كتّاب مراسلون حربيّون

اختاروا الذهاب إلى جبهات القتال ليعيشوا أحداثها ووقائعها عن كثب

كوليت
كوليت
TT

كتّاب مراسلون حربيّون

كوليت
كوليت

نعلم أن الحروب كانت ولا تزال مُلهمة للكتاب والشعراء، وأن قصص هذه الحروب حاضرة بقوة في جلّ مراحل التاريخ الإنساني. وأول من اهتمّ بها هو اليوناني هوميروس في «الإلياذة». وفي رواية الفرنسي ستاندال «الأحمر والأسود»، وأيضاً في رواية الروسي تولستوي نجد تفاصيل مُهمة ودقيقة عن الحروب التي خاضها نابليون بونابارت للسيطرة على العديد من البلدان الأوروبية والإطاحة بنظمها الملكية. وانعكست كوارث ومجازر الحرب الكونية الأولى في العديد من الأعمال الروائية البديعة مثل «لا شيء يحدث على الجبهة الغربية» للألماني إيريك ماريا ريمارك، و«رحلة إلى آخر الليل» للفرنسي لوي فارديناد سيلين. وتظلّ المجموعة القصصية «كتيبة الخيّالة الحمراء» للروسي إسحاق بابل أفضل ما كتب عن الحرب الأهلية التي دارت بين «البيض» و«الحمر» عقب اندلاع الثورة البلشفية وانهيار النظام القيصري في روسيا. وفي رواية «الأمل» للفرنسي أندريه مالرو، و«لمن تدقّ الأجراس» للأمريكي أرنست همنغواي صور حيّة ومروّعة عن الحرب الأهلية في إسبانيا. وفي روايته «النيئون والعراة» انتقد الأمريكي نورمان ميلر بأسلوب عنيف وتهكمي أسطورة الجيش الأمريكي «الذي لا يقهر»، وفضح الهزائم التي مُني بها في الحرب الكونية الثانية والتي حوّلها بعد نهاية هذه الحرب إلى «انتصارات باهرة»... وفي روايته «كابوت» وصف لنا الإيطالي مالابارتي بدقة مُوجعة معاناة الجنود الألمان على الجبهة الروسية خلال الحرب الكونية الثانية. أما في «الجلد» فقد رسم لنا صوراً مُدهشة عن دخول جيوش الحلفاء إلى جزيرة صقلية قادمة من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.

أريك ريمارك

وهناك كتّاب كبار اختاروا الذهاب إلى جبهات القتال ليعيشوا أحداثها ووقائعها عن كثب، وليكتبوا عنها تحقيقات مثيرة لصحف ولمجلات واسعة الانتشار. وكانت الكاتبة الفرنسية كوليت (1873-1954) واحدة من هؤلاء. فخلال الحرب الكونية الأولى، تركت كتابة الرواية لتعمل مراسلة حربية على جبهات القتال لجريدة «لوماتان» (الصباح). ومن جبهة إلى أخرى كانت تتنقّل من دون رهبة ولا خوف لتكتب تحقيقات صحافية بلغة رفيعة وبأسلوب بديع. وفي أواخر سنة 1918، أي عند اقتراب الحرب من نهايتها، كانت على جبهة القتال في بلجيكا، بالقرب من نهر لاموز. وقد كتبت تقول: «سهل من دون قطعان. أودية من دون أعشاب - هنا تصبح آثار الحرب خارقة (...) ميدان معركة إيتان صحراء معدنية. القلق يولد هنا، والخوف المرضيّ من الهول الذي سيكون هادئاً. ومرايا لماء قذر كانت تنظر إلى سماء الصمت. أربع سنوات. أربع سنوات عاشوا هنا. وعلى مدى أربع سنوات رأوا الشمس تطلع على هذه الهضاب القاسية في النهار المتأخر من ديسمبر وأحياناً شمسَ الشتاء التي بالكاد ترتفع فوق الأفق. على مدى أربع سنوات، رأوا كل واحد من آبار الماء هذه يتقبّلُ ويتقيأ النار».

أندريه مالرو

ومن وحي الحرب الكونية الأولى، كتب همنغواي روايته «وداعاً للسلاح» التي خولت له أن يصبح وهو في سنوات الشباب واحداً من أهم رموز الجيل الجديد الذي وصفته غرتريد شتاين بـ«الجيل الضائع». وبعدها أصبح همنغواي مراسلاً حربياً خلال الحرب الأهلية الأسبانية، ثم خلال الحرب الكونية الثانية ليرافق جيوش الحلفاء عند دخولهم إلى فرنسا بعد أن دحروا الجيش الألماني في معركة «النورماندي» الشهيرة. وكان همنغواي قد أقام في باريس قبل الحرب، وعشق العديد من مقاهيها الشهيرة مثل «كلوزري دو ليلا» التي كان يكتب فيها، و«ليب»، و«دوماغو» التي شرب فيها «شيري» ذات مرة مع جيمس جويس. وعندما عاد إلى باريس مع الجيش الأميركي عام 1944، كان أول شيء فعله هو «تحرير» مقاهيه المفضلة من بقايا النازيين. ويروي أحدهم قائلاً: «رأيت جندياً أمريكياً له قامة هرقل ينزل من سيارة (جيب). حيّا صاحب بار (ليب) السيد كازاس، قال له: ألا تتذكرني؟ أنا إرنست همنغواي.. وأنا عطشان... وأريد شراباً يشفي غليلي حيناً».

همنغواي

وكان الكاتب والصحافي الفرنسي ألبير لندره (1884-1932) الذي كان على جبهات القتال في القارّات الخمس أول مراسل حربي بالمفهوم الحديث للكلمة. وتعدّ تحقيقاته الدقيقة والبديعة وثائق تاريخية مهمة عن مختلف الحروب الكبيرة والصغيرة التي عرفها العالم في زمنه. وهو الذي كتب أول تحقيق صحافي عن قصف الجيش الألماني كاتدرائية مدينة رايمس في سبتمبر (أيلول). ومنذ ذلك الحين أصبحت تحقيقاته موثوقاً بها ومرجعاً أساسياً لكل المعارك بين الجيش الفرنسي والجيش الألماني. وحريصاً على نقل الحقيقة، كان ألبير لندره يثير غضب كبار قادة الجيوش الذين يميلون إلى إخفاء أخطائهم، وهزائم جنودهم في هذه المعركة أو تلك. وفي شهر يوليو (تموز) 1917، كتب يقول: «على أولئك الذين لا يرون بوضوح المشهد التراجيدي للحرب لأنه مألوف جداً بالنسبة لهم، أو لأنهم بعيدون عنه جداً، أن يُرافقوني. سوف آخذكم، واتبعوا القادم الجديد: سوف نرى». وبعد الحرب الكونية الثانية، استحدثت جائزة باسم ألبير لندره تُمنح لكتّاب التحقيقات الاستقصائية شرط أن تكون أعمارهم دون الأربعين. وكان مارسيل بيكار أول من فاز بها سنة 1946 وذلك عن تحقيق له بعنوان «كنت مراسلاً حربياً».

وفي سنة 1956، فاز بها رنيه مورياس عن تحقيق بعنوان «الريف... حرب الأشباح»، وهي عن المعارك التي خاضها المقامون المغاربة بزعامة عبد الكريم الخطابي في جبال الريف ضد الجيشين الإسباني والفرنسي. وقد وصف ذلك التحقيق بأنه «عملي أدبي بديع، سواء من ناحية الأسلوب، أو من ناحية قوة وكثافة وحقيقية الأحداث». ومقتديين بألبير لندره، قام كل من أرمان غاتي وكريستيان هوش بمتابعة حروب ومعارك في بلدان مختلفة. فقد كان الأول مع هنود غواتيمالا خلال انتفاضتهم ضد الحكومة المركزية في الخمسينات من القرن الماضي. أما الثاني فقد كان في فيتنام، وفي لبنان، وفي كمبوديا، وفي أريتريا. كما أنه كان شاهداً على الاقتتال بين الأخوة الأعداء في آيرلندا. وتعدُّ التحقيقات التي أنجزها الفرنسي إيف كوريار ، والتي جمعها في كتاب بعنوان «أبناء يوم الأموات» وثائق مهمة لفهم خفايا الحرب الجزائرية، سواء من الجانب الفرنسي أو من الجانب الجزائري. وعن عمله مراسلاً حربياً، كتب مارك كرافتز الذي حاز هو أيضاً على جائزة «ألبير لندره» يقول: «بطبيعة الحال، ليست الحرب وحدها هي التي تجعلنا نقول الحقيقة المتعددة لقارتنا، وإنما أيضاً وقبل كل شيء، نحن نلمسُ من خلال هذه النزاعات الدموية، وهذه الحروب اللامتناهية والوحشية أيضاً، التي تُنسى بسرعة، في المكان الأكثر حميمية في قلب الوضع الإنساني، هذا المزيج الذي لا يُفرّق فيه الناس بين الذكاء والغباء، وبين البربرية والوداعة، وبين الكذب واستكمال الذات. ومن جانبنا نحن، وفي ما يعنينا ويخصّنا، هو الالتزام في مهنتنا التي نقوم بها حدّ الهوس، وفي الوقت نفسه بوعي مفرط بتفاهتها وعدم جدواها».

يعد الكاتب والصحفي البولوني ريتشارد كابوشينسكي واحداً من أهم وألمع المراسلين الذين واكبوا الحروب والانتفاضات الشعبية والانقلابات العسكرية وغيرها في بلدان العالم الثالث

وليست هناك أي مبالغة في اعتبار الكاتب والصحافي البولوني ريتشارد كابوشينسكي (1932-2007) واحداً من أهم وألمع المراسلين الذين واكبوا الحروب والانتفاضات الشعبية والانقلابات العسكرية وغيرها في بلدان العالم الثالث في النصف الثاني من القرن العشرين. وبحكم عمله مراسلاً لوكالة الأنباء البولونية انطلاقاً من الستينات من القرن الماضي، تنقل كثيراً في القارة الأفريقية ليكون حاضراً في الكونغو عند مقتل الزعيم باتريس لومومبا. وكان في العديد من البلدان الأفريقية الأخرى التي شهدت انقلابات عسكرية وحروباً أهلية وانتفاضات شعبية ضد الاستبداد والفساد. وكان في أديس أبابا عن انهيار نظام الإمبراطور هيلاسيلاسي. وكان في شيلي عند مقتل صديقه سلفادور الليندي. وكان في طهران عند اندلاع الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه عام 1978، وعند انهيار ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، طاف في كل البلدان التي تخلصت من الهيمنة الشيوعية ليصدر كتاباً بديعاً بعنوان «الإمبراطورية».

يجدر بنا أن نشير أيضاً إلى التحقيق المثير للاهتمام الذي أصدره في منتصف الثمانينات من القرن الماضي الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان بعنوان «الريح الصفراء» راسماً فيه صورة مرعبة عن الأوضاع المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون في ظل الاحتلال الإسرائيلي. وقد تضمن ذلك التحقيق الذي نشره الراحل محمود درويش في مجلة «الكرمل» حقائق أفزعت الرأي العام العالمي.

* كاتب تونسي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«شبح عبد الله بن المبارك»... رواية تستلهم التراث بروح معاصرة

«شبح عبد الله بن المبارك»... رواية تستلهم التراث بروح معاصرة
TT

«شبح عبد الله بن المبارك»... رواية تستلهم التراث بروح معاصرة

«شبح عبد الله بن المبارك»... رواية تستلهم التراث بروح معاصرة

عن دار «الشروق» بالقاهرة صدرتْ حديثاً رواية «شبح عبد الله بن المبارك» للكاتب المصري ماجد طه شيحة، الذي يستلهم فيها حكاية تراثية شهيرة لشخص يُدعى «عبد الله بن المبارك» يقال إنه شُوهد بمكانين مختلفين في وقت واحد. يستعيد المؤلف تلك الحكاية من خلال بناء درامي معاصر يقوم على ثنائية الأستاذ الجامعي والطالب، التي تبدو بدورها استلهاماً لثنائية الشيخ والمريد، إذ يروى الأستاذ تلك القصة على تلميذه من أجل سماع رأيه فيها.

يبحث الطرفان معاً حقيقة الرجل الصالح الذي شُوهد في مكانين خلال وقت واحد، في البيت الحرام وهو يحج، يحدث هذا وهو وفي دكانه بمدينته، وهل يمكن أن يقبلا بالتفسير الشعبي الذي طرحه الناس على ذلك بأن الله أرسل ملاكاً يحج نيابة عنه لأنه ساعد بأموال حجه امرأة مسكينة.

تجعل تلك المناقشة الأستاذ المتخصص في فيزياء الكم أكثر قرباً من تلميذه، فيهديه هاتفاً مغلقاً كأمانة، ويطلب منه ألا يسلمه لأحد إلا بعد سماع خبر موته. يتضح أن الهاتف يخص زوجة الأستاذ الذي اكتشف عبره رسائل غرامية بينها وبين حبيب مجهول. يختفي الأستاذ في ظروف غامضة ليجد الطالب نفسه في مأزق وحيرة كبيرين. تتصاعد الأحداث ويتعمق المأزق بظهور الزوجة ومطالبتها باسترداد الهاتف، مدعمة مطلبها برواية أخرى مختلفة عن رواية الزوج المختفي.

يتخذ المؤلف من تلك القصة منطلقاً لطرح تساؤلات ذات طابع فلسفي عن علاقات الأجيال، ومعنى الأمانة، وحدود المسؤولية الأخلاقية في إطار من التشويق والغموض.

وماجد طه شيحة، روائي مصري، مواليد 1978 بمحافظة كفر الشيخ، صدرت له مجموعتان قصصيتان «كل الحبال الرديئة» و«متاهة الغول»، وأربع روايات هي: «سلفي يكتب الخطابات سراً» و«درب الأربعين» و«إيلات» و«المعبر»، حاصل على جائزة «محمود أمين العالم في القصة القصيرة» في دورتها الأولى عن قصة «أشياء البحر».

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«الباب المقفول يرد القضاء المستعجل.

تقول أمي، تصوب النظر إلى وجهي وتبتسم كأنها تعتذر، وتتوه في الاحتمالات.

مجرد افتراض، فالافتراض هنا هو متن الحكاية وهامشها المسند، والحكاية تُروى عبر افتراضات تطرحها الحقيقة. والمتن أن أمي أيقظها دق على باب بيتنا المغلق، والافتراض ماذا لو ظلت نائمة بدورها أو استيقظت ولم تفتح الباب؟ فمن يدري من يدق الباب قبل منتصف الليل بقليل؟ أو فتحت الباب واعتذرت للطارق: إنني نائم وأن نومي ثقيل وإيقاظي متعذر؟ ماذا لو لم تدعه للدخول وانصرف خائباً؟ هل كان سيذهب إلى حال سبيله وما كنت أنا راوياً لهذه الحكاية؟

قالت أمي وهي توقظني: الأستاذ يريدك ثم انصرفت.

عندما رأيت وجهه لم يبد لي أن خلفه حكاية طويلة، لا شيء يدل على أنه تقصّد المجيء إليّ أنا بالذات ولولا توقيته لقلت إنه يمر فتذكر أمراً، فهذه أول زيارة له بالرغم من صلتنا التي ظلت تتوثق عبر الأشهر الأخيرة، والتي كانت محل غبطة أمي وأبي، ابننا يمشي مع الأستاذ، عند الأستاذ سهران، مع الأستاذ، ولكن دوام الحال من المحال، سرعان ما ستنقلب هذه العلاقة إلى مثار سخط لا ينقطع.