هل هناك من يسمع أصواتهم؟

الأدب القصصي لم يتناول كثيراً موت الأطفال


غرافيتي لفنان الشوارع الأميركي ديفيد زن
غرافيتي لفنان الشوارع الأميركي ديفيد زن
TT

هل هناك من يسمع أصواتهم؟


غرافيتي لفنان الشوارع الأميركي ديفيد زن
غرافيتي لفنان الشوارع الأميركي ديفيد زن

لا أستطيع تفسير بقاء تلك الحادثة مغروزة بعمق في ذاكرتي رغم مرور أربعين سنة عليها، ورغم أنها لم تستغرق أكثر من دقيقة، لكن الشعور بالوقت وأنا أشاهدها بدا أطول من ذلك بكثير، بل كأنه بئر لا قرار لها.

كنت في زيارة لصديق يسكن حي اللوز.

المدينة كانت وهران حيث أقمتُ وعملتُ مدرساً في أحد معاهدها لتسع سنوات.

الفصل كان ربيعاً، والوقت عصراً.

كنت في طريق عودتي إلى بيتي الواقع وسط المدينة، بينما حي اللوز يعدُّ آنذاك في ضواحيها. صفّان من البنايات المتقابلة، وفي كل واحدة منها ثماني شقق: أربع إلى يمينها وأربع إلى شمالها. إذن هناك أربعة طوابق في كل بناية.

رافقني الصديق المضيف من بيته إلى الخارج. وقفنا في تلك الفسحة الفاصلة بين صفي البنايات. الهواء الساكن مشبع بالطل الخفيف بينما تناثرت غيوم في السماء إلى الحد الذي غطت أطرافها الشمس. وكأني بانتظار ظهورها ثانية، رفعت رأسي إلى أعلى فصدمني مشهد جعلني أشك بحقيقته.

هل أنا فعلاً في حي اللوز أم أني مستغرق في كابوس طويل لا بداية له ولا نهاية. التفتُّ إلى الصديق مستفسراً بعيني. كان رأسه هو الآخر معلقاً على النقطة نفسها التي وقعت عيناي عليها للتو. تلفتُّ حولي. كان هناك أكثر من عشرة أشخاص متفرقين في ذلك الفناء، لكن أعينهم ظلت معلقة على المكان نفسه. لا بد أن ما جمعنا في تلك اللحظة خوف من أن نهمس بكلمة واحدة تعجل في وقوع الكارثة، أو بحركة ما تكفي لوقوع المصاب علينا جميعاً.

كنا في تلك اللحظة كياناً واحداً متسربلاً بالعرق والفزع. تنبض قلوبنا بالإيقاع المتسارع. كأن كل الرقاب المائلة والعيون المحدقة إلى ذلك الشباك في الطابق الأخير من تلك العمارة تسعى لمنع وقوع الكارثة. لكنها مشلولة تماماً.

كان الطفل الذي لا تتجاوز سنه الثلاثة أعوام جالساً على حافة النافذة يراقب من دون مبالاة ما يجري تحته. لا بد أننا جميعاً حضرتنا الأسئلة نفسها: كيف تسنى لهذا الصغير أن يخرج من النافذة بهذه الطريقة؟ أين أمه؟ أين أبوه؟

وكأن الأسئلة تتوالد واحدة من أخرى كالفطريات: إذا ذهب أحدنا وصعد سلالم المبنى بسرعة هل سينجح في طرْق باب الشقة التي يسكن فيها ذلك الطفل قبل أن يقرر رمي نفسه من الشباك؟ حضرني سؤال آخر ولا أستبعد أن يكون قد دار في رؤوس هذا الحشد المتزايد: هل يكفي الوقت لجلب بطانيات عديدة نمسكها من حوافها وننتظر سقوط الطفل؟ لكن من يضمن سقوطه في واحدة من تلك البطانيات؟ لكأننا نلعب الزهر. احتمال النجاح أقل من 20 في المائة والأكثر احتمالاً أن تتهشم عظام هذا الطفل أمام أعيننا.

لا بد أن الجميع شعروا في تلك اللحظة بما كنت أشعر به: موت هذا الطفل سيكون نزعاً كاملاً لمعنى حياتهم. التشبث بالأمل عبر صلاة صامتة كانت تتردد في رؤوسنا ورجاء خفي لذلك الطفل: «رجاءً اِبقَ في مكانك... نتوسل بك: اِبق في مكانك...»، بينما كانت عيناه تتجولان في الفضاء غير عابئتين بما كان يجري تحته على الأرض.

هل هناك جحيم يواجهه الكبار أسوأ من هلاك موشك لأي طفل على سطح هذه الأرض؟ أتذكر تلك القدمين الصغيرتين الحافيتين تتداولان الحركة في الفضاء فتعبث بهزاتهما نبضات قلبي وتدفعه للخفقان أعنف فأعنف.

وكأن كل هؤلاء الحاضرين الغرباء عني يشاركونني الفزع نفسه من حدوث ما لا يرتجى: موت طفل أمام أعيننا بينما نحن عاجزون تماماً عن حمايته. كم بدا هذا الطفل قادراً على التحكم بأعصاب هذا الرهط من الرجال والنساء من موقعه القصيّ.

ها هو يحركنا يميناً أو شمالاً حسب حركة إحدى يديه الممسكتين بحافة النافذة. يرفع أو يُخفض نبضات قلوبنا أو خفقات أنفاسنا أو ضغط دمائنا. سلطة مطلقة يفرضها علينا من تلك النقطة الحرجة. يتباطأ الزمن في حركته بينما نحن واقعون بين كلاباته المسننة الصارمة. فجأة يجيء الفرج بطريقة ميلودرامية: ذراع تظهر من وراء النافذة فتلتفّ حول صدر الطفل ثم تسحبه إلى الداخل. للحظة فقط تراءى لنا وجه امرأة من تلك العتمة فأناره ضوء النهار.

هل كانت أمه، زوجة أبيه، عمته، أم مجرد جارة جاءت مرسَلةً من قوة غيبية لتنقذه؟

* * *

لم يتناول الأدب القصصي كثيراً موضوعة موت الأطفال. تحضرني قصة أنطون تشيخوف، «لمن أشكو أحزاني» التي تدور عن حوذي فقد ابنه وكان بحاجة إلى شخص ما كي يحكي له عن مصيبته، لكنه لم يلق إلا السخرية والشتائم أو الضرب من زبائنه السكارى كلما فتح فمه لتذكير أي منهم بموت طفله. غير أنه تحت وطأة حاجة ظلت تغصّ في حنجرته لسرد ما حدث لحبيبه الصغير، لم يجد أحداً على استعداد للإصغاء إليه سوى حصانه.

لعل أولئك الركاب الفظين لم يريدوا أن يستمعوا إلى أيّ شيء يهز قناعتهم بوجود ملائكة تحفظ الأطفال دائماً من الهلاك.

هل كان رفضهم للاستماع إليه سعياً خفياً للحفاظ على حياة الصغار، حتى لو كان عبر الإنكار: نوعاً من غريزة الحفاظ على النوع نفسه، وهذا ما تشترك فيه كل الكائنات الحية؟

في فيلم وثائقي عن الحياة البرية، شاهدتُ ذات مرة كيف أن قطيعاً من الجاموس البري ينجح في إنقاذ عجل كادت عائلة من اللبوات تفتك به. وحين ظلت الأخيرة تحاول استرجاعه بعد أن تنقعت مخالبها بدمائه اصطف قطيع الجاموس أمامها مانعاً إياها من الوصول إلى العِجْل الجريح ونجح في تلك المرة من إنقاذ الطفولة.

هل استُبيحت دماء الأطفال مرة واحدة فقط في تاريخنا الحديث حين اختلّت هذه الغريزة في عقول النازيين الألمان فتحولوا إلى ماكينة تبيد الأقليات إبادة متعمدة بعد نزع الصفة البشرية عنهم؟ وبالطبع كان الأطفال اليهود هم الأكثر تعرضاً للإبادة بدم بارد وشديد التنظيم. وهل كان هذا الإفناء الواسع السريع للأطفال في غزة متعمَّداً من الجيش الإسرائيلي وطائراته الحربية؟ أم هو مجرد أضرار جانبية؟ باستخدام الحساب الرياضي البدائي: إذا قسّمنا عدد الأطفال القتلى البالغ عددهم حوالي 12 ألفاً على 90 يوماً فسنحصل على نتيجة مهولة في كلتا الحالتين، سواء كان فعلاً متعمَّداً مع سبق الإصرار أو مجرد فعل عن غير عمد يقع غالباً في الحروب: 133 طفلاً محذوفاً من الوجود كلّ يوم. هل يجب أن نلوم ذلك الطيار الذي فجّر عمارة سكنية وحوّلها إلى ركام خلال ثوانٍ إذا حدث أن يكون من بين سكانها بعض الأطفال؟ هل هو قتل متعمَّد أم غير متعمَّد؟

وهل أستطيع القول إن كل المظاهرات الكبيرة التي لم يعرف التاريخ مثيلاً لها في شتى أنحاء العالم ليست إلا احتجاجاً على هذه الإبادة؟ رد فعل شبيه برد فعلي ومن كان قريباً مني ونحن نراقب ذلك الطفل الشقي على ارتفاع 50 قدماً عن الأرض، في مدينة ساحلية نائية عن الشرق الأوسط ومتاعبه؟

هل ردود أفعالنا تلك أكثر من استيقاظ فجائي لغريزة البقاء التي تحفز كل كائن حي، سواء كان بشراً، بهيمةً، طيراً أو حشرةً على الحفاظ على صغاره مهما كلَّف الأمر؟

هل بلغنا نقطة تَحَرَّرْنا عندها من تلك الغريزة مرة واحدة وإلى الأبد؟



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.