صراعات الحب و«الميديا»... روائيّاً

أحمد صبري أبو الفتوح يكشف مخاطرها في «صاحب العالم»

صراعات الحب و«الميديا»... روائيّاً
TT

صراعات الحب و«الميديا»... روائيّاً

صراعات الحب و«الميديا»... روائيّاً

ترفع رواية «صاحب العالم» للروائي أحمد صبري أبو الفتوح الحب إلى مصاف الأسطورة، فمعظم شخوصها تعيش أحلامها وصراعاتها في ظلالها وتتشبث بها كطوق نجاة، بل إن بطلها عبد الحميد دهمش، الموظف الكادح البسيط والذي ترقّى لمنصب السكرتير العام المساعد للمحافظ، وأصبح قدوة للدقة والمثابرة والأمانة يتحول غيابه المفاجئ بعد خروجه للمعاش لغزاً وأسطورة حب، تبدأ فصولها عقب رسالة كتبها قبل اختفائه بساعات على صفحته بـ«فيسبوك» عن تعرّضه للملاحقة بسبب امتلاكه أدلة دامغة ضد بعض المسؤولين على ارتكابهم جرائم خطيرة تمس المال العام. تتناثر الشائعات والأقاويل حول هذه الأدلة التي تتمتع بقدر كبير من السرية، وكيفية تسريبها من «الديوان العام». ينجرف الجميع في البحث عن الرجل رافعين لافتات تحمل صوراً له تغطي أرجاء المدينة، تلاحقها الشرطة وتصبح حديث الناس في المقهى الذي تعود أن يأتنس فيه بصحبتهم، يتذكرون حكايته وينوّعون في روايتها بتلقائية وكأنهم يعيشون حلماً سماوياً، يحلّق بهم بعيداً عن واقع مضطرب، يزيده تعقيداً توحش سطوة الميديا والإنترنت وغيرها من الأدوات والوسائط التي أصبحت أوكاراً للتجسس أفرزتها قوى غاشمة لبسط سطوتها ونفوذها على العالم.

في هذا الفضاء المركب تلعب الرواية على الحب وتنحت شخوصها من طينته الساحرة، ليس فقط كمحض قيمة سامية، إنما بكونها ابنَ الحياة ومصفاةً لشوائبها ومفارقاتها. في المقابل، يتحول الخوف منه وباسمه حارساً له ولأسطورته الخالدة، محدداً شكل وطبيعة المسافة ما بين الرغبة والفعل لتظل مشتعلة في الذاكرة والحلم، سواء بالقدرة على الالتصاق والتماهي بفعل الحب نفسه، وترويضه بحنان أمومي، أو بالقدرة على الهروب منه، لتصبح المسافة أكثر اشتعالاً وتوهجاً، ما بين الذات والموضوع، ما بين الأسطورة في سمتها الأعلى المطلق وظلها المتناثر على الأرض، والتي تسعى الرواية من خلاله إلى تأصيلها، وخلق مسارات حية ومتجددة لها في طبقات السرد والوعي، والتعامل الرهيف مع التوقعات بسمتها الإنساني البسيط المعقد، والسعي إلى نقضها أيضا، بما يحقق حالة من التواؤم والحميمية بين زمن الرواية المتخيل، وزمن الواقع المادي الماثل للعيان، فكلاهما ينفتح على الآخر بحيوية درامية تناوش العمق والسطح، تنعكس على طبيعة شخصيات الرواية، ويستفيد الكاتب في بنائها من خبرته السابقة في العمل بسلك النيابة والقضاء. فباستثناء ديلارا المراكبي ذات العرق التركي الأرستقراطية ممشوقة القوام والتي زاملت البطل لفترة في العمل، كل الشخصيات ابنة القاع، عاركت ظلمته وبؤسه وكافحت حتى خرجت بإرادة الحب ومصادفته إلى بحبوحة الحياة. لكنها مع ذك تظل مسكونة بخوف تتعدد صوره منذ الطفولة ويصبح لاعباً أساسياً في تكوين شخصية بطل الرواية عبد الحميد دهمش؛ فهو خوف غريزي من المجهول الغامض، من الحب والأصدقاء والرفاق والزملاء في الحي والمدرسة؛ من ألاعيب السياسة وسطوة القوة واللامبالاة بالضعف الإنساني. لكنه مع ذلك يلوذ به في لحظات الخطر كشكل من أشكال الدفاع عن النفس، حتى أنه التلميذ الوحيد الذي كسر أنف زميله «رزق مرزبة» فتوة الفصل والمدرسة ذي الجسد الضخم الفاشل كاره التعليم، والذي سخر من ذكائه وتفوقه وإشادة المعلّم به، فيبطحه بقطعة خشب في وجهه يسقط على أثرها أرضاً، ثم يعتذر له أمام الجميع في الفصل وينحني مقبلاً جبهته، على أثرها تنشأ محبة ما بينهما. ورغم ذلك تتسع دائرة الخوف في حياته، حتى بعد أن يتقلد عدداً من المناصب المهمة، ظل يقترب من الرؤساء ليس بدافع التقدير والاحترام والحب فحسب، إنما أساساً بدافع الخوف من غضبهم وأن يصل إلى حد لا تحمد عقباه يعرقل صعوده في الترقي الوظيفي... فيكتب رسالة عن كيفية التعامل مع مرؤوسيه واكتساب رضاهم. سرعان ما تتحول إلى «روشتة» يتداولها العاملون في الديوان. لكن يظل الخوف هو الحدس الأقوى في رؤيته للعالم والأشياء من حوله، وينعكس على علاقته العاطفية مع زوجته حسناء، رفيقته في العمل، ويشتد مع مرضها العضال الذي أودى بحياتها. ليبقى وحيداً، يلملم ذكرياتهما معاً، ويصبح الفقد حصاراً مدمراً لكل شيء في حياته، ويمس علاقته بولديه المهاجرين، كما يختلط عليه الوهم بالحقيقة، وأن الكل أصبح يتجسس عليه.

في مقابل كل هذا الإحباط، تكشف الرواية عن معادلة أخرى للغة الحب الناعمة، فإذا كانت تكمن دائماً في الداخل، فللخوف أيضاً لغته الخاطفة الخادشة القادرة على تشوف ما هو كامن تحت قشرة العيون حتى وإن بدت مغمضة الأجفان. تومض هذه اللغة في علاقة البطل المتخيلة مع نسائه المفضلات، بخاصة «توحيدة» جارته الأرمل الشابة المغوية «سحلية الجدران» كما يسميها والتي تتلصص عليه ليلاً ونهاراً، وتعاني أرق الوحدة بعد وفاة زوجها المقاول الشهير الطاعن في السن، وأيضاً من خلال عدسة الكاميرا التي تراقب الداخل والخارج من وإلى العمارة، وتحتفظ بها في بيتها بحكم كونها رئيس مجلس إدارة المكان.

يختلط ترويض الحب بما تنز به هذه اللغة من قطرات دافقة بالشهوة والحلم، كأنها أجمل الجرائم التي ترتكبها العيون ولا يطالها القانون. تصف الرواية ذلك في مشهد ص (51) بين البطل وجارته المغوية، حيث تلمح اللغة إلى شخص آخر متخفٍّ يراقب المشهد من الداخل: «أعجبه حديث عينيها، وكاد من فرط طرافته يضحك، لكن الشخص المنتبه بداخله منعه، تاركاً باب الدهشة مفتوحاً على مصراعيه، فماذا لو أنه بدلاً من أن ينزل السلم يندفع نحو شقتها، ساحباً إياها ثم يغلق الباب، ما الذي سيحدث؟ إنها نوع آخر من النساء، كل ما فيها مثير، حتى تصميمها الذي يجعل حريق عينيها مشتعلاً على الدوام».

بعد وفاة زوجته وملاحقته من قِبل «صاحب العالم» وشركاته المزعومة في صناعة الحب والترويج له، وإبلاغه باختياره ليكون بطلها لهذا العام، وأنهم على علم تام بسيرته وكل تفاصيل حياته الظاهر منها والباطن، وأنهم تقديراً لهذا يعطونه مهلة أسبوعاً ليفكر في موافقته على الإعلان عن وقائع الاختيار، وإطلاقها عبر احتفال باذخ بفوزه على شتى القنوات والمنافذ الإعلامية في العالم. في هذا الجو المشحون بالتوتر والقلق، من بين كل نسائه ودوائر الحلم بهن، تبقى توحيدة المرأة الاستثناء التي اقتحمت حياته وعششت في ظلامها، واستطاعت أن تبدد الكثير من غشاوة حلكتها الدامسة، خاصة بعد أن خارت قواه، وتشوش عقله، إلى حد الهذيان والجنون، لقد جعلت جسدها وحياتها وديعة لديه ورهن إشارته للعيش معاً في النور وبشكل شرعي، إنه رجلها الوحيد في العالم، لا تأبه بفارق السن بينهما، فقد عاشته كأب وحبيب حنون مع زوجها المقاول الطيب الذي أغدق عليها وأسرتها الفقيرة، وقبل أن يموت يسلمها وثائق ومستندات شركاته وممتلكاته وأمواله في البنوك ويوصيها بأن تقسيم تركته وميراثه مع أبنائه من زوجته الأولى لا بد أن يكون بحضور جارهم عبد الحميد دهمش؛ حتى لا يجور أحد منهم عليها. لقد أحبها البطل بالفعل، وتجاوز في سريرته إيقاع لغة العيون الخاطف، كما أنها المرأة الوحيدة التي أوصى صديقه رزق مرزبة مدبر طريقة هروبه من قبضة رجل العالم في جزيرة نيلية معزولة، بأن يعتذر لها عن عدم استطاعته تحيتها وهو يسرع في مغادرة العمارة، وأيضا يطلعها على سرِّه ومكانه، بل طريقة الوصول إليه. وهو ما يحيلنا الى كهف بطل نيتشه وعزلته في أعلى الجبل في كتابه الشهير «هكذا تحدث زرادشت»، والتي تستهل الرواية فصولها التسعة بومضة منه.

هناك خوف غريزي من المجهول الغامض... من الحب والأصدقاء والرفاق والزملاء في الحي والمدرسة... من ألاعيب السياسة وسطوة القوة واللامبالاة بالضعف الإنساني

من هذه الزاوية يمكن النظر لشخصية «رزق مرزبة» كبطل مواز لبطل إشكالي أدمن العيش في منطقة الظل بتوازن شديد الدقة بين المع والضد، لا يدفعه للمغامرة واقتحام مناطق وعرة في الحياة، بينما لم يأبه به صديقه المشاكس ولم يقم له أي حسابات، بل عاش الحياة كسلسلة من الأخطاء والجرائم الكاشفة، تعرّف من خلالها على حياة السجن ومراتب القوة والضعف وراء الجدران والزنازين، وكيف يرتقي السجين الكبير ذو المهابة والقوة حتى يصبح «صاحب الليمان» على غرار «صاحب العالم» المزعوم. بجوار هذه الصورة تطل صورة أخرى من ثقوب الحياة في بساطتها الحانية من خلال «كشكه» الذي ساعده في إقامته صديقه دهمش على ناصية أحد الشوارع المهمة، فلم يعد هو المجرم «الليمونجي» صاحب الهيئة المخيفة والجسد الضخم الذي قضى نصف عمره في السجن، إنما طاقة أمل محبة للمعرفة ولحياة ضلت الطريق إلى الحب.

يبقى في هذه الرواية شديدة التميز، جماليات طبقات الحكي بضمير الغائب وكيف تلاحمت في سيمفونية سردية امتزجت فيها حدوسات شتى للفكر والجمال، من الرؤية العميقة المتأملة لعالم طبقة الموظفين ومعاناتهم اليومية، إلى الحس بالطرافة والفكاهة والسخرية ابنة الروح الشعبية وحكمتها البليغة المبثوثة في ثنايا الحوار، «إذا كنت في بلد يعبد الجحش يا عبد الحميد حِش وارميله». ويتشكل كل هذا في قماشة سردية من نسيج خاص، يسلِّم السابقُ فيها اللاحق خيوط الوقائع والمشاهد والرؤى والأحداث، يشدها ويغزلها بحنو وسلاسة، ليصل الصراع بشكل طبيعي لذروته الدرامية القادرة على صناعة أسطورتها الخاصة بحب وفن.


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.