الحب بين اعتلال الجسد وجنون العقل

النظرة إليه تدرّجت من السخرية والاستنكار إلى الإشفاق والجزع

الحب بين اعتلال الجسد وجنون العقل
TT

الحب بين اعتلال الجسد وجنون العقل

الحب بين اعتلال الجسد وجنون العقل

لطالما اعتُبر الحب، مرئياً إليه من الخارج، نوعاً من التورط التدريجي اللاسوي للشخص العاشق في مغامرة متهورة وغير مأمونة العواقب. وسواء تعلق الأمر بالمحيط الاجتماعي الواسع، أو بدائرة الأقارب الضيقة، فإن تورط المرء في الحب، ظل يثير في الدائرتين معاً ردود فعل متباينة، تتراوح بين الاستهجان والإشفاق والجزع من جهة، وبين السخرية والتندر من جهة ثانية. وقد أسهمت اللغة نفسها في توأمة هذه العاطفة الإنسانية مع كل ما يدل على الوهن والاستسلام، حيث باتت تعابير مثل «السقوط في الحب» أو الوقوع فيه، لا الصعود نحوه، أقرب إلى بديهيات تعبيرية تم ترسيخها في الوجدان الجمعي، وجرت البرهنة عليها من خلال ما يكابده العشاق من آلام ومكابدات، وصولاً إلى المرض والاختبال.

الواقع أن الربط بين الحب والمرض لم يقتصر على جماعة أو أمة أو حضارة بعينها، بل بدا هذا التوصيف عابراً للثقافات والمجتمعات والأزمنة. ففي كتابه الشهير «طوق الحمامة في الألفة والألّاف» يشير ابن حزم الأندلسي إلى الحب، باعتباره الداء الذي يستلذ به المحبون، ويتمنون البقاء طويلاً تحت وطأة عذاباته، فيقول «والحب أعزك الله داء عياء، وسقام مستلذ وعلة مشتهاة، لا يودّ سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة. يزيّن للمرء ما كان يأنف منه، ويسهّل عليه ما كان يصعب عنده». لا بل إن ابن حزم يلاحظ أن بين المحبين من يتمنون على الدهر ألا يصفو البتة، مستدرجين بشكل إرادي المعاناة التي تؤجج في دواخلهم مشاعر اللهفة والاشتياق.

كما أن النظرة إلى الحب ليست واحدة بأي حال، بل تتفاوت زاويتها بين علوم النفس والاجتماع والطب العصبي، بما يجعلها خليطاً شديد التعقيد من الاشتهاء الجسدي الصرف، والحاجة الموازية إلى التوازن النفسي والإشباع العاطفي. وإذ تتداخل في هذه العاطفة النزعتان المازوشية والسادية، حيث الرغبة في التملك تقابلها رغبة مضادة في الإمحاء، والميل إلى تعذيب النفس يقابله ميل مضاد إلى تعذيب الآخر، يقيم البعض بالمقابل نسباً من نوع ما، بين الحب في مراحله المتقدمة وبين بعض الأمراض النفسية والعقلية كالعصاب والهستيريا والوسواس القهري وغيرها. وهذه الرؤية للحب لم تكن لتغيب قبل ذلك عن بال الفلاسفة والمبدعين والشعراء، الذين رأوا فيه مرضاً جسدياً من جهة، وصدعاً في الروح واعتلالاً في العقل من جهة أخرى.

وفي حين عدَّ باسكال أنه «لا يوجد ما هو أكثر إيلاماً للمرء من أن يكون عاشقاً، حيث يبرق الأمل للحظة ثم يستبد الخوف وحرقة الفراق»، رأى الشاعر الألماني نوفاليس أن الحب مرتبط بعدم الإشباع الأبدي للذات الإنسانية، وهو بالتالي «خبل نفسي صريح، بقدر ما هو مرض الروح وانجذابها المؤلم نحو العدم». فيما أكد نيكولا دي شامفور من جهته على أن الحب «يشبه المرض المعدي، حيث بقدر ما نخشاه نلتقط عدواه بسرعة فائقة». وهو ما يذكّرنا بقول مجنون بني عامر مخاطباً شخصاً أراد الاقتراب منه بالقول:

بيُ اليأس أو داء الهيام أصابني

فإياك عني لا يصيبك ما بيا

ولا يبتعد رولان بارت عن فرويد في اعتباره أن السقام العشقي ناجم عن «العبور من الليبيدو النرجسية إلى الليبيدو الغيرية»، فيرى من جهته أن هذا السقام يتولد من شهوة الكائن الغائب إلى شهوة الكائن الحاضر. وهو في الوقت ذاته يتبنى مقولة لاكان حول الاختلال الطفولي، والمتأتي عن جوعٍ بلا إشباع، للجسد العاشق، الأمر الذي يذكّرنا بحالة الطفل الذي يرى في سقوطه مريضاً وسيلته الأنجع لمعاقبة أبويه المشيحين بوجهيهما عنه، والطريقة الملائمة للحصول على ما يحتاجه من العاطفة والحدب والاهتمام.

أما التعامل مع الحب بوصفه مرضاً يقع الجنون عند تخومه الأخيرة، فهو يحتل مساحة راسخة في الوجدان والذاكرة العربيين، حيث يكتظ المعجم العربي بالمفردات التي تربط الحب بالاختلال الجسدي والعقلي، من بينها الجوى والخبل والوله واللوعة والحمّى والكلف والوصب والهيام والضنى والضنك والمس والاختلاط. ولن نعدم في هذا السياق عشرات الشواهد التي أثبتها في قصائدهم شعراء من مختلف الحقب، أنهك العشق أبدانهم وأرواحهم، وفي طليعتهم عروة بن حزام، الذي راح يبحث عبثاً عن دواء يشفيه من حب عفراء، فقال في ذلك:

جعلتُ لعرّاف اليمامة حكْمهُ

وعرّاف نجدٍ إن هما شفياني

فقالا: نعم نشفي من الداء كلّهِ

وقاما مع العُوّاد يبتدرانِ

فما تركا من رقْيةٍ يعلمانها

ولا شربةٍ إلا وقد سقياني

فقالا: يمين الله، والله ما لنا

بما ضُمّنتْ منك الضلوع يدانِ

ولم تنحصر العلاقة بين الحب والجنون بالباحثين والأطباء وعلماء النفس وحدهم، بل كانت منذ أقدم الأزمنة جزءاً من المعتقدات الشعبية الراسخة في الأذهان. كما أن اعتراف النصوص الدينية المختلفة بوجود الجن، دفع الكثير من المهرطقين والمشعوذين والمشتغلين بالسحر إلى الدخول على خط العلاقة المفترضة بين الإنس والجن، وتحويل أمر اختبال العشاق، والعمل على إصلاح عقولهم إلى مهنة للعيش وتحصيل الرزق. وإذا كان أصل الكلمة مشتقاً من الفعل «جُنَّ»، الذي يفيد الخفاء والاستتار، كما في جملة «جُنّ عليه الليل»، أي ستره وأخفاه، فإن الجنون العشقي يصبح من بعض زواياه الستار الذي يحجب صاحبه عن العالم الواقعي ويوصله بالعالم غير المرئي للجن والشياطين.

وإذا كان أبو الفرج الأصفهاني قد ذهب في «الأغاني» إلى القول بأن الجنون بات سمة ملازمة لعشاق بني عذرة، فإن تفرد قيس بن الملوح بلقب المجنون، كان عائداً إلى سلوكه اللاسوي، الذي تسبب به التوق غير المتحقق إلى الارتباط بليلى، والذي تمت ترجمته عبر السيْر عارياً واللعب بالتراب، والعيش في البراري بصحبة الوحوش. ومن يتأمل ملياً في هذه الأعراض لا بد له أن يربطها بالنكوص نحو الطفولة، الذي تبدو أشكاله الاحتجاجية قريبة من تلك التي توصل إليها لاكان في أبحاثه. وقد أفرد مجنون ليلى الكثير من الأبيات لتسويغ ما بلغته نفسه من الوهن والتصدع، وبينها قوله:

وبي من هوى ليلى الذي لو أبثه

جماعةَ أعدائي بكت لي عيونُها

أرى النفس عن ليلى أبتْ أن تطيعني

فقد جُنَّ من وجدي بليلى جنونُها

وإذا لم يكن جميل بن معمر قد دخل إلى السراديب المظلمة للجنون، والانفصال عن الواقع، والإقامة مع الوحوش في البراري، كما كان حال ابن الملوح فإن شعره يزخر بالإشارات الدالة على حالة البلبلة والتيه والتباس الحدود مع الآخر، التي تمخض عنها حبه لبثينة. وهو إذ يحرص في علاقته الصعبة مع ذويه ومحيطه الاجتماعي، يعترف بأنه بات في حبه لبثينة مسلوب الهوية والإرادة، ويرد على لائميه والمطالبين إياه بالتعقل، بأن خروجه من المحنة التي يكابدها قد فات أوانه، لأن ما تبقى له من العقل بات في عهدة بثينة ورهن مشيئتها:

أحلماً؟ فقبل اليوم كان أوانه

أم أخشى فقبل اليوم أوعدتُ بالقتلِ

ولو تركتْ عقلي معي ما طلبتها

ولكنْ طِلابيها لما فات من عقلي

التعامل مع الحب بوصفه مرضاً يقع الجنون عند تخومه الأخيرة فهو يحتل مساحة راسخة في الوجدان والذاكرة العربيين

ومع أن اعتراف العشاق باختلاط عقولهم لم يكن شأناً مقتصراً على شعراء بني عذرة وحدهم، فالملاحظ أن تجربتهم في الحب باتت السقف الأكثر علواً الذي يرغب الآخرون بمجاراته، سواء تعلق الأمر بالتجربة العاطفية الشاقة، أو بتعبيراتها الشعرية والإبداعية. فالحسين بن مطير الأسدي، الذي أورثه الحب اعتلال الجسد وذهاب العقل يحذو بدوره حذو جميل بثينة، تجربةً وتعبيراً، فيقول:

فواعجباً للناس يستشرفونني

كأنْ لم يروا بعدي محبّاً ولا قبلي

يقولون لي: اصْرمْ يرجعِ العقلُ كلهُ

وصرْمُ حبيبِ النفس أَذهبُ للعقلِ

فيا عجباً من حب مَن هو قاتلي

كأني أجازيهِ المودةَ عن قتلي

كما أن أي عودة متفحصة إلى تاريخ العشق، تقودنا إلى الاستنتاج بأن الربط بين الحب والمرض والجنون، لم ينحصر في جغرافيا محددة أو زمان بعينه. فنيتشه يعلن بلسان بطله زرادشت أن ما نسميه حباً «ليس إلا سلسلة من لحظات الجنون القصيرة»، موائماً في الوقت نفسه بين الحب والجنون من جهة، وبين الزواج والغباء من جهة أخرى. وإذ لا يتردد هولدرلن، الذي عدّه هايدغر المجسد الأمثل للكينونة وللبراءة المطلقة للشعر، في القول «الحب الذي أعاني منه أشبه بمرض مخجل»، لم يلبث أن دخل بعد رحيل المرأة التي أحبها في الدهاليز المعتمة للجنون الكلي.

أما لويس أراغون فقد رأى في سقوط الأندلس الخلفية النموذجية لعمله الفريد «مجنون إلسا»، حيث بدا الحب من خلاله بمثابة الجبل الأخير الذي يعصم البشر من الطوفان. وإذ أظهر الشاعر حرصه التام على إقامة نسبٍ ما بين مجنون بني عامر ومجنون غرناطة، الذي بشّر بظهور إلسا قبل قرون أربعة من ولادتها الفعلية، كان يهدف في نهاية المطاف إلى القول بأن المرأة هي المستقبل الحقيقي للرجل، وبأن جنون الحب هو الرد الأمثل على جنون العالم وحروبه الضروس وصراعاته المدمرة.


مقالات ذات صلة

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

ثقافة وفنون 3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

أسفرت عمليات التنقيب المتواصلة في موقع مليحة الأثري التابع لإمارة الشارقة عن العثور على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والأساليب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

صدر أخيراً العدد الـ«99»؛ يناير (كانون الثاني) 2025، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

في العدد الجديد من مجلة «القافلة» لشهري يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط) 2025، التي تصدر عن شركة «أرامكو السعودية»، تناولت الافتتاحية موضوع الأمثال الدارجة

«الشرق الأوسط» (الدمام)

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
TT

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة

أسفرت عمليات التنقيب المتواصلة في موقع مليحة الأثري التابع لإمارة الشارقة عن العثور على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والأساليب، منها مجموعة مميّزة من القطع البرونزية، تحوي 3 كسور تحمل نقوشاً تصويرية، ويعود كلّ منها إلى إناء دائري زُيّن برسوم حُدّدت خطوطها بتقنية تجمع بين الحفر الغائر والحفر الناتئ، وفقاً لتقليد جامع انتشر في نواحٍ عدة من شبه جزيرة عُمان، خلال الفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد.

أصغر هذه الكسور حجماً قطعة طولها 4.5 سنتيمتر وعرضها 10 سنتيمترات، وتمثّل رجلاً يركب حصاناً وآخر يركب جملاً. يظهر الرجلان في وضعية جانبية ثابتة، ويرفع كلّ منهما رمحاً يسدّده في اتجاه خصم ضاع أثره ولم يبقَ منه سوى درعه. وصلت صورة راكب الحصان بشكل كامل، وضاع من صورة راكب الجمل الجزء الخلفي منها. الأسلوب متقن، ويشهد لمتانة في تحديد عناصر الصورة بأسلوب يغلب عليه الطابع الواقعي. يتقدّم الحصان رافعاً قوائمه الأمامية نحو الأعلى، ويتقدّم الجمل من خلفه في حركة موازية. ملامح المقاتلين واحدة، وتتمثّل برجلين يرفع كل منهما ذراعه اليمنى، شاهراً رمحاً يسدّده في اتجاه العدو المواجه لهما.

الكسر الثاني مشابه في الحجم، ويزيّنه مشهد صيد يحلّ فيه أسد وسط رجلين يدخلان في مواجهة معه. يحضر الصيّادان وطريدتهما في وضعيّة جانبية، ويظهر إلى جوارهم حصان بقي منه رأسه. ملامح الأسد واضحة. العين دائرة لوزية محدّدة بنقش غائر، والأنف كتلة بيضاوية نافرة. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان عن أسنان حادة. تحدّ الرأس سلسلة من الخصل المتوازية تمثل اللبدة التي تكسو الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة. الظهر مقوّس بشكل طفيف، ويظهر في مؤخرته ذيل عريض، تعلو طرفه خصلة شعر كثيفة. الجزء الأسفل من البدن مفقود للأسف، وما بقي منه لا يسمح بتحديد وضعية القوائم الأربع.

في مواجهة هذا الليث، يظهر صياد يرفع بيده اليمنى ترساً مستديراً. في المقابل، يظهر الصياد الآخر وهو يغرز خنجره في مؤخرة الوحش. بقي من الصياد الأول رأسه وذراعه اليمنى، وحافظ الصياد الآخر على الجزء الأعلى من قامته، ويتّضح أنه عاري الصدر، ولباسه يقتصر على مئزر بسيط تعلوه شبكة من الخطوط الأفقية. ملامح وجهَي الصيادين واحدة، وتتبع تكويناً جامعاً في تحديد معالمها. من خلف حامل الخنجر، يطل رأس الحصان الذي حافظ على ملامحه بشكل جلي. الأذنان منتصبتان وطرفهما مروّس. الخد واسع ومستدير. الفم عريض، وشق الشدقين بارز. اللجام حاضر، وهو على شكل حزام يلتفّ حول الأنف. تعلو هذه الصورة كتابة بخط المسند العربي الجنوبي تتألف من ستة أحرف، وهي «م - ر - أ - ش - م - س»، أي «مرأ شمس»، ومعناها «امرؤ الشمس»، وتوحي بأنها اسم علم، وهو على الأرجح اسم صاحب الضريح الذي وُجد فيه هذا الكسر.

تتبع هذه الكسور الثلاثة أسلوباً واحداً، وتعكس تقليداً فنياً جامعاً كشفت أعمال التنقيب عن شواهد عدة له في نواحٍ عديدة من الإمارات العربية وسلطنة عُمان

الكسر الثالث يمثّل القسم الأوسط من الآنية، وهو بيضاوي وقطره نحو 14 سنتيمتراً. في القسم الأوسط، يحضر نجم ذو 8 رؤوس في تأليف تجريدي صرف. وهو يحل وسط دائرة تحوط بها دائرة أخرى تشكّل إطاراً تلتف من حوله سلسلة من الطيور. تحضر هذه الطيور في وضعية جانبية ثابتة، وتتماثل بشكل تام، وهي من فصيلة الدجاجيات، وتبدو أقرب إلى الحجل. تلتف هذه الطيور حول النجم، وتشكّل حلقة دائرية تتوسط حلقة أخرى أكبر حجماً، تلتف من حولها سلسلة من الجمال. ضاع القسم الأكبر من هذه السلسلة، وفي الجزء الذي سلم، تظهر مجموعة من ثلاثة جمال تتماثل كذلك بشكل تام، وهي من النوع «العربي» ذي السنام الواحد فوق الظهر، كما يشهد الجمل الأوسط الذي حافظ على تكوينه بشكل كامل.

تتبع هذه الكسور الثلاثة أسلوباً واحداً، وتعكس تقليداً فنياً جامعاً، كشفت أعمال التنقيب عن شواهد عدة له في نواحٍ عديدة من الإمارات العربية وسلطنة عُمان. خرجت هذه الشواهد من المقابر الأثرية، ويبدو أنها شكلت جزءاً من الأثاث الجنائزي الخاص بهذه المقابر في تلك الحقبة من تاريخ هذه البلاد. عُثر على هذه الكسور في موقع مليحة، وفي هذا الموقع كذلك، عثر فريق التنقيب البلجيكي في عام 2015 على شاهد يحمل اسم «عامد بن حجر». يعود هذا الشاهد إلى أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، ويحمل نقشاً ثنائي اللغة يجمع بين نص بخط المسند الجنوبي ونص بالخط الآرامي في محتوى واحد. يذكر هذا النص اسم «عمد بن جر»، ويصفه بـ«مفتش ملك عُمان»، ونجد في هذا الوصف إشارة إلى وجود مملكة حملت اسم «مملكة عُمان».

ضمّت هذه المملكة الأراضي التي تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحّدة، كما ضمّت الأراضي التي تعود إلى شمال سلطنة عُمان، وشكّلت استمرارية لإقليم عُرف في النصوص السومرية باسم بلاد ماجان. جمعت هذه المملكة بين تقاليد فنية متعدّدة، كما تشهد المجموعات الفنية المتنوّعة التي خرجت من موقع مليحة في إمارة الشارقة، ومنها الأواني البرونزية التي بقيت منها كسور تشهد لتقليد فني تصويري يتميّز بهوية محليّة خاصة.