمام، ولظل النص يعاني من التضخم الحكائي غير المجدي.

ثمة تأكيدات كثيرة تصدر عن الراوي نفسه تقول لنا إنه مكلَّف من العمة سرد قصتها... لكن النص وكناياته يقولان لنا إنها قصة الراوي أيضاً

حكاية العمة أم حكاية الراوي؟

ثمة تأكيدات كثيرة تصدر عن الراوي نفسه، تقول لنا إنه مكلَّف، من العمة، حتماً، سرد قصتها. عنوان الرواية نفسه «عمتي الرومانتيكية»، يقول لنا، ابتداءً، هذا الأمر: إنها قصة العمة فقط، لكن النص وكناياته يقولان لنا إنها قصة الراوي أيضاً. سردية الراوي شاهد حي، ليس على موثوقيته المؤكدة من قِبل العمة فقط، إنما هي دليل إضافي على فاعلية النظام الكنائي المساهم بتدعيم الحكاية الأصل، حكاية العمة، وعلى توريط الراوي بسرد حكاية لم يكن شاهداً حقيقياً على أغلب تفاصيلها؛ بحكم سنه الصغيرة؛ فهو ابن السنوات الأربع عندما تحوَّلت العائلتان إلى الحي البغدادي، ولا دليل على صحة مروياته السردية من حكايات عمته. هو صندوق حكايات العمة، وهو صبري أمين البصرة كما يصر على هذا الاسم؛ حتى غلب على الاسم الحقيقي غير المذكور. وهو وريث صندوق العمة الأسود، وإن شئت الدقة قل إنه وريث ذاكرتها بعد فقدانها الذاكرة وضياعها في متاهة ما في بغداد. يمكننا أن نضيف توصيفات أخرى تصف هذا الراوي، وهذه كلها لا تحقِّق للراوي الموثوقية المطلوبة، كما نعتقد، في سرد وقائع حكاية العمة. هل نريد القول إن «لحظة» ما بعد السجن وظهور منار ثم زواجه منها هو التسويغ الحكائي المفترض لتحقيق بعض الموثوقية؟ ربما؛ فحالة ما بعد السجن هي «انقلاب» سردي كامل على صُعد النص كلها، ومنها التحوِّل التدرجي للحكاية ذاتها من الصيغة الفردية المطلقة، التي لا يشغل فيها الراوي سوى وظيفة السرد وإدارته، إلى الصيغة الحكائي المشتركة بين العمة والراوي، حتى كأننا نشهد تنازعا بينهما على من يكون موضوع الحكاية الأصلي، لا سيّما في القسم الرابع والأخير «في خبر الحب وتبعاته»، الذي نشهد فيه تراجع حضور العمة مقابل تنامي حكاية الراوي الشخصية.

«عمتي الرومانتيكية» الرواية الثالثة في سياق روايات تعطي البطولة المطلقة للنساء؛ فقد سبق لوالي أن أصدر «إثم سارة: 2018»، و«سعاد والعسكر: 2021»، والآن «عمتي الرومانتيكية». وأغلب الظن نحن إزاء متتالية روائية سردية موضوعها حكايات النساء في أماكن عربية مختلفة: «الرياض، والقاهرة، وبغداد». وفي الرواية الأخيرة يبرع «نجم والي» كثيراً في انتشال الحكاية النسوية من براثن «السياسة»؛ دافعاً الأخيرة إلى الوراء لتكون محض ديكور ذي وظيفة تفسيرية. نحن، هنا، أمام حكاية امرأة تنفتح على حكايات النساء الأخريات من جارات السكن في الحي البغدادي أو صديقات أو سجينات. إنه عالم العمة النسوي المستقل بنفسه. عالم يحتفي بسردية المرأة وحكاياتها، وينتصر لذاكرتها المفقودة.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

«في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسط رموز أدبية وفكرية

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم
TT

«في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسط رموز أدبية وفكرية

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

* كان يسرد على الأسرة طرائف عن بخل توفيق الحكيم ويشبه أسلوب طه حسين بـ«غزل البنات» أو يتنبأ بمستقبل باهر لموظف صغير يُدعى نجيب محفوظ

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «في بيت أحمد أمين» للكاتب حسين أحمد أمين (1932 - 2014)، الذي يستعيد ذكريات الطفولة والصبا خلال سنوات نشأته الأولى، كونه الابن الأكبر للمفكر والمؤرخ المصري أحمد أمين (1886 - 1954) صاحب مؤلفات «موسوعة الحضارة الإسلامية» التي تتكون من «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام»، فضلاً عن سلسلة أجزاء «فيض الخاطر»، ومذكراته الشخصية «حياتي».

يتوقف المؤلف عند مفارقة أن أصدقاء وضيوف والده الذين يردُّ عليهم في التليفون أو يستقبلهم بالمنزل، كانوا من عمالقة الأدب والفكر وجيل المؤسسين في الثقافة العربية. ويروي كيف كان يُهرَع حين يدق جرس التليفون، ويرد بصوته الرفيع المتحمس، والسماعة الكبيرة يضعها بصعوبة فوق أذنه: «آلو... من حضرتك؟»، فيجيب المتكلم بأنه عباس العقاد أو توفيق الحكيم، أو محمود تيمور، ثم يسأل: «أحمد بك موجود؟»، فيجيب الطفل: «دقيقة واحدة»، ثم يجري إلى المكتبة صائحاً: «بابا، بابا، محمود تيمور»، فيتوجه والده إلى التليفون، ويسمعه يسأل محمود تيمور عن سبب تخلُّفه عن حضور جلسة المجمع اللغوي، ثم يسرد عليه ما دار خلالها، وكيف اقترح فيها إقرار المجمع الكلمة العامية «محندق» لخلو معاجم اللغة من كلمة تعبر عن المعنى نفسه بدقة. ويقص عليه ما كان من موقف طه حسين واعتراض لطفي السيد، ثم يقرأ عليه رسالة وصلت إليه لتوه من المستشرق الألماني برجشتراسر يُعلّق على ما ذكره في كتابه «فجر الإسلام» من طبيعة العقلية العربية.

طه حسين

ويتناهى إلى سمع الطفل حسين أسماء ابن خلدون والجاحظ والغزالي وابن رشد، تُنطق في أُلفة غريبة وتتكرر على لسان أبيه، فكأنما هم أقارب للعائلة أو جيران أو مستأجرو أرض. وكثيراً ما تهتف والدة حسين إذ يفرغ زوجها من المحادثة التليفونية طالبةً إما أن يشرح لها من هو «ابن عبد ربه»، مؤلف «العقد الفريد»، أو ألا يأتي بسيرته لأن تكرار نطقه بهذا الاسم قد بدأ يغيظها حقاً. وهو أحياناً يعود من الخارج يسأل عمن اتصل به تلفونياً فتجيب زوجته: «اتصل بك ابن خلدون مرتين». ويسأل أحمد أمين مبتسماً: «هل ترك رسالة؟»، فتجيبه: «نعم، يقول إنه قد بدأ يتململ في قبره من كثرة تناولك سيرته بالحديث».

ويشير حسين أحمد أمين إلى أن أسماء: محمود تيمور، مؤسس فن القصة القصيرة في طبعته العربية، ومحمد حسين هيكل، مؤلف أول رواية عربية، وعبد القادر المازني، الشاعر والكاتب الساخر، وغيرهم، كانت مألوفة لديه مذ كان في الخامسة أو السادسة، وقبل أن يقرأ لأصحابها حرفاً. وكانت والدته تُقلّد له أصواتهم وطريقتهم في الكلام فيضحك لصدق محاكاتها لصوت العقاد الضخم، وبطء طه حسين الشديد، وثرثرة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الفقيه القانوني البارز ووزير المعارف، وصياح الشاعر علي الجارم باسمه فكأنما يعلنه للتاريخ: «أنا الجارم»، وتَبسُّط عبد العزيز فهمي باشا، أول من وضع مُسوّدة الدستور المصري في صيغته الحديثة، في الأخذ والرد.

وكان أحمد أمين يقص على زوجته وعلى مسمع من أبنائه أصل العداء المرير بين السنهوري وطه حسين وحيرته بينهما؛ فكلاهما صديقه الحميم، كما يسرد على الأسرة طرائف عن بخل توفيق الحكيم، ويُثني على أريحية تيمور وسماحته وطيب خلقه، ويشبه لهم أسلوب طه حسين بحلوى «غزل البنات»، كما يقص عليهم ذكرياته عن الشيخ محمد عبده ونبأ مقابلاته لحافظ إبراهيم، أو يتنبأ بمستقبل باهر في الأدب لموظف صغير بوزارة الأوقاف يدعى نجيب محفوظ. وإن ولدت قطتهم، أسمعهم قصيدة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في القطة التي ولدت بحجرة مكتبه، وإذا حلّ الباذنجان على طاولة الغداء أنشدهم قصيدة شوقي الساخرة «نديم الباذنجان» التي يقول في مطلعها:

كان لِسلطانٍ نَديمٌ وافِ

يُعيد ما قال بلا اختلافِ

على ضوء هذا وغيره من مئات القصص والتفاصيل عن الحياة الخاصة لهؤلاء الأدباء والكتاب والمفكرين ولأنماط شخصياتهم، بدأ حسين أحمد أمين يقرأ كتبهم، فهم ليسوا غرباء عليه وباستطاعته حين يقود محمود تيمور إلى حجرة الاستقبال أن يعبّر له عن إعجابه بروايته «سلوى في مهب الريح»، أو حين يرد على العقاد في التليفون أن يخبره أنه قرأ له كتابه الشهير «عبقرية عمر»، فيداعبه العقاد بقوله: «كم سنك يا جحش؟»، وحين يعرف أن نجل صديقه أحمد أمين في العاشرة من العمر، يقول: «لا أعتقد أنك فهمته كل الفهم»، فيتحداه الطفل الصغير الذكي متحمساً: «بل فهمته، واسألني فيه إن أحببت»، فيتهرب العقاد من استمرار النقاش بقوله: «ليس لديّ وقت لسؤالك فيه. نادِ لي أباك».

وكان الصبي حسين يجد أحياناً صعوبة في إقناع والده بحاجته إلى حُلة أو حذاء جديد؛ خشيةَ أن يغضبه، أما فيما يتعلق بالكتب فالباب مفتوح على مِصراعَيه يشتري منها ما يحب؛ فهو يأذن له أن يأخذ من «مكتبة النهضة المصرية»، التي تتولى نشر مؤلفاته، أي عدد من الكتب دون قيد، ثم تحاسبه المكتبة في آخر العام. وكان حسين أكثر أبنائه استغلالاً لهذه الرخصة، ولم يحدث أن اعترض والده على إسرافه في هذا الاستغلال إلا مرة واحدة؛ حين قرأ في كشف الحساب السنوي اسم كتاب في تاريخ العالم من خمسة عشر مجلداً بلغ ثمنه أربعين جنيهاً، وهو ثمن باهظ يفوق راتب موظف كبير في شهر بمعايير ذلك الزمان.

ويشير حسين أحمد أمين إلى ملاحظة مهمة تتعلق بتكوين والده الثقافي: «فقد كان لا يكاد أحد يجاريه في معارفه الإسلامية، وفي إلمامه بتاريخ حضارة الإسلام وعلومها لا سيما في الفلسفة والأدب. أما فيما عدا ذلك فثمة خلل كبير، تداركه بعض كتّاب عصره كالعقاد وطه حسين. فهو لا يعرف شيئاً عن الموسيقى الغربية ولا يستسيغها، والأسماء الرنّانة في ميدانها هي عنده مجرد أسماء. وهو لا يكاد يقرأ قصصاً أو مسرحيات غير بعض ما يهديه إليه من مؤلفاتهم أدباء عصره كتوفيق الحكيم ومحمود تيمور والروائي الشاب نجيب محفوظ تجنباً للحرج حين يقابلهم بعدها». ولا يعتقد حسين أن والده قد قرأ في حياته رواية لتولستوي أو دوستويفسكي أو مسرحية لموليير، وهو لا يعرف شيئاً عن الأوبرا والباليه ولا عن فنَّي التصوير والنحت، ولا يظنه زار متحفاً للفنون في مدينة أوروبية إلا من قبيل الواجب.

غير أنه مع كل هذا القصور لم يكن يتظاهر بعكسه ولا كان الأمر يؤرقه. كل ما هنالك هو أنه حين ضعف بصره ضعفاً شديداً وصار مهدداً بفقده، وأحسّ بحسرة شديدة إذ لم يُعْنَ في شبابه بتنمية اهتمامات وهوايات مختلفة ولم يهوَ غير القراءة والكتابة اللتين أصبح الآن مهدداً بأن يُحرَم منهما فكان يردِّد قوله: «لو أني نمّيت في نفسي هواية الاستماع إلى الموسيقى مثلاً، لكان في لجوئي الآن إليها العزاء عن فقد البصر».

وقد كان على حد علم حسين على علاقة طيبة بجميع أدباء عصره، ولم تكن هناك بينه وبين أحدهم ما يشبه الخصومة غير زكي مبارك، بسبب سلسلة طويلة من المقالات نشرها الأخير في مجلة «الرسالة» بعنوان «جناية أحمد أمين على الأدب العربي»، يرد فيها على سلسلة طويلة من المقالات نشرها أحمد أمين في مجلة «الثقافة» بعنوان «جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي». أما الأديب الأثير عنده الذي يشبهه خلقاً وطباعاً فهو محمود تيمور، وكثيراً ما كان يجتمع بتوفيق الحكيم سواء في مقهاهما المفضل على البحر بالإسكندرية في أشهر الصيف، أو في اجتماع كل خميس بمقر «لجنة الـتأليف والترجمة والنشر»؛ حيث كانت تلتقي نخبة من مفكري مصر وأدبائها وعلمائها ورجال التربية فيها. كان أحمد أمين يأذن لابنه وهو بعدُ صبيٌّ في المرحلة الابتدائية بحضور تلك الندوات. ويذكر حسين أنه كلما استفسر من توفيق الحكيم عن كتب يقرأها أو آداب ينصح بأن يغترف منها، كان ينصحه بأن يركز على الآداب الغربية، ولا بأس من النظر بين الفَينة والأخرى في «العقد الفريد» أو «الأغاني»، طالباً منه وهو يضحك أن يكتم هذه النصيحة عن والده حتى لا يغضب منه.