سر دلمون حيث الغراب لا ينعق ولا الاسد يفتك

اسم يظهر في مصادر عديدة أقدمها يعود إلى الفترة الممتدة من 3200 إلى 2500 قبل الميلاد

الملك أور نانشي كما يظهر على لوح سومري محفوظ في متحف اللوفر
الملك أور نانشي كما يظهر على لوح سومري محفوظ في متحف اللوفر
TT

سر دلمون حيث الغراب لا ينعق ولا الاسد يفتك

الملك أور نانشي كما يظهر على لوح سومري محفوظ في متحف اللوفر
الملك أور نانشي كما يظهر على لوح سومري محفوظ في متحف اللوفر

يحتفظ متحف اللوفر بلوح من الحجر الجيري يمثّل أور نانشي، ملك لجش، إحدى أقدم المدن السومرية في جنوب العراق. يعود هذا اللوح إلى 2500 سنة قبل الميلاد، ويحمل كتابة منقوشة يرد فيها اسم «دلمون»، الجزيرة التي احتار أهل الاختصاص في تحديد موقعها منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا. يرد هذا الاسم في السجلات التاريخية القديمة، كما يرد في النصوص الأدبية، حيث يحظى بقدسية خاصة، وتظهر الأبحاث أنه ارتبط أوّلاً باسم قطاع اختلفت الآراء في تحديد موقعه الجغرافي، وارتبط لاحقاً بجزر البحرين ومناطق واسعة من شرق الجزيرة العربية.

يجمع اللوح الجيري المحفوظ في اللوفر بين صورتين للملك أور نانشي. تحتلّ الصورة الأولى النصف الأعلى من اللوح، وتمثّل الملك منتصباً، حاملاً على رأسه سلّة، ويظهر من خلفه حاجبه رافعاً ذراعيه باتجاهه. أمام الملك، يحضر 4 شبان في وضعيّة واحدة، وهم أبناء لملك، كما تشير الأسماء المنقوشة على ثيابهم. وتتقدّمهم امرأة تقف في مواجهة الملك، هي على الأرجح والدتهم. في النصف الأسفل، يجلس الملك على عرشه حاملاً بيده اليسرى كأساً، ويظهر من خلفه حاجبه رافعاً إبريقاً في حركة موازية، ويحضر من أمامه الأبناء الأربعة من جديد، كما في المشهد الأعلى. يتبع هذا التأليف المنطق التراتبي في الصياغة؛ حيث يبدو حجم قامة الملك أكبر من حجم قامات أبنائه، وتبدو قامة الحاجب الأصغر حجماً في هذا التأليف.

يرتدي الملك وأبناؤه لباساً بسيطاً، وهو اللباس السومري التقليدي، ويتمثّل بثوب نصفي عريض مصنوع من الصوف، يمتد من أسفل الصدر إلى ما تحت الركبة. ويتّضح معنى الصورة المزدوجة في الكتابة المنقوشة التي ترافقها. يسمّي هذا النقش أور نانشي، ملك لجش، كما يسمّي والده وجده، وتذكر أنه بنى معبدين وهيكلاً، وجاء بخشب من بلاد بعيدة «في سفن من دلمون». في الصورة العليا، يظهر الملك البنّاء عاملاً يعمل على تشييد المعابد، وفي الصورة السفلى يظهر على عرشه في خلوة ملكية.

يحضر اسم دلمون في النص المنقوش، وهو اسم يظهر في مصادر عديدة، أقدمها يعود إلى الفترة الممتدة من 3200 إلى 2500 قبل الميلاد، ويجمع البحاثة على القول بأن هذا الاسم يشير إلى موقع أقيمت عليه حضارة دلمون الأولى في هذه الحقبة. كذلك، يرد هذا الاسم في مصادر تعود إلى حقبة ثانية تمتد من 2500 إلى 2300، ويرى فريق من البحاثة أن اسم دلمون يرتبط في هذه الحقبة بالبحرين، بينما يرى فريق آخر أنه يرتبط بمواقع أخرى. يحضر اسم دلمون أخيراً في مصادر تعود إلى حقبة طويلة تمتد من 2200 إلى 567 قبل الميلاد، وتُعد جزر البحرين مركز دلمون في هذه الحقبة بإجماع أهل الاختصاص.

في المقابل، يُذكر اسم «ديلون» في نص أدبي شهير يضفي على الموقع طابعاً مقدّساً، فهو اسم «الموطن الطاهر» و«المحل النظيف»، و«الأرض المشرقة» التي لا تعرف المرض والحزن والموت. وفي هذه الأرض، «لا ينعق الغراب الأسود»، و«الأسد لا يفتك»، و«المنشد لا ينتحب» و«لا ينطق بالرثاء». عانى هذا الموطن من القحط لأن آباره «ذات الماء المر» كانت مالحة، فأمدّها سيّد المياه أينكي بالماء العذب، فباتت «تشرب ماء الرخاء». بموازاة هذا النص السومري، أُعطيت دلمون بُعداً أسطورياً حين سعى جلجامش إلى الوصول إليها بحثاً عن زهرة الخلود، وهي الجزيرة التي يقطنها الناجي من الطوفان الذي حاز الحياة الأبدية.

على مدى عقود من الزمن، توالت الدراسات الدلمونية وتضاربت، وباتت أشبه بمتاهة يصعب الخروج منها بالجواب الشافي. في نهاية القرن التاسع عشر، قيل إن دلمون تقع في جزيرة البحرين الكبرى، وفي منتصف القرن العشرين، قيل إنها تنتمي إلى حضارة وادي السند وتقع في شبه القارة الهندية. بعدها، جرى التمييز بين دلمون الأولى ودلمون الثانية، وقيل إن الأولى تقع في القرنة، جنوب العراق، وإن الثانية تقع في جزيرة البحرين. في المقابل، قيل إن دلمون نشأت قديماً في شرق الجزيرة العربية، كانت تمتد من منطقة أبقيق حتى جزيرة تاروت، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، ثم توسّعت وشملت الأحساء وجزر البحرين، وبلغت جزيرة فيلكا التي تقع في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي، وتتبع اليوم دولة الكويت. وتظهر أعمال التنقيب المستمرة أن الثقافة الدلمونية بلغت كذلك البر الرئيسي وجزيرة أم النمل في الكويت.

تكوّنت معالم الثقافة الدلمونية بين عامي 2300 و2050 بعدها تحولت دلمون إلى مملكة نعمت باستقلالها، ولعبت دوراً رئيسياً في التجارة البحرية

تكوّنت معالم الثقافة الدلمونية بين عامي 2300 و2050، بعدها تحولت دلمون إلى مملكة نعمت باستقلالها، ولعبت دوراً رئيسياً في التجارة البحرية، وشواهد هذه الدولة حاضرة في البحرين، وقد كشفت عنها البعثات التي دأبت على المسح والتنقيب منذ منتصف القرن الماضي. يُعرف هذا العهد بعهد دلمون القديم، وقد استمرّ حتى عام 1650 قبل الميلاد؛ حيث سيطرت سلالة الكيشيين البابلية على البلاد بشكل كامل، وبقيت دلمون تحت هذه السيطرة حتى عام 1000، ويُعرف هذا العهد بـ«دلمون الوسيط». مع نهاية الحكم الكيشي، حظيت دلمون على مدى 5 قرون بشكل من أشكال الحكم الذاتي في ظل الإمبراطورية الآشورية، وعاشت عهدها الأخير الذي انتهى في القرن الخامس قبل الميلاد؛ حيث خضعت لسلالة الأخمينيين التي أنشأت الإمبراطورية الفارسية الأولى.

الشواهد الأثرية الخاصة بهذه الحضارة متعددة ومتنوعة، ولعلّ أبرزها الأختام الأسطوانية المنمنمة التي تحمل نقوشاً تصويرية تختزل عالماً واسعاً من الدلالات متعددة الوجوه والمعاني. تحمل بعض الأختام صوراً يغلب عليها الطابع الديني. ويحمل البعض الآخر صوراً تبدو أشبه بالمشاهد المدنية. يشكّل هذا النتاج في الدرجة الأولى امتداداً لميراث بلاد ما بين النهرين، غير أنه يحمل في الدرجة الثانية طابعاً خاصاً يتجلّى في بروز ملامح محليّة كشفت عنها الدراسات المتأنية المتواصلة.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام
العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام
TT

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام
العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، 19 دولة عربية و12 أجنبية.

ويحلّ الأردن «ضيف شرف» على المعرض هذا العام. في حين أعلن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب اختيار العالم الجغرافي والمحقق اللغوي والمترجم الكويتي عبد الله الغنيم ليكون «شخصية المعرض».

وقال مدير المعرض، خليفة الرباح، إن اختيار الغنيم «جاء تقديراً لإسهاماته الكبيرة في الثقافتين المحلية والعربية، وهو ما تَجسَّد في حصوله على (وسام الاستقلال من الدرجة الأولى) من الأردن عام 2013 لدوره في إثراء قاموس القرآن الكريم، بالتعاون مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».

شغل الغنيم منصب وزير التربية خلال الفترة بين 1990 و1991، ووزير التربية والتعليم العالي بين 1996 و1998، ورئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية من 1992 حتى الآن، كما عمل أستاذاً ورئيس قسم الجغرافيا في جامعة الكويت بين 1976 و1985، وعضو مجمع اللغة العربية في سوريا ومصر، وعضو المجلس الأكاديمي الدولي لمركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد.

وذكرت عائشة المحمود، الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أن المعرض يقام هذا العام تحت شعار «العالم في كتاب» ليكون تعبيراً عن أهمية الكتاب ودوره في تقديم الثقافة للمجتمع.

وأضافت أن النشاط الثقافي المصاحب للمعرض يقام عبر 3 منصات مختلفة، هي «الرواق الثقافي» التي تم استحداثها العام الماضي بطابع شبابي، ومنصة «المقهى الثقافي» التي تقدم أنشطة بالتعاون مع مؤسسات النفع العام والمؤسسات الأهلية والجهات الحكومية، و«زاوية كاتب وكتاب» التي استُحدثت هذا العام لربط القارئ بالكتاب بطريقة مباشرة، وتتضمّن أمسيات لعدد من الروائيين.

وأشارت إلى أن مجموع الأنشطة المصاحبة للمعرض، الممتد حتى 30 نوفمبر (تشرين الثاني) بأرض المعارض في منطقة مشرف، يتجاوز 90 نشاطاً بما فيها الاحتفاء بالرموز الثقافية الكويتية والعربية.

وعدّ وزير الثقافة الأردني مصطفى الرواشدة، أن مشاركة الأردن في معرض الكويت الدولي للكتاب «تُعدّ تتويجاً للعلاقات الثقافية بين البلدين».

وأعرب، في بيان، عن شكره لدولة الكويت بمناسبة اختيار الأردن «ضيف شرف» للمعرض، مؤكداً أن «دولة الكويت كانت ولا تزال منارةً للمثقف العربي بتجربتها في الإصدارات الرائدة».

وأوضح الرواشدة أن المشاركة الأردنية تتمثل في هذا المعرض من خلال الجناح الذي صُمِّم هندسياً ليعبِّر عن النمط المعماري الحضاري والتراثي الأردني، بما يضمه من مفردات تتصل بثقافة الإنسان، إضافة إلى الرموز التاريخية والثقافية المتنوعة.

وأضاف أن المشارَكة في معرض الكويت الدولي للكتاب «تمثل ثمرةً تشاركيةً بين المؤسسات الثقافية الأردنية؛ لتقديم صورة مشرقة للمشهد الثقافي الأردني في تعدده وتنوعه وثراء حقوله الإبداعية».