متعبّد فيلكا يحمل الطابع السومريّ

يشهد للتواصل الحضاري بين بلاد الرافدين ومملكة دلمون

تمثال صغير من جزيرة فيلكا محفوظ في متحف الكويت الوطني
تمثال صغير من جزيرة فيلكا محفوظ في متحف الكويت الوطني
TT

متعبّد فيلكا يحمل الطابع السومريّ

تمثال صغير من جزيرة فيلكا محفوظ في متحف الكويت الوطني
تمثال صغير من جزيرة فيلكا محفوظ في متحف الكويت الوطني

يحتفظ متحف الكويت الوطني بتمثال صغير مصنوع من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت، يمثّل رجلاً ملتحياً يقف منتصباً في وضعيّة المتعبّد، رافعاً يديه المتشابكتين عند أسفل الصدر. يعود هذا التمثال إلى المرحلة الممتدة من 2000 إلى 1750 قبل الميلاد، ومصدره جزيرة فيلكا التي تقع في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي، وتبعد نحو عشرين كيلومتراً من سواحل مدينة الكويت. يتميز هذا المجسّم بأسلوبه المتقن، ويشهد للتواصل الحضاري الكبير الذي ربط في الماضي بين بلاد الرافدين ومملكة دلمون القديمة التي شملت الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية وجزيرتي البحرين وفيلكا.

بدأ استكشاف آثار جزيرة فيلكا في فبراير (شباط) 1958، حيث حلّت في الجزيرة بعثة دنماركية قامت بحملة تنقيب فيها على مدى أربعين يوماً. عادت هذه البعثة في العام التالي، وأجرت حملة ثانية، تبعتها ثلاث حملات بين 1960 و1963. كشفت هذه السلسلة من الحملات عن مجموعة هائلة من الأختام المزينة بالنقوش، وعن كسور عدة من أوانٍ مصنوعة من حجر الكلوريت، تتبع تقليداً عابراً للحضارات انتشر في سلسلة مناطق تمتد من شرق الجزيرة العربية إلى جنوب شرق إيران، مروراً بمواقع كثيرة في جنوب بلاد الرافدين. إلى جانب هاتين المجموعتين الكبيرتين، يحضر عدد محدود من المجسّمات الصغيرة، منها تمثال المتعبّد الذي خرج من تل مرتفع يُعرف باسم «تل سعد»، يقع في الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة، بالقرب من ساحل البحر.

وصل هذا التمثال بشكل شبه كامل، ولم يفقد سوى الجزء الأسفل من رجليه المتمثّل بالقدمين. وهو من الحجم الصغير، يبلغ طوله 5.3 سنتمتر، وعرضه عند الكتفين 1.7 سنتمتر، وسماكته 1.5 سنتمتر. ويمثّل رجلاً ذا لحية طويلة، معتمراً قبعة على شكل قلنسوة مربّعة عريضة. ينتصب هذا الرجل في وقفة مستقيمة ثابتة تخلو من أي حراك، رافعاً يديه المتشابكتين في اتجاه صدره؛ ممّا يوحي بأنه في وضعيّة المتعبّد. عيناه واسعتان وناتئتان، وهما مفتوحتان ومجردتان من الحدقتين، ويعلوهما حاجبان عريضان متلاصقان. عند نقطة التصاق الحاجبين، ينساب الأنف على شكل مثلث ناتئ طويل متساوي الضلعَين. تحت هذا المثلث، يبرز فم مطبق تشكّل شفتاه المتحدتان مساحة مستطيلة ناتئة. تحدّ أعلى هذا الوجه أذنان ضخمتان صِيغتا على شكل دائرتين بيضاويتين مجرّدتين، ويحدّ أسفله ذقن طويل ينساب حتى منتصف الصدر. يخلو هذا الذقن من أي نقش، ويتميّز بتقوّس طرفها الأسفل.

يرتفع هذا الوجه فوق منكبين مستقيمين يشكّلان قاعدة له، وتبدو رقبته الصغيرة شبه غائبة. تلتصق الذراعان بالصدر، وتبدو مفاصلهما مجرّدة ومحوّرة بشكل هندسي مختزل. في حركة موازية، ترتفع اليدان عند وسط الصدر، وتتشابكان في كتلة واحدة تحت الذقن المتدلية. يبدو الصدر عارياً، ويعلوه وشاح طويل يلتفّ حول الكتف اليسرى، ويمتدّ نحو الأسفل، ويتقاطع عند اليدين المعقودتين، حيث ينسدل طرفاه حتى أخمص الرجلين. يتحوّل هذا الوشاح معطفاً يعلو وزرة تلتفّ حول حوض المتعبّد، وتبلغ أعلى ركبتيه. في هذا اللباس البسيط، ينتصب المتعبّد بثبات، وتنفصل ساقاه الملتصقتان، الواحدة عن الأخرى، عند الركبتين. يكشف ظهر المجسّم عن التفاف الوشاح حول الخصر، وتظهر سمة العمود الفقري على شكل خط عمودي غائر محفور بوضوح في الوسط، يمتدّ من أسفل الرقبة إلى أعلى الخاصرة.

يوحي الزيّ المميّز الذي يتفرّد به المجسّم بأنّ صاحبه يمثّل شخصية رسميّة قد تكون حاكماً أو كاهناً

يحمل هذا المجسّم طابعاً سومرياً يتجلّى بشكل لا لبس فيه في وقفة المتعبّد وفي تشابك يديه المعقودتين عند الصدر. تظهر ملامح هذه الوضعية في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، في العصر الذي يُعرف بعصر فجر التاريخ، كما يشهد تمثال حجري صغير محفوظ في متحف بغداد، مصدره معبد «سن» في توتوب التي تُعرف اليوم باسم خفاجي في محافظة ديالى. تحوّلت هذه الوضعية لاحقاً تقليداً سومرياً ثابتاً، خرجت أشهر شواهده من معابد عدة في منطقة ديالى تعود إلى عصر الأسر الأولى، بين 2900 و2350 قبل الميلاد. انتشر هذا الأسلوب في نواحٍ عدة من العالم السومري، منها مملكة ماري التي قامت قديماً على تل يُعرف اليوم بتل الحريري، يقع على الضفة الغربية اليمنى لنهر الفرات في سوريا. كما بلغ هذا التقليد الفني جزر الخليج العربي على ما يبدو، وظهر بشكل ساطع في تمثال كبير يناهز طوله المتر، عُثر عليه في جزيرة تاروت التي تقع على الضفة الغربية من الخليج، وتتبع اليوم إدارياً محافظة القطيف في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي في الماضي موقع من المواقع الرئيسية في دلمون الكبرى.

مثل متعبّد تاروت، يقف متعبّد فيلكا منتصباً في وضعيّة جامدة، رافعاً يديه المعقودتين على صدره، وفقاً للنمط السومري التقليدي. تحمل التماثيل التي تتبع هذا النمط نسقاً جامعاً تظهر عناصره الأساسية في تأليف الوجوه والقامات. يظهر الرجال في أغلب الأحيان بلحى طويلة مستطيلة، ويعلو رأس كلّ منهم شعر كثيف في وسطه فارق عريض، وتتدلّى من هذا الشعر خصلتان تحدّان جانبي الوجه، وتبلغان الصدر، وتلتصقان باللحية. يظهر الصدر عارياً، ويقتصر اللباس على وزرة مزخرفة بنقوش على شكل جلد من الصوف، يعلوها حزام مشدود حول الخصر.

في الخلاصة، يشابه تمثال متعبّد فيلكا المنمنم، في تكوينه العام، النماذج السومرية التقليدية التي شكّلت أساساً له، غير أنه لا يماثلها بشكل متطابق. يظهر هذا التباين بوجه خاص في القبعة الكبيرة التي يعتمرها هذا المتعبّد، والوشاح الذي يلتف حول قامته كمعطف. ويوحي هذا الزيّ المميّز الذي يتفرّد به هذا المجسّم بأنّ صاحبه يمثّل شخصية رسميّة قد تكون حاكماً أو كاهناً. ويجد أهل الاختصاص صعوبة في تحديد هذه الهوية الملتبسة بشكل دقيق؛ نظراً لغياب الشواهد الأثرية المشابهة التي تسمح بذلك.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.