«ثلاثية»... الحب في بيئة عدائية

يون فوسه الفائز بـ«نوبل» يعري تاريخ أوروبا الاجتماعي

«ثلاثية»... الحب في بيئة عدائية
TT

«ثلاثية»... الحب في بيئة عدائية

«ثلاثية»... الحب في بيئة عدائية

للوهلة الأولى، يظن قارئ رواية «ثلاثية» للكاتب النرويجي يون فوسه، الحائز جائزة «نوبل» للآداب، العام الماضي، أنه يطالع قصةً حزينةً من قصص الحب والإنسانية المفقودة تجرى وقائعها في القرون الوسطى بأحد البلدان المتزمتة، لكن المفاجأة أنها تجرى في أوروبا، تحديداً بين قرى وموانئ ومدن النرويج في زمن غير محدد، وإن كان يمكن أن نخمن أنه يعود إلى منتصف أو نهايات القرن التاسع عشر.

الرواية الصادرة عن «دار الكرمة» بالقاهرة، ترجمة شيرين عبد الوهاب وأمل رواش عن النرويجية مباشرة، تقع في ثلاثة فصول، كل فصل يمكن التعامل معه كأنه رواية قائمة بذاتها، هى «سهاد» و«أحلام أولاف» و«تعب الليل». يروى العمل قصة حب «أسلا» و«أليدا»؛ عاشقان في مقتبل العمر يحاولان إيجاد مكان لهما في هذا العالم. يتجولان في شوارع مدينة بيورجفين النرويجية تحت المطر وهما بلا مأوى وبلا نوم في محاولة لكسب عيشهما وفي انتظار مولودهما. ومن خلال شبكة ثرية من التلميحات التاريخية والثقافية والروحية، يبني فوسه حكاية رمزية عن الظلم والمقاومة والجريمة والفداء في استحضار مؤلم وغامض ومؤثر للحب.

الأزمة التي يعاني منها البطلان مركبة، حيث تحمل «أليدا» ثمرة الحب المحرم في بطنها نتيجة علاقة غير مشروعة مع «أسلا» مما يجعل البيئة الاجتماعية من حولهما عدائية. يرفض الجميع منحهما غرفة على سبيل الإيجار أو كسرة خبز. جميع الأبواب موصدة وتكتمل قوس البيئة العدائية حين يهبط الليل وتزداد البرودة وينهمر المطر سيلاً لا ينقطع. وعبر تقنية «الفلاش باك» أو «الارتداد إلى الخلف»، نعرف أن هذا الكمان الذي يحمله «أسلا» معه وهو يجوب الشوارع ورثه عن والده «سيجفاليد» الذي كان يعمل عازفاً بأجر في الحفلات الصيفية والحانات. أما «أليدا» فعاشت مفتقدة للحب مع أمها التي كانت تفضل عليها ابنتها الأخرى. إنها الأم نفسها التي رفضت أن تقطن ابنتها وحبيبها في بيتها وأصرت على أن يغادرا منزلها على الفور. تضطر «إليدا» أن تسرق أمها وتستولى على مدخراتها الهزيلة من المال لتستعين بها في رحلتها المقبلة.

يقتحم العاشقان منزل سيدة عجوز في المدينة ويستوليان عليه في غيبة صاحبته. تضع «أليدا» مولودها الذي يحمل اسم «سيجفاليد الصغير». يبحث «أسلا» عن محل ذهب لشراء خاتمين له ولها بحيث يكتسبان الشرعية المفقودة أمام المجتمع، لكنه يغير رأيه في اللحظة الأخيرة ويقرر شراء سوار جميل وباهظ الثمن لـ«أليدا» بدلاً من الخاتمين. تتطور الأحداث حين يُقبض على «أسلا» بتهمة قتل شاب والاستيلاء على قاربه الذي أبحر به هو وحبيبته وجاءا على متنه إلى هنا. ولأن التهمة حقيقية ومثبتة بالدليل، يتم شنق البطل وتعمل البطلة خادمة لدى الآخرين.

ويثير اسم الرواية «ثلاثية» الكثير من الالتباس، فهو مصطلح أكثر منه عنواناً يشير عادة إلى ثلاث روايات منفصلة يجمعها سياق عام كما في «ثلاثية» نجيب محفوظ التي تتكون من «السكرية» و«قصر الشوق» و«بين القصرين»، لكن الموقف هنا مختلف فنحن أمام رواية واحدة تقع في 200 صفحة وتحكمها وحدة الحدث وتداعياته، كما أن الشخصيات الرئيسية تبقى كما هي، كل ما هناك أن النص يتكون من ثلاثة فصول ما يجعل إطلاق اسم «ثلاثية» عليها خياراً يبعث على الارتباك.

اللافت أن المؤلف لم يستخدم في علامة الترقيم النقطة «.» أبداً في نهايات أي جملة أو فقرة، إنما لجأ إلى استخدام الفاصلة «،»، كأنه يريد أن يجعل من كل فصل دفقة واحدة لا تنتهي إلا بنهاية الفصل نفسه. وهو الخيار الذي حافظت عليه المترجمتان واحترمه ونوّه به الناشر، مؤكداً أنه التزم بما جاء في علامات الترقيم في النص الأصلي.

نال فوسة عن هذا العمل الكبير جائزة «المجلس الاسكندفاني للآداب»، وهي أرفع جائزة للأدب الاسكندفاني. ويعد يون فوسه المولود عام 1959 أهم الكتاب النرويجيين المعاصرين، وقد أطلقت عليه الصحافة لقب «إبسن الجديد»، صدر له أكثر من 30 كتاباً في المسرح والشعر والرواية تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة.

من أجواء الرواية، نقرأ:

«ومن حسن الحظ أنها لم تمطر، إلا أن المطر قد ينهمر عاجلاً أو أجلاً ولا يمكنهما متابعة المشي هكذا ولماذا لا يريد أي أحد أن يؤجر لهما مأوى، ربما لأن الجميع كانوا يرون أن أليدا على وشك الولادة، فهذا قد يحدث في أي يوم، كان يبدو عليها ذلك وربما لأنهما لم يكونا متزوجين، فلم يكونا زوجاً وزوجة محترمين بالمعنى المتعارف عليه، لم يكن من الممكن أن يعدا شخصين محترمين ولكن بالتأكيد لم يستطع أحد أن يرى ذلك، لا بالتأكيد لا، لكن قد يكون ذلك ممكناً على الرغم من كل شيء، إذ لابد أن هذا هو السبب في ألا أحد يريد أن يؤجر لهما غرفة، هما لم يتجاوزا السابعة عشرة بعد ولا تتوفر لديهما المتطلبات اللازمة لإقامة حفل زفاف ليتزوجا بشكل محترم، طرق عديداً من الأبواب إلى الآن ولم يستجب أحد لطلبهما باستئجار غرفة ولا يمكنهما الاستمرار على هذا النحو، بدأ الظلام في الهبوط والجو بارد وسرعان ما سينهمر المطر.

تقول أليدا: أنا متعبة للغاية

ثم يتوقفان وينظر أسلا إلى أليدا وهو لا يعرف ماذا يقول لها كي يواسيها».


مقالات ذات صلة

تجربة التشارك في الكتابة

ثقافة وفنون تجربة التشارك في الكتابة

تجربة التشارك في الكتابة

الكتابةُ فعالية تتمنّعُ على المشاركة وتستعصي على كسر إطار الفردانية. هذا أحد القوانين الأساسية في الكتابة.

لطفية الدليمي
ثقافة وفنون رواية «الأفغاني... سماوات قلقة» لأوسي في دراسة نقدية

رواية «الأفغاني... سماوات قلقة» لأوسي في دراسة نقدية

عن دار «الحكمة» للنشر في لندن، صدر للباحث والناقد المصري الدكتور أحمد الصغير آل تمام كتاب نقدي بعنوان «السرد بين التاريخ والمتخيّل التاريخي...

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مشهد من فيلم «حياة الماعز»

جزيرة العرب على شاشة السينما

يتحدث الفيلم الهندي «حياة الماعز» عن شاب هندي يأتي إلى السعودية بغرض العمل فيختطفه شخص من المطار وينقله إلى الصحراء البعيدة لكي يرعي مواشيه بالمجان

خالد الغنامي
ثقافة وفنون ابن رشد

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟

هاشم صالح
ثقافة وفنون «أميرة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«أميرة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها

منى أبو النصر (القاهرة)

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.