ت. س. إليوت يتنكر لحبه الأول!

1131 رسالة غرامية كُشف عنها بعد 50 عاماً من وفاته

ت. س. إليوت
ت. س. إليوت
TT

ت. س. إليوت يتنكر لحبه الأول!

ت. س. إليوت
ت. س. إليوت

في حياة الشاعر والناقد والكاتب المسرحي الأشهر ت. س. إليوت (1888-1965) ثلاث نساء ارتبط بهن عاطفياً في فترات مختلفة من حياته، وأحياناً في الفترة نفسها.

المرأة الأولى هي إميلي هيل - حب إليوت الأول - وهي فتاة أميركية، ابنة قس من نيو إنجلند، لم تتلق تعليماً جامعياً، لكنها عملت فيما بعد معلمة لفن الدراما وفن الإلقاء (كانت ذات صوت رخيم) وأستاذة مساعدة بإحدى كليات البنات. وفي سنواتها الأخيرة عملت رئيسة لنادٍ نسائي وعادت إلى اهتماماتها القديمة بالمسرح مخرجة مسرحية وممثلة فلعبت دور والدة هنري هيجنز عالم الفونطيقا (علم الأصوات) في مسرحية برناردشو «بجماليون» في ديسمبر (كانون الأول) 1967 في كونكورد بولاية ماساشوستس وكانت وقتها في السابعة والسبعين. وقبل ذلك مثلت في مسرحية موليير «البرجوازي النبيل»، وأخرجت ملهاةً من فصل واحد عنوانها «نشر الأنباء» من تأليف الكاتبة المسرحية الآيرلندية الليدي جرجوري.

والمرأة الثانية هي فيفيان هي وود زوجة إليوت الأولى. وهي ابنة رسام، كانت تعمل مربية أطفال لدى أسرة في مدينة كمبردج، التقى بها إليوت في مارس (آذار) 1915 في حفلة. ولكنها كانت تعاني منذ الصغر من اضطرابات نفسية وعقلية وانتهى بها الأمر في مصحة للأمراض النفسية والعقلية. وانفصل عنها إليوت بعد حياة زوجية مليئة بالتعاسة. وتوفيت في 1947.

والمرأة الثالثة هي فاليري فلتشر سكرتيرة إليوت في دار «فيبر وفيبر» للنشر في لندن. وقد اقترن بها في يناير (كانون الثاني) 1957 رغم فارق السن الكبير بينهما. لكنها تمكنت من إسعاده في سنواته الأخيرة وعوضته عن تعاسة الماضي. أولى هؤلاء النساء موضوع الكتاب الذي نقدمه هنا، وهو «فتاة السنابل البرية: ملهمة ت. س. إليوت الخفية» (The Hyacinth Girl: T. S. Eliot's Hidden Muse)، وقد صدر عن «دار فيراجو للنشر» بلندن خلال العام الماضي (2022)، وهو من تأليف ليندل جوردون (Lyndall Gordon) الزميلة بكلية «سانت هيلدا» بجامعة أوكسفورد والزميلة بـ«الكلية الملكية للأدب» في لندن. وهي تعيش حالياً في أوكسفورد، وقد تخصصت في كتابة السير والتراجم وسبق أن صدرت لها كتب عن إليوت وفرجيينا وولف وتشارلوت برونتي وهنري جيمز وإميلي دكنسن.

وعنوان الكتاب تفسره أبيات من قصيدة إليوت «الأرض الخراب» حيث نقرأ:

«قد أهديتني السنابل البرية لأول مرة منذ عام:

وقد أطلقوا عليّ اسم فتاة السنابل البرية»

_ وعلى الرغم من ذلك فعندما تأخرنا في العودة من حديقة السنابل البرية

وقد امتلأ ما بين ذراعيك بها وابتل شعرك، لم يعد في مقدوري الكلام فخفضت عيني.

لم أكن بالحي ولا بالميت، ولم أكن أدرك شيئاً

فقد كنت أنظر في قلب الضوء، السكون.

كانت إميلي ملهمة هذه الأبيات، كما أنها ملهمة قصيدة أخرى لإليوت عنوانها «الفتاة التي تبكي» وفيها يقول:

إن شعرها على ذراعيها، وإن ذراعيها لملؤها الأزهار

وإني لأتساءل كيف ينبغي أن يكون اجتماع الاثنين!

التقى إليوت بإميلي هيل لأول مرة في مارس 1905 في مدينة كمبردج بولاية ماسوشوستس. كانت في الرابعة عشرة وهو في السابعة عشرة. وكان وقتها تلميذاً في المرحلة الثانوية بمدينة سانت لويس في ولاية ميزوري ثم طالباً جامعياً يدرس الفلسفة في جامعة هارفرد (1911- 1914). واشترك الاثنان في تمثيل إعداد مسرحي لرواية جين أوستن «إما». وفيما بعد هاجر إليوت إلى بريطانيا وحصل على الجنسية البريطانية وعمل موظفاً في بنك لويدز ثم رئيساً لتحرير مجلة فصلية هي «ذاكرايتريون» (المعيار) وأحد مديري دار النشر «فيبر وفيبر». هذا إلى جانب حياته الأدبية الغنية التي توجت بحصوله على «وسام الجدارة»، وهو أرفع وسام بريطاني، في 1948، وجائزة نوبل للأدب في العام نفسه.

وفي إنجلترا اقترن إليوت بفيفيان بعد فترة قصيرة من التعارف سرعان ما تبين بعدها أنه لم يقترن بالمرأة المناسبة (يقول المثل الإنجليزي: «تزوج على عجل واندم على مهل»). واشتغل لفترة قصيرة مدرساً وبالصحافة الأدبية وإلقاء الأحاديث الإذاعية وكان عليه أن يكافح كفاحاً شاقاً من أجل اكتساب معاشه والقيام بنفقات بيته وفواتير أطباء زوجته التي كانت في حالة مرض نفسي وبدني يكاد يكون متصلاً. وخلال ذلك لم تنقطع علاقته بإميلي عن طريق الرسائل والزيارات المتقطعة بين بريطانيا والولايات المتحدة. وبلغت علاقته بها أعلى نقطة لها في 1935. على أنها لم تكن علاقة جنسية فقد كان إليوت مسيحياً ملتزماً وكانت إميلي فتاة محافظة النشأة من بوسطن.

وخلال فترة علاقتهما الطويلة خط إليوت لها 1131 رسالة أودعتها إميلي في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية، وكان إليوت قد طلب ألا يفرج عن هذه الرسائل إلا بعد 50 عاماً من وفاته. وفعلاً لم يكشف النقاب عن أرشيف هذه الرسائل إلا في 2 يناير 2020.

تغطي رسائل إليوت إلى إميلي الفترة 1930- 1956 وقد ظلت محفوظة في 14 صندوقاً ظلت مغلقة من ديسمبر (كانون الأول) 1956 حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2019 (أي بعد 50 عاماً من وفاة إميلي) وذلك في مكتبة فايرستون بجامعة برنستون.

كان إليوت يوقع رسائله إليها بعبارة «عابدك توم». ويكرر كلمة «أعبدك»، ويدللها بتسميتها «عندليبي» و«طائري المحاكي» و«حمامتي»، ويقول إنه يلمس الورق الذي تخط عليه رسائلها.

أما إميلي فقد كتبت إلى إليوت حوالي ألف رسالة في الفترة 1930 - 1947 ولكن إليوت مزق رسائلها فلم يبق منها سوى 26 رسالة.

وليس من الصعب أن تتخيل الصدمة التي أصيبت بها إميلي حين علمت بخبر زواج إليوت من سكرتيرته فاليري، خصوصاً وأن إليوت كان قد قال لها إنه لا يستطيع أن يقترن بها إلا إذا توفيت زوجته فيفيان. وحين توفيت هذه الأخيرة تراجع إليوت عن وعده في 1947 وكتب لإميلي زاعماً أن شعوره بالذنب والمسؤولية الجزئية عن وفاة فيفيان في المصحة قد جلب معه «نفوراً حاداً من الجنس في أي شكل من أشكاله»، ولم تتزوج إميلي قط وإنما ظلت تنتظر حبيباً لا يجيء.

تغطي رسائل إليوت إلى إميلي الفترة 1930 - 1956 وقد ظلت محفوظة في 14 صندوقاً بقيت مغلقة من ديسمبر 1956 حتى أكتوبر 2019

لكنها تجلدت وتصرفت بكرامة ولياقة. فكتبت له ولفاليري مهنئة بالزواج (التقت المرأتان في نيويورك بعد سنوات من وفاة إليوت وكان لقاؤهما في الغالب في عام 1968). وكانت إميلي قد سافرت إلى لندن على أمل الالتقاء بإليوت ولكنه اعتذر متعللاً بإصابته بإنفلونزا آسيوية! فعادت إلى أمريكا دون أن تراه وقد أدركت أن الكاتب العظيم يمكن أن يسلك «مثل أي مخلوق بشري عادي». وخطت له قبل عودتها إلى أمريكا خطاب وداع نبيلاً ولكنها لم تذكر فيه عنواناً يستطيع الاتصال بها عن طريقه فيما بعد مما يدل على أنها فقدت كل أمل ورضيت بنصيبها منه.

ولا مفر من القول بأن صورة إليوت، بعد قراءة كتاب جوردون، ليست بالصورة الجذابة. فهو في زواجه الأول - مع الإقرار بمعاناته - كان ينطوي في دخيلته –فيما يبدو- على جانب مظلم يتمنى، ولو لا شعورياً، موت زوجته.

كذلك نرى الفرق واضحاً بين شخصية إميلي هيل وشخصية إليوت من حيث الثبات على العهد. فعلى حين ظلت إميلي وفية لحبها حتى النهاية، أراد إليوت أن يطوي صفحة حبه لها قائلاً إنه كان «حب شبح لشبح». واتهمها بقلة القراءة وكثرة الشكوى من إهمال الأصدقاء. وعاب سوناته نظمتها (وهو أمر مقبول من شاعر عظيم مثله). ولكن أسوء ما في الأمر أنه (ربما إرضاء لزوجته الثانية) أنكر أنه أحبها وراح ينتقص منها.

ولكن - في نهاية المطاف - من الذي يملك الحق في أن يدين أحداً وكل ابن آدم خطاء؟ أو ليس من حق إليوت - بعد عمر من المعاناة - أن يلتمس السعادة حيث يجدها، وقد وجدها في زواجه الثاني؟

طوى الموت أبطال هذه الدراما جميعاً: فيفيان هي وود في 22 يناير 1947 عن 58 عاماً. إليوت في 4 يناير 1965 عن 77 عاماً. إميلي هيل في 12 أكتوبر 1969 عن 78 عاماً. فاليري إليوت في نوفمبر 2012 عن 86 عاماً. وبقيت منهم هذه الرسائل التي تحمل - مثل رسائل جون كيتس ود. هـ. لورنس وفرانز كافكا - صوراً حيةً لعباقرة في لحظات قوتهم وضعفهم، علوهم ودنوهم، ولكنها تظل -على مر السنوات- متوقدة بلهيب العاطفة، ورغبات البدن، ولوامع الفكر، وأزمات الضمير، وأشواق الروح.

دفن رماد فاليري - التي ترملت في سن الثامنة والثلاثين- إلى جانب رماد إليوت في كنيسة القديس ميخائيل بقرية إيست كوكر وهي قرية صغيرة في مقاطعة جلوسترشير جنوب غرب إنجلترا. وأسدل الستار على حياة شاعر عظيم وزوجتين وفتاة السنابل البرية التي ألهمت إليوت بعضاً من خير شعره، ولكنه تركها ليقترن بغيرها.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.