نعمة الستين

ليس الشباب زمناً معياريّاً للعمر تحدّده السنوات

عبد الوهاب البياتي
عبد الوهاب البياتي
TT

نعمة الستين

عبد الوهاب البياتي
عبد الوهاب البياتي

«حياتي الآنَ بين يديَّ... في الستين... / أصنعُ ما أشاءُ بها...»

المنصف الوهايبي

قليلٌ منّا حين يدركون الستّين لا يريدون أن يشيخوا بعدها، وقد تلبّسهم في هذا الأوان شعور الحريّة وطلب المغامرة. إن كنتَ لا تعاني علّة، فالستّون هو عمر البلوغ الحقيقيّ للذهن والقلب، ومهما تكن جبلّتك، فإن حسّاً هائلاً من الرضا يتخلّق في داخلك عند بلوغك هذا العمر؛ بسبب استغراقك في خلقتك التي خطّها القدر على جبينك، كما أن أكثرية المشاكل الداخلية مع النفس تكون قد حُلت بعد الستين، أو في طريقها إلى ذلك.

نكون في الستّين متعَبين، لكن نشطاء، ويوصف هذا السِنّ بأنه الحين الذي تصير فيه الذكريات قويّة لا تمحى، كأنها حجر صوان، ويبدأ المرء في تنفيذ مشروعاته المؤجّلة، ويقوم كذلك بأفعال لم تكن عنده الشجاعة سابقاً للقيام بها. لقد توارى الخجل والانطواء، بعد أن أدركنا مقدار خساراتنا بسبب هذه المتلازمة التي لها ألف سبب، لا يصمد أيّ منها أمام أسئلة العقل. في الستّين تكون لك القدرة على الحكم المباشر على الأمور؛ لأن لا سلطان لأحد عليك، وبعد أن كنتَ مجرّد ممثّل لا يعرف أين يضع قدميه على المسرح، أصبحتَ مُخرجَ المسرحيّة ومنتجها ومؤلّفها، ويحتاج المرء إلى خبرة كبيرة وحظٍّ عظيم حتى يكون متفرّداً حقاً، وقائماً على عمل تذكره الأجيال... غارقين في طوفان من العجز عن الحكم والتفكير، لا يجب لوم الشباب أنّ دروبهم يملأها الوحل في كلّ فصول السنة، لو عاد المرءُ في الستّين شاباً لتمكّن من السير على الماء، وحسبه أنه في عقده السادس، وقد نزع عنه جلده القرنيّ، يحلّق بيُسرٍ في الهواء...

محمود عبد الوهاب

على هذا الأساس لا تقل وصلتُ إلى درجة الإشباع لأنني بلغتُ العتبة الأولى من الشّيخوخة، وتعدّ ما تبقى من سنوات البقاء على قيد الحياة، وتحدّق إلى أصابعك؛ ذلك أنك الآن قد بلغتَ منتهى شبابك «الشّباب - العبارة لأوسكار وايلد – ليس ادّعاءً، إنه فنّ»، وهذا يعني إبداعاً في العمل، وإجادة يُدركها من كان له قلب فرِه وذهن متفتّح ونفس شموسة.

هناك جزء في بدني يريد أن ينطفئ، وآخر في طريقه إلى أن يشتعل ويتوهّج بقوّة، فإلى أيّ الجزأين كنتَ تميل أقلْ لك من أنت. إن أردتَ التّوهّج فليس أمامك سوى أن تقلع كلّ عشبة ضارّة تأخذ من حماستك للحياة، وأنت تتأمل أشكال الورود في حدائق أفكارك. مرّة أخرى مع أوسكار وايلد: «مأساة السنّ المتقدمة ليس في كون المرء مسنّاً، بل في كونه شاباً». لا، إن حاجتنا إلى الهواء تتجدّد في كلّ ثانية، وكأن مراحل استحالة الفراشة يمرّ بها البشر كذلك، ولا يستوي المرء كائناً ينطلق سارحاً في أنحاء الكون، ويجوب كذلك فيافيَ روحه التي لها سَعةَ كون صغير، إلّا ببلوغ هذا السِنّ.

ذكرَ البيّاتي الشاعر شيئاً عن اختلاف طعم الماء في أوائل الخريف عنه في بقيّة الفصول، ولي أن أستبدل رأيه بما أنا فيه الآن من نِعمة الستّين، فقد تغيّر كُنْهَ إحساسي بكلّ شيء، وأنا أجتاز هذا الحدّ بين الحبو والطيران. لذّة شُرب الماء زادت أضعافاً، وكذلك مذاق النبيذ والشاي، والرُّضاب من فم الحبيب، والنوم تبدّل كذلك وصار السرير في الليل محلّاً لتجديد حيويّة الروح والجسد، فما إن تستيقظ حتى تشعر بأنك قويّ مثل حجر طلع للتوّ من محجر - الاستعارة من جورج سيفيريس -. هناك إحساس بالمتعة يولد في الحياة متأخراً، وكلّ متعة تحتفظ بأعظم لذاتها لأواخرها، والطاقة الأهمّ لديك يجب أن تذهب إلى نصفك الثاني، وتكون في هذا العمر بالغة لأنها عاشت في أعماقك طويلاً، واكتنزت بحرارة الألوف من شموس الليالي والأيام.

أنيس منصور

في سبعينات القرن الماضي كانت الانتلجنسيا - الطبقة التي صقلتهم وهذّبتهم الثقافة والتربية - هي عين قلادة المجتمع، تأتي منها اللمعة والحُسن والقيمة، ويرتدي رجالها القميص الأحمر والأخضر وربطة العنق الصفراء، كذلك البنطال الأبيض والبنفسجي والقبعة الزرقاء؛ لاتّقاء شمس الصيف، وربما تجاوز واحدهم السبعين والثمانين، ويستمعون كذلك للموسيقى ويفهمون الشعر والنثر، ويولون احتراماً لنبالة الفنّ، كأنهم يستعيدون بواسطته طاقةً مفقودة. صِفْ لي طعامَك وشرابك أقلْ لك من أنت، وقلْ لي من هي امرأتك أحدّثكَ عن نوع أحلامك، وخبّرني عن ألوان ثيابك لأعرف نوع حياتك. الستّون ليس أوان الثّياب غامقة اللّون والانقطاع إلى زيارة الأماكن المعتمة، تزيد الروح ظلاماً وخراباً فوق رماد السنين.

أصبحتُ الآن رجلاً حصيفاً مثل بحر هائج ثم هدأ، ويدعو القاصّ محمود عبد الوهاب ما نحن بصدده «شعريّة العمر»، وهي: «ديمومة الدهشة التي تجعلنا لا نشيخ، فليس الشباب زمناً معياريّاً للعمر تحدّده السنوات، إنما الشباب حقّاً رؤية متقدمة للعالم تتجاوز إحباط السنوات التي تخترقك. ما لم يخضع العمر لقانون الشّعريّة بهذا المعنى، فإن المرء سيتثاءب حياته ويبصقها من الضّجر».

ولكن هل يستطيع المرء تمديد حجم يومه، أي العيش زمن يومين في نهار واحد؟ الكاتب أنيس منصور كان يحرص على مشاهدة الفجر والغروب من كلّ يوم، في شقّته المطلّة على نهر النيل. اليقظة مع الطير الأول تعطيك فرصة العيش مع مهرجان الألوان هذا، وتبدأ العمل عندها، ويمكن المراهنة في هذا المقام على أمرين: الرياضة والجوع. الأكل الكثير يبلّد حدّة الذهن، وتمنحك رياضة المشي السّريرة الصافية، كما أن المثابرة على الشعور بالجوع تجعل كلّ شيء في الوجود داخل المنظور؛ ولهذا كان الصوفيّون يعدّونه خطوة مهمّة في عملهم لا يمكن الاستغناء عنها أو تعويضها بتمرين آخر. ما يُقال عن الفجر يصحّ عن الغروب، ففي هاتين الساعتَين تتلوّن الأشجار والنهر والأشياء بالحبر الصيني، من العتمة الغريبة والمتوهّجة فيه نستلهم الحِكمة والشغف الدؤوب بفنون العيش.

كلّ حياة دون استثناء هي قصيرة، والأدب والفنّ عموماً هو حياة إضافية نحصُل عليها، كما أن لدى الشاعر ذاكرته يمتح منها، وهي تبلغ من الحجم أن أضخم حاسوب لا يتسّع ربما ليوم من هذا العُمر الواسع والفسيح ممّا تضمّه. ذاكرة الشّاعر لا نهائيّة وتؤدي بصاحبها إلى الجنون أو إلى سبيل الشّعر. كم أنا محظوظ لأن قدري سار بي على الطّريق الثّانية، ولم أضِع! يمكننا على هذا الأساس تقسيم الذاكرة إلى ثلاثة أنواع، ذاكرة ضعيفة، وذاكرة قويّة، وذاكرة الشاعر. عندما بلغ بودلير العشرين قال: «أتذكّر أحداثاً وتفاصيل وجزئيّات حياتيّة، كما لو أني عِشتُ آلاف السنين».

الذكريات القديمة لا تمّحي، فهي تسكن في خانة خاصّة في الذهن، ومستقلّة عن الذكرى القريبة، كما أن آلة الذاكرة لا يمكننا استثارتها وإطفاؤها عن عمد؛ لأنها تأتينا بصور وانطباعات عن الأحداث مشحونة بالعاطفة والمتعة والألم، كما أن ليست جميع الذكريات واضحة، بعضها كأنها حدثت لنا في عالم آخر. فجأة أتذكر زقزقة العصافير في ظهيرة شتوية باردة في حديقة بيتي عندما كنت أسكن في حيّ «بارك السعدون» في بداية الألفينات. وكانت الفراشات تستلقي على الأغصان كالأزهار، تصغي إلى حديث كان يجمعني مع ابني «ياسر»، ثم تهبّ الريح فجأة وتطير الأزهار كالفراشات، وتحطّ هذه مثل الأزهار، وتضجّ العصافير بالغناء. كيف لا تنطبع هذه الصّورة في الرّأس ولا تمّحي؟ إذا فتّشنا نفوسنا وجدنا ملايين من هذه الصّور، في السرّاء والضرّاء، تتبادل فيها الأشياء والكائنات الدّور مع ما في الذّكرى السّابقة، ولكني سأكتفي باثنين آخرين لكي أبعد عن الإطالة.

أشتاق في كلّ وقت إلى مشاعري في طفولتي أيام المدرسة، وكنتُ جالساً جنب شبّاك الصف، ناظراً إلى السماء والسغب ينهشني، وفكّرتُ في أن أبعده عن بالي، بأن أنظر إلى البلاط الملوّن، وأفكّر أن الجَمال في النقش على البلاط يفوق حُسن السماء الصافية في النافذة.

وتعود إليّ دائماً ذكرى تلك الظهيرة حين اقتربت منّي امرأة ريفيّة تحمل على رأسها شوالاً من الجتّ، وكان البنفسج يزهر في حقل قريب، ومن فوقه تحمل الريح أنفاس العسل. ظلّت أغصان الجتّ تتحافّ وتصل الصبيّ ذي الأحد عشر عاماً، وبلغه شذى العسل أول مرة، وهذه ذكرى لا تنتهي.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟
TT

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

قلّ أن حملت قصة من قصص الحب ذلك القدر من المفارقات والملابسات الملغزة، كما هي حال القصة التي ربطت بين شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية. ولعل رسوخ تلك القصة في المخيلة الإنسانية الجمعية لا يعود إلى عدِّها جزءاً لا يتجزأ من السردية التوراتية فحسب، خصوصاً أن قصص الحب المتصلة بالخيانة والعشق الشهواني والعلاقات الآثمة في «العهد القديم» أكثر من أن تُحصى، ولكن ما أكسبها طابَعها الشعبي الواسع هو وقوعها على خطوط التماس الفاصلة بين الدين والأسطورة من جهة، وبين الولاء للقلب والولاء للوطن من جهة أخرى.

والواقع أن أي قراءة متأنية لعلاقة شمشون بدليلة لا يمكن أن تتم على أرض العاطفة والحب اللذين تحرص التوراة على استبعادهما عن سياق الأحداث، بل يتضح للقارئ أن الخلفية التي تُروى من خلالها الوقائع هي خلفية المواجهة الضدية بين الخير العبري والشر الفلسطيني. ويكفي أن نعود إلى الجملة التي يستهل بها «سفر القضاة» القصة بقوله: «ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة»، لكي نقرأ المكتوب من عنوانه، إذ ستكون علاقتا الزواج اللتان ربطتا شمشون بامرأتين فلسطينيتين متتاليتين ترجمة بالغة الدلالة لامتداح الذات الجمعية الفحولية، مقابل تأنيث العدو وتشويه صورته، ولو أن العقاب الإلهي قد توزع مناصفةً بين طرفَي الصراع.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن شمشون قد ولد، وفق الرواية التوراتية، بتدخل مباشر من الرب الذي استجاب لرغبة أبيه منوح وأمه العاقر في الحصول على طفل يوفر لهما أسباب السعادة والاستمرار. وبعد تجاوز الفتى سن البلوغ، التقى صدفة بفتاة فلسطينية حازت على إعجابه، فسارع بالطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها زوجة له. وعلى الرغم من أن أبويه واجها طلبه باستنكار بالغ، لأن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا «متسلطين على إسرائيل»، فإنهما أذعنا لطلبه في نهاية الأمر. وبينما كان ذاهباً للزواج التقى شمشون بشبلٍ مفترس فشقّه باليد المجردة كما يُشقّ الجدي. على أن عروسه الفلسطينية ما لبثت أن خانته مرتين؛ الأولى حين أطلعت الفلسطينيين على حل الأُحجية التي طرحها عليهم، والثانية حين تركته بغتةً لترقد في أحضان أحد أصدقائه المقربين.

ومع انتقاله إلى غزة تُنبئنا السردية التوراتية بأن شمشون لم يكد يقع في حب امرأة أخرى اسمها دليلة، حتى «صعد إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها تملّقيه وانظري بماذا قوته عظيمة»، عارضين عليها مبلغاً مغرياً من المال. على أن شمشون المتوجس من السؤال أعطى دليلة ثلاث إجابات كاذبة حول سر قوته، حتى إذا بالغت في إلحاحها «وضاقت نفسه إلى الموت» أخبرها بأن قوته كامنة في خصل شعره الطويلة، فإن تمّ قصُّها فارقته هذه القوة بالكامل.

وإذ نجحت دليلة في الوقوف على سر بطلها العاشق، أنامته على ركبتيها وطلبت من أحد الرجال قص جدائله السبع، حتى إذا أيقظته وأراد الانقضاض على الفلسطينيين، اكتشف أنه بلا حوْل، وأنه وقع ضحية المرأة المخاتلة التي أسلم لها قلبه. بعد ذلك اقتلع الفلسطينيون عينيه وأوثقوه بالسلاسل وسجنوه، آمرين إياه أن يدير في سجنه حجر رحىً ثقيلاً. وبعد انتشاء الفلسطينيين بالنصر جاءوا بشمشون ليبهجهم بعروضه المسلية في أحد أعيادهم الوثنية، فدعا الأخير الرب ليساعده على الانتقام، وكان شعره قد نما على غفلة من أعدائه، حتى إذا أعاد الرب له قوته هتف من أعماقه «لتمتْ نفسي مع الفلسطينيين» ثم هدم الهيكل على نفسه، وعلى الآلاف الثلاثة من الفلسطينيين الذين لم ينجُ منهم أحد.

ولم تكن مثل هذه القصة الحافلة بالرموز لتسهوَ عن بال الشعراء والكتاب والفنانين، الذين تناولوها عبر التاريخ من زواياهم المختلفة، وأفردوا لها قصائد ولوحات وأعمالاً إبداعية كثيرة. ولم يَفُت منتجي هوليوود ومخرجيها الكبار استثمار هذه القصة المثيرة في المجال السينمائي، فتم استلهامها مرات ثلاثاً بين مطلع القرن الفائت ومنتصفه، إضافة إلى عشرات العروض المسرحية والموسيقية والأوبرالية.

أما في مجال الشعر فقد استند الشاعر الإنجليزي جون ميلتون إلى قصة شمشون ودليلة في عمله الدرامي «سامسون أغونيستس» الذي استلهم من خلاله التراجيديا الملحمية الإغريقية، مبتعداً عن قواعد المسرح الإليزابيثي وأعرافه. ومع أن ميلتون قد آثر الالتزام بالنص التوراتي، فإنه وهو المصاب بالعمى تماهى من نواحٍ عدة مع البطل العبري الذي سمل الفلسطينيون عينيه. على أن أكثر ما يستوقفنا كقراء هو قول دليلة لشمشون الغاضب والرافض للصفح بأن الفلسطينيين «سيمتدحونها عبر الأجيال»، كما لو أن ميلتون كان يستطلع، بحدسه الشعري الثاقب، مآلات الصراع الوجودي الذي لا نهاية له بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وإذا كانت ثنائية الجمال والموت هي التي حكمت قصائد الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة في ديوانه «أفاعي الفردوس»، فقد بدت قصيدته «شمشون» ذروة الديوان وواسطة عقده الأهم. وإذا كان أبو شبكة قد اكتفى بإعادة تظهير الواقعة كما وردت في التوراة، نائياً بنفسه عن أي بعد قومي أو آيديولوجي، فلأن معاناته القاسية مع المرأة لم تمكنه من أن يرى في دليلة سوى واحدة من الرموز الأنثوية الأكثر دلالة على الخيانة والغدر. وهو إذ يتقمص شخصية شمشون المخدوع، يخاطب دليلة قائلاً:

ملّقيهِ بحسنكِ المأجورِ

وادفعيه للانتقام الكبيرِ

إنما الحسْن يا دليلةُ أفعى

كم سمعنا فحيحها في سرير

ملّقيهِ ففي ملاغمك الحمرِ

مساحيقُ معدنٍ مصهورِ

وارقصي إنما البراكين تغلي

تحت رجليكِ كالجحيم النذيرِ

وبينما يرى الباحث العراقي فاضل الربيعي، الذي يعمل على تفكيك البنية التاريخية للسرديات الدينية والميثولوجية، أن الحادثة برمتها ذات جذور يمنية سبئية، إذ إن اسم شمشون مشتق من الشمس، واسم دليلة مشتق من الليل، وأن الصراع في عمقه الرمزي هو صراع بين التقويمَين الشمسي والقمري، يرى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو القصة القديمة من منظور معاصر، محولاً عمله المسرحي «شمشون ودليلة» إلى مناسبة لوضع التاريخ على سكته الصحيحة. اللافت في عمل بسيسو أن عنوان المسرحية قد ظل غريباً عن سياقاتها حتى فصلها الأخير، حيث تتم على نحو مفاجئ إماطة اللثام عن الحقيقة المُرة. فالفلسطينيون المحشورون في عربة معطلة لم يعودوا يملكون، وقد أسفرت كل إشارات المرور عن لونها الأحمر، سوى قرارهم بإعلان الثورة دفاعاً عن هُويَّتهم المهددة بالامّحاء. أما سكان العربة الذين يتحكم بهم جبروت سائق حاقد ومبهم الملامح، فبينهم الأم والأب وابناهما عاصم مازن وريم، التي لم تستطع أثناء إجبارها على النزوح أن تميز بين طفلها يونس وصرة ثيابها، فتركت الأول وحملت الثانية، لتربي في داخلها مرارة الفقد وشهوة الانتصار على الجلاد.

وسرعان ما نكتشف أن من يمسك بزمام العربة هو شمشون الإسرائيلي الذي لا يكف عن تجديد وجهه الكالح من عصر إلى عصر، والذي يهتف بالفلسطينيين بنبرة هازئة:

هل تنتظرون دليلة؟

تكشف سرّي وتجزُّ ضفائر شَعري

تفقأ عينيَّ وتربطني كالثور أجرُّ الطاحون

عبثاً تنتظرون دليلة

أنتم في راحة كفّي

كلُّ قنابلكم تتفجر في داخل هذي الخوذة

كصواريخ الأطفال

وإذ يتابع النص المسرحي مفاجآته، تتقمص ريم شخصية دليلة الفلسطينية محذرة شمشون من التمادي في بطشه المتغطرس، ومبلغة إياه بأن دليلة الجديدة ستكون أكثر دهاءً من الأولى وأكثر شراسةً في الدفاع عن حقوق شعبها المهدورة. وفيما يُسمع من وراء العربة دوي الانفجارات وأزيز الرصاص، تتماهى ريم مع صورة الأرض نفسها، هاتفة بشمشون:

صار لنا دفتر يومياتٍ آخرُ يا شمشونْ

صرنا يا شمشونُ نوقّع فوق الأربطة البيضاء على الجرحِ،

الأربطةُ البيضاءُ تغطّي الأرض

فوق جبين الزيتونة صار رباطٌ أبيضُ،

والشمس ممرّضةٌ تسعى بين الجرحى