«باهبل» لرجاء عالم... مرثية لأجيال من الحجازيات

من روايات القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» العربية

رجاء عالم
رجاء عالم
TT
20

«باهبل» لرجاء عالم... مرثية لأجيال من الحجازيات

رجاء عالم
رجاء عالم

لا حدود عند رجاء عالم في روايتها «باهَبَل: مكة 1945 - 2009» - دار التنوير 2023 - بين المحسوس والمتخيل، الراهن والماضي، الدنيوي والأخروي، الحي والميت، عندها كل العوالم متداخلة، لا حدود تقوم بينها، الكل مفتوح على الكل، متداخل فيه، وعلينا، نحن القراء، أيضاً أن ننفتح على هذا كله، وأن نعتاد ونحن نقرؤها الانتقال السريع بين هذه العوالم المتناقضة، والتي تؤلف هي بينها في واعيات شخصياتها، مقنعةً إيانا بأنه لا شيء ينفصل عن شيء.

لاعالم منفصلاً عن عالم، لا زمن مستقلاً عن زمن، إنما يوجد الكل في بوتقة واحدة، منصهرين معاً في كل لحظة من لحظات الوعي.

في عالمها أيضاً تمتزج الرحمة بالقسوة، الحب بالكراهية، الغفران بالانتقام، التحقق بالحرمان، الثورة بالإذعان. في عالمها تجتمع المتناقضات لتصنع أفراح البشر وأتراحهم، مع التركيز على الأتراح، خصوصاً إذا كنتِ امرأة من أهل مكة في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فترة التحولات الكبرى في الكيان الاجتماعي للحجاز. نستطيع أن نعمّم وأن نبسّط الصورة على نطاق أوسع، لكن هذا شأننا وحدنا، فالكاتبة ترسم صورة شديدة الخصوصية لمكة، بل لأسرة واحدة في مكة بتشعباتها وأجيالها، برجالها ونسائها وأطفالها، بثباتها وتحولاتها، بأحيائها وأمواتها، هي عائلة السردار، عائلة عريقة ذات سطوة وثروة وهيبة تنتقل من أجيالها القديمة، حين كان أحد أسلافها حاكماً لمكة، إلى الأب الحالي مصطفى السردار، في زمن الرواية. في العائلة يقوم الأب مقام الرب بلا أدنى مبالغة. وللتقريب من عالم الفن الروائي، لنقلْ إنه ينتمي إلى السلالة التي ينحدر منها السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ المشهورة. مصطفى السردار كلمته تُعلي وتخفض، ترزق وتمنع، تُزوّج وتُطلّق، وفي معنى من المعاني تحيي وتميت. يعم سلطان كلمته الجميع؛ الزوجات والإماء، الأبناء والأحفاد، الكبار والصغار، الذكور والإناث، في الدار وفي خارج الدار. في مُلكه يعيش الجميع، يُسبّحون بحمده ويمتثلون لأمره، يطمعون في ميراثه من مال وسطوة إن كانوا ذكوراً، ويعشن ليلعقن جراح ما أنزلته بهن سطوته لبقية العمر إن كُنّ إناثاً.

غلاف الرواية
غلاف الرواية

رواية «باهبل» هي مرثية لأجيال من الحجازيات، هي رواية تَذكُّر، رواية تسترجع فيها الكاتبة، مكيّة المولد، مخزوناً هائلاً من الموروث المحكيّ والمُعايَن من الأجيال السابقة عليها مباشرة، وتلك التي عاصرتها في زمن تحولات كُبرى في المجتمع السعودي عموماً، وفي الحجاز ومكة على وجه الخصوص. ترصد الرواية الحياة الاجتماعية لمكة منذ أربعينات القرن العشرين، حين كانت المنطقة ما زالت على شفا الانتقال من العصر شبه الوسيط إلى العصر الحديث، تكتب عن عصر لا يتجاوز سبعين سنة مضت من يومنا هذا، لكنه كان عصراً ما زال فيه رجال يقتنون الإماء، كما يصنع مصطفى السردار الذي يعترف بأبوة «سكرية»؛ واحدة من أهم شخصيات الرواية، والتي أنجبها من إحدى إمائه، وهو الاعتراف الذي يساويها بأخواتها الحرائر. كان عصراً ما زالت فيه الحمير هي الوسيلة الرئيسية للانتقال، لا السيارات الفارهة، كان عصراً لا تعرف فيه المرأة الطريق ولا التعليم، عصراً لا يطلب فيه الرجال الزواج من فتاة بعينها، وإنما يطلبون مصاهرة مصطفى السردار في أي من بناته، وهو يختار مَن يزوِّج ممن. عصراً تستمر فيه سطوة الأب ذي الجاه على بناته، حتى بعد زواجهن، فهو يستطيع أن يأمر أزواجهن بتطليق بناته متى شاء ولأي سبب يعنّ له. تعيش نساء الأسرة حياة تخلو من الحياة، إن جاز التعبير، حياة مظلمة بين جدران البيت، حياة غاية ما فيها من نور ساعة تُقضى فوق سطح الدار. حياة خالية من التحقق العاطفي أو الجنسي، أو أي لون من ألوان التواصل التعويضي مع العالم الخارجي، وهو ما تُلخّصه سكرية التي تعيش وتذبل وتموت في دار أبيها وبحكمه المتعسف – تلخصه قائلة: «تظن الحنوط سر فرعوني؟ بيوتنا المكّاوية شغلتها تحنيط البنات أمثالي» (ص 225). لذلك أيضاً فإنها حين يموت الرجل الذي زوّجها أبوها الديكتاتور منه، وهو على علم بسُمعته المِثلية الشائعة على الألسنة ولم يدُم الزواج سوى أسابيع معدودة يطلّقها بعدها دون أن يلمسها - حين يموت ذلك الرجل بعد سنين طويلة نسمع سكرية تقول: «لا أسامحه، لا دنيا ولا آخرة، لا هو ولا أبويا ولا إخواني». عبارة تُدين فيها عالم الذكور بكل تشعباته؛ الزوج والأب والإخوة، ففي ذلك الزمن، وكما نرى في الرواية، كانت كل أنثى ضحية، وكل ذكر قامعاً مُضطهِداً متسلطاً بصفة من الصفات، كانت النساء ممتثلات للذكور في كل المواقع الأُسرية، لا يملكن من أمرهن شيئاً، لكن الكاتبة تمثلهن متفوقات عقلياً دون تعليم، أكثر حكمة وصبراً، أكثر مطواعية ومرونة، لديهن الخيال والعطف والتعاطف على الرغم مما يثور بينهن من مشاحنات، وليس لدى الرجال سوى السلطة والقهر والأنانية. تخلق الكاتبة جمهرة من الشخصيات النسائية، جميعهن من محيط أسرة واحدة، وتصورهن تصويراً حياً حميماً وكأنها قد عرفتهن في الحياة معرفة شخصية، ومما يزيد في حيوية تصويرهن أنها تنطقهن باللغة المكية لا الفصحى.

على أنه إن كانت الكاتبة ترسم صورة قاتمة لعالم الرجال بصفة عامة، فإنها لا تتركنا بغير تقديم نموذج صالح لرجل المستقبل، إن جاز التعبير، أو الرجل الذي يُقدّر المرأة ويحبها محبة الند للند، نجد هذا النموذج في شخصية عباس/ نوري، حفيد مصطفى السردار، وابن واحدة من بناته المقهورات. يحتلّ عباس/ نوري مساحة كبيرة في الرواية، مما يتعذر مناقشته دون الإطالة، وهو له اسمان؛ لأنه يعاني نوعاً من فصام الشخصية، فيرمز كل اسم لواحد من جانبيه. الخلاصة أن عباس/ نوري يجمع في تكوينه النفسي بين مواصفات الشخصية الذكورية ومواصفات الشخصية الأنثوية، بين الحس الرهيف والميل للفن والجمال والقدرة على الخيال، وبين الروح العملية القادرة على التعامل مع السوق والنجاح في المشروعات التجارية وتكوين الثروة. يظل عباس/ نوري من صباه إلى رجولته قريباً من عماته وتراثهن النسائي، مشاركاً إياهن في الوجود بالمنطقة الرمادية بين عالم الأحياء وعالم الأموات، لكنه، من ناحية أخرى، لا ينال من أبيه وأعمامه وأبناء أعمامه سوى السخرية واتهامات الخنوثة، لا يشفع له تفوقه الدراسي ونجاحه العملي، لكنه الرجل الوحيد في الرواية الذي يحظى بعطف الكاتبة، والذي يبدو من تصويرها إياه أن الرجل بوصفه جنساً لا يقاس ارتقاؤه إلا بمقدار ما يتسلل في تركيبته من عناصر الأنوثة.

ليست رواية رجاء عالم رواية بوليسية، وإنما هي رواية غنائية رمزية من الطراز الأول، فلم نكن بحاجة لدخولها في الرواية تشرح فلسفتها وثنائياتها وشخصياتها من خلف قناع واهٍ.

الرواية مسكونة بهاجس الموت، لعل السبب هو أن نساءها يعشن حياة غير بعيدة الصلة من الموت، يعشن أسيرات البيوت وأروقتها المظلمة، كما أن الموتى هم أسرى القبور وظلامها، أو لعلها الحياة المكية في دار على مرأى من الحَرَم، حيث لا يتوقف ورود الجنازات وعلى مقربة من دكان «الحانوتي» الذي يُعِدّ الموتى للدفن. أياً ما كان الأمر فإن الكاتبة تنجح نجاحاً مدهشاً في خلق لغة وصور وأخيلة تجعل للموت والموتى حضوراً في الرواية لا يقلّ عن حضور الحياة والأحياء. يتداخل العالمان بشخوصهما تداخلاً تاماً، حتى نكاد أحيانا لا نعرف مَن الحي ومَن الشبح، وهذا لا يتحقق إلا بفضل رهافة لغوية وخيال حسّاس، ما يجعل الرواية رغم رسوخها في التقليد الواقعي تكاد تعطي الذريعة لمن شاء أن يدّعي لها محلاً في تقاليد الواقعية السحرية. لعل الكاتبة تحاول تدجين الموت، تحاول «ألفنته»؛ أن تجعله أليفاً، أن تجعله جزءاً من الحياة، ففي الرواية؛ الذي يموت لا يغادر الحياة، لا يغادر الحدث، لا يهجر الأحياء الذين غادرهم، بل يبقى فاعلاً مؤثراً، رائحاً غادياً؛ لأن رجاء عالم تجد اللغة والأجواء التصويرية التي تتركنا دائماً في حالة شك ما إذا كنّا نطالع ذهنية إحدى الشخصيات الحية، أم أن الشخصية التي ماتت قد عادت تستأنف دورها الحياتي، كما في السابق. فلنتأمل هذا الوصف: «تخترق نورية كثافة الحزن المخيم على البيت (...) تفتح ما يجيء في طريقها من أبواب، (سلامٌ قولاً من رب رحيم). تهتف على كل باب وكلما عبَرَت ممراً أو دَرَجاً لتميزها ملائكةُ الدار عن أخواتها الأموات، أو لتضمن انسحاب الزوار من الأموات قبل دخولها». (ص 250)

أخيراً فإنني لا أريد أن أُنهي مراجعتي لهذه الرواية الجميلة البارعة دون أن آخذ على الكاتبة الإطالة والاستفاضة في الفصول الأخيرة من الرواية (نحو 50 - 60 صفحة من مجمل 336 صفحة). بعد رحيل نورية كان يجب على الكاتبة أن تلملم كل الخيوط وتنهي الرواية في غير تلكؤ، محافظةً على جمالها المركّز وكثافتها الشعرية والتخييلية، إلا أنها، بدلاً من ذلك، تُدخل شخصيات جديدة دون لزوم ودون فرصة لتطويرها (مثل دالية زوجة عباس/ نوري)، كما أنها للأسف تفعل ما يفعله كُتاب الرواية البوليسية؛ من أمثال كونان دويل وأغاثا كريستي، حين يجمعون الشخصيات في مسرح الجريمة ويبدأون تحليل عناصر الجريمة وتحركات الأشخاص ودوافعهم، وينتهون بالكشف عن شخصية المجرم. ليست رواية رجاء عالم رواية بوليسية، وإنما هي رواية غنائية رمزية من الطراز الأول، فلم نكن في حاجة لدخولها دخولاً شِبه مباشر في الرواية، تشرح فلسفتها وثنائياتها وشخصياتها من خلف قناع واهٍ. أرى في هذا تعبيراً عن عدم ثقة بالقارئ من ناحية، وربما أيضاً عن عدم ثقة بأنها قالت كل ما أرادت قوله عن طريق السرد والتجسيد والرمز، لكنني أشهد أنها فعلت بجدارة، وما كانت - ولا كنّا - في حاجة للفضول والزيادة.


مقالات ذات صلة

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

ثقافة وفنون سلطان العويس

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

حينما يرد اسم أيّ جائزة تكريمية في العلوم والآداب والفنون والاجتماع، دائماً ما يحضر اسم السويدي ألفريد نوبل وجائزته العالمية لـ«السلام»!

محمد رضا نصر الله
ثقافة وفنون أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

بعض الكتب كأنها زهور، تترك رائحتها في النفس آثاراً عميقةً لا تزول، أو مثل قوس قزح في سماء بيضاء. كتاب «التثقيف زمن التأفيف»

ثقافة وفنون قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

يتناول كتاب «قصيدة الرفض» الصادر في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة «كتابات نقدية» للناقدة والأكاديمية الدكتورة ناهد راحيل،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون تدمير المسجد العمري

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون وفود من المدارس المغربية تزور المعرض

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتم

عمر الراجي (الرباط)

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف
TT
20

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

بعض الكتب كأنها زهور، تترك رائحتها في النفس آثاراً عميقةً لا تزول، أو مثل قوس قزح في سماء بيضاء. كتاب «التثقيف زمن التأفيف» لليازية بنت نهيان ينتمي إلى هذه الفئة، إذ ترسم فيه المؤلفة صوراً معرفيةً وإنسانيةً نمر بها كل يوم بحصافة واقتدار. ألم يخبرنا بابلو نيرودا ذات يوم أن الكتب التي تساعدنا أكثر هي الكتب التي تجعلنا نفكر أكثر؟

في «معرض القاهرة للكتاب» توقفت عند جناح «دار ديوان»، أسأل البائع عن الجديد، وقبل أن تمتد يده لتشير للكتب الصادرة حديثاً، لمحت كتاب «التثقيف زمن التأفيف». أثار اهتمامي بعنوانه الغريب، كنت أنظر إلى غلاف الكتاب الذي تتوزع عليه صور الحسن بن الهيثم وأطلال قديمة، وفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وهي تقول «أووف». يخبرنا صموئيل بيكيت أنه مولع بقراءة الكتب ذات العناوين الغريبة، لأنها حسب رأيه يختلط فيها الترقب بالبحث عن المعرفة. تذكرت هذه النصيحة وقررت أن أخوض التجربة مع هذا الكتاب الغريب العنوان والغلاف.

كتاب صغير الحجم، كبير المحتوى، لا تتجاوز صفحاته المائة وأربعين صفحة، تأخذنا المؤلفة فيها في رحلة مشوقة، تبدأ بالتحية لكلمة «أف» التي نطلقها استياءً من بعض الأفعال المسيئة، وكأن كاتبته اليازية بنت نهيان كانت تفكر وهي تكتب السطور الأولى من كتابها بما قاله أبو العلاء المعري: «أُفٍّ لِما نَحنُ فيهِ مِن عَنتٍ»، هذا العنت الذي يدفع المثقف إلى أن يسرح بخياله في بعض الحكايات والمحطات المستوحاة من مجتمعنا العربي.

مما لا شك فيه أن الثقافة العربية قد طرحت منذ عشرات السنين أسئلتها الدالة على التفاعل الداخلي بين مكونات الذات الحضارية العربية من جهة، وتفاعلها الخارجي مع العالم من جهة أخرى. فنحن ما زلنا منذ أكثر من قرن نطرح أسئلة الأصالة والمعاصرة، وقضايا الموروث والحاضر، والعلاقة بين القديم والجديد، وهذا ما تنتبه له المؤلفة، فتكتب في التمهيد لكتابها أن مهمتها هي البدء بالتشخيص والتحليل «علنا نجد إشارات تنير لنا الدرب، وتمكننا من الوصول إلى إجابات، علها تساعدنا على التقييم والتقويم، تساعدنا على الإدراك حتى وإن كان محدوداً، إدراك أبعاد الماضي وتصورات المستقبل وتحدياته»، بهذه الروحية تخوض المؤلفة رحلتها ببن الحاضر والماضي والخيال والواقع والعادات الموروثة والمستقبل، متنقلةً من أبيات جميل بن معمر، مروراً بمصطفى الرافعي وجواد علي وليس انتهاءً بهايدغر ودوريس ليسنج، بنظرة لا تخلو من فلسفة واقعية خلاصتها أننا بحاجة إلى أن نعيد ترتيب أوراقنا وسط عالم يعج بالحيرة والاضطراب.

يتناول الكتاب موضوعة الثقافة، لكننا ونحن نتجول في صفحاته، سنجد جدلية السؤال في إطار يتشابك مع البحث عن المعرفة، نتنقل بين الحرية والإيمان والسياسة والفن والبحث عن الجذور. تبدأ الكاتبة بالهوية ودلالتها الإنسانية ولا تنتهي بالبحث عن قيم الجمال، لكن الأهم مطاردة الحقيقة من خلال رحلة تأملية، فمعرفة الذات كما يقول أفلاطون هي غاية الغايات.

اليازية بنت نهيان تكتب بلغة يمتزج فيها الفن بالعلوم، تنشر قليلاً وتفكر كثيراً، ويبدو كتابها هذا أشبه بالمغامرة، فحبها للكتب التي تربت معها يجعل القارئ يشعر أنه يقرأ كتاب مليء بالحكمة والحكايات والأفكار والأهم متعة التلقي. يكتب ميشيل دو مونتيني في كتابه الشهير «المقالات»: «أنا لا أبحث في الكتب سوى عن التمتع بها، باستجمام صادق، وإذا ما أنا مارست الدراسة، فليس ذلك إلا بحثاً عن العلم، الذي يتناول معرفتي بنفسي، والذي يعلمني حُسن العيش».

نرحل مع المؤلفة في ثمانية تأففات؛ التأفف الأول يبدأ بمناقشة موضوعة الهوية وطرح أسئلة الوجود، وما يشكله الماضي لنا من تبعات لا نزال نخوض غمار خلافاتها، والحاضر الذي يعيش على إيقاع متغير وسريع، ونظرتنا إلى المستقبل غير المعلوم بالنسبة لنا ودورنا فيه، ونمر معها على التأفيف الأخرى فندرك أن المؤلفة تملك صوتها الخاص، وبصيرتها التي تجعل القارئ يسعد بالجلوس إلى صفحاتها، ليصطحبها في رؤيتها المتبصرة للعالم، وتقييمها النادر للأفكار والمعاني.

في كل تأفيفة من تأفيفها الثمانية تحاول إدخال نوع من الجمال المخلوط بدقة المعلومة وسلاستها ورحابة المشاعر الإنسانية، واتساع الأفكار والمعارف. نقرأ هذه العبارة ونتمعن فيها: «في فلسفة المنفعة، نعلم أن الجدوى من استقلال وجهة النظر أو الرأي تقتصر على إقرار الإنسان باتباع تجربة حياتية خاصة به، ثم تتنوع حياة الأفراد»، ولتعزيز هذه الفكرة تذهب المؤلفة إلى مثال قريب من الناس، وهو الشريط السينمائي، فتكتب في الفقرة التالية: «كما في فيلم (موعد غرام) أيقنت فاتن حمامة في دور (نوال) أن أحدهم (بيبص على العربية) وأحداً آخر (بيبص للأخلاق)». لاحقاً تعرض في تأفيف آخر تجارب واختبارات حياتية للبشر كدعوة للتفكير. إن الوضوح الذي يميز هذا الكتاب يجعلنا كقراء نتساءل حول أهمية مثل هذه الكتابات التي تندرج تحت خانة جرأة السؤال قبل التسليم بالإجابة، والبحث عن المعنى خارج حدود المسلمات. كتب الأميركي مارك توين: «من لا يسأل يبقى أحمق إلى الأبد».

تقول المؤلفة عن التأففات الثمانية في التمهيد القصير: «هي دعوة إلى التنقل بين محاور ثقافية، سارحين في ذواتنا لاستكشافها، ولنعرف أسرارها ودوافعها وما يدور في فلكها».

واليازية بنت نهيان تقف على رأس جيل إماراتي وهب حياته للثقافة والعمل على تسهيل وصولها إلى القارئ بكل مستوياته. ونعرف أنها مارست العمل الثقافي من أوسع أبوابه عندما عينت أول سفيرة للثقافة العربية، واستطاعت من خلال موقعها هذا أن تطلق الكثير من المبادرات والجوائز الثقافية والفنية، يضاف إلى ذلك ممارستها الكتابة والنشر في عدد من الصحف والمجلات الرصينة. ولعل بحثها في موضوعة التثقيف يقربها من مفهوم الثقافة الذي وضعه عالم الاجتماع البريطاني إدوارد تايلور من أن الثقافة «منظومة كلية من المعارف والمعتقدات والشرائع والأعراف وسائر الخبرات والعادات التي يكتسبها الفرد بحكم كونه عضواً في المجتمع الذي ينتمي إليه»، ولعل هذا التعريف يتطابق بوضوح مع ما تطرحه في كتابها «التثقيف زمن التأفيف»، فهو يهتم بمناقشة القيم الإنسانية، والعلاقة بين الثقافة والأخلاق، دون أن يثقل على القارئ، بل يحاول أن يدفعه إلى البحث والتنقيب بنفسه عن قضايا تشغل مجتمعاتنا. وكأن المؤلفة تشير بوضوح إلى أن الثقافة هي بمثابة البوصلة للمجتمع التي بدونها ربما لا يعرف الأفراد كيف يتوجهون.

وتعمد المؤلفة في كتابها إلى تعشيق عدة خيوط في آن واحد، وتتحرك من خلال صفحات كتابها على عدة مسارات مختلفة من أجل خلق حالة من حالات الانسجام في سياق كتاب شديد التركيب، شديد البساطة في الوقت نفسه.

هذا الكتاب أتمنى أن أجده في كل مكتبة بيت في بلادنا العربية، لما فيه من موضوعات، ومن أحكام واضحة في الحياة والأخلاق والسلوك، وهو محاولة ثقافية يجب أن نتوقف أمامها كثيراً، فنحن أمام كاتبة تعرف وظيفتها جيداً.