«فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة

الروائي الأردني خالد سامح في روايته «بازار الفريسة»

«فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة
TT

«فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة

«فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة

يعالج الروائي الأردني خالد سامح في روايته الجديدة «بازار الفريسة» -المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عمّان- قضايا ثقافية سياسية، دون الوصول إلى إجابات نهائية. استأنف مواضيع روايته الأولى «الهامش» التي أصدرها في عام 2020، وقرأ فيها واقعاً عربياً لا يبعث على المسرّة. تقاسمت الروايتان اقتصاد اللغة ومشكلات المثقف العربي التي تبدأ بالتحريض وتنتهي إلى تداعٍ أسيف، وجهه الأكثر سواداً: المثقف الخائن.

مثقف يدعو إلى الدهشة، يلتفّ بتناقضاته ويسقط في عُريٍ ذليل. تأتي الدهشة من وعد بالثورة وإصلاح العالم، وانقلابه إلى تجارة منقطعة عن الأخلاق والقيم، ومن تنديد بالظلام و«الإمبريالية»، إلى ترويج الكذب والانصياع إلى أكاذيب أعداء الحقيقة. وتتسع السخرية السوداء حين يكون المثقف المنقلب يساريَّ البداية، متحزباً فخوراً بتحزبه، كما لو كان في طبيعة المثقف الخائن ما يعيد خلقه ويقايض الثورة بالمصلحة.

لكأن المثقف الكاذب المحاط بهالة جماهيرية واسعة ينجز مرحلتين: مرحلة يبني فيها الشهرة، وأخرى يجتهد في تسليع الشعارات ويعتاش بها، كأن يلعن إسرائيل وسياساتها ويرجع فيرى فيها ظاهرة تمحو «فضائلُها» أخطاءَها.

وبهذا فإن المثقف المذكور يعرف أدواته، ويتقن فعل التستر والتكسب منه، يعيش في الحالين منقسماً وسعيداً بانقسامه، مطمئناً إلى حزبه وثناء رفاقه عليه، وزوجة متعلمة كريمة البيئة.

تأمَّل خالد سامح «وضع المثقف» واستقصى أحواله، بدءاً من دراسة جامعية لامعة أو باهتة، مروراً بمساهمات صحافية «منحازة»، وصولاً إلى «مركز دراسات سياسية» يعمل فيه، أو يؤسسه مسترشداً بخطى آخرين سقطوا في بهجة المؤسسات اللاحكومية أو سقطت عليهم، حيث المواضيع الجاهزة، أو التي تحت الطلب، وتتضمن عادةً «اضطهاد المرأة» و«عنف الإسلام» و«الحوار مع الآخر» -دون تعريفه- والديمقراطية والاستبداد وتهميش أسبابهما؛ مواضيع بالنسبة لهم لا يمكن تطوير المجتمعات «المتخلفة» دون مناقشتها، بعيداً عن أخرى أكثر وضوحاً: التبعية والهوية الوطنية والبرامج المدرسية ودور اللغة القومية. وواقع الأمر أن المثقف المتكسب لا يعبأ إلا بما يوائم «المقاولات الثقافية» المُسيطرة بقدر ما أن الذين يتعاملون معه ينبهون إلى مواضيع تلبّي أغراضهم السياسية، سواء أقامت بتجميل «سلام» لا وجود له، أم افترضت حواراً ثقافياً مستحيلاً بين أطراف لامتكافئة.

جمع الروائي خالد سامح بين التوثيق والتطبيق، إذ في مآل بطل الرواية «رشيد» ما يذكّر، بلا صعوبة، بنماذج ثقافية معروفة التحول والمآل، من صعود الاسم إلى «الرحيل الأخير»، ومن ذلك التكامل بين سياسي موسر يحتاج إلى «صحافي» جامع للمعلومات و«تنظيم» رخو الأعضاء يسبق بعض قادته «مثقفهم المعروف» إلى الخيانة، بل إنه -أي الروائي- يأخذ بلغة تقريرية واضحة، كما لو كان ينجز عملاً صحافياً مألوفاً يجذب القراء. والسؤال: ما الذي يدفع المثقف الآيديولوجي إلى «العمالة» والانحياز إلى طرف خارجي يُسهم في خراب العالم العربي؟

ركنَ خالد إلى استقصاءٍ قريب من «علم اجتماع المثقف»، يستكمل فيه كلُّ بُعدٍ بعداً آخر: الاستعمال الذرائعيّ لصفة «الحزبي» التي تمد المثقف العميل بصفة «المناضل» أو «التقدمي»، فقد جاء بطل الرواية من فضاء طبقيّ «شعبيّ»، وذهب إلى بيروت واقترب من العمل المسلح، وعمل في «مركز أبحاث» يرمي عليه بصفة الباحث المحتشد بالمعادلات السياسية. وإضافةً إلى هذا وذاك فهو مزوَّدٌ بتأهيل ذاتيّ، وسيم، كثير العلاقات، يثق به الآخرون، يخادعهم ويتأخرون في اكتشاف خداعه، وتصيب زوجته الدهشة إن شكَّك «رفاقه» المقربون في ولائه الوطني.

يتسم المثقف المتكسب بفن المخادعة مدعوماً بفتنة الاستهلاك، وهو الذي جاء من وسط فقير، مولعٌ بالأناقة وبالفاخر من السلع والسكن المريح، ويسلّع ذاته ليمتلك ما يريد، بدءاً باللباس وانتهاءً بالزوجة التي قاسمته «الفاخر» لباساً ومأكلاً وسكناً، رسم خالد سامح سمات المثقف المتداعي، الذي بلغ قرار «المثقف الخائن»، والذي يقبل اتفاق أوسلو بلا مساءلة ويصبح مرشداً سياسياً لأوساط أنكرت الحق الفلسطيني وسخرت منه ومن القائلين به. وبهذا أصاب المؤلف في عنوان عمله: «بازار الفريسة»، إذ المثقف بازار سقوطه، وإذ الحق الفلسطيني بازار الذين يدبّجونه، ما يستقدم الفساد لدى أوساط لا تفصل بين الحل الوطني للقضية والصفقات التجارية، بل يجعل من «فلسطين الصفقة» طريقاً إلى النعمة الفاسدة والحياة الفاخرة.

عاين خالد سامح «البازار الواقعي» وسجّله بشكل واقعي بلا تزييد أو نقصان، كأن يستهل روايته مباشرةً بالوثيقة التالية:

«الولايات المتحدة الأميركية – وزارة الخارجية – مكتب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، واشنطن العاصمة، 6 ديسمبر (كانون الأول) 1989: سعادة السفير، نظراً للتحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط (...) فإننا نوجهكم...». وضوحٌ لا ضباب فيه، موضوعه الشرق الأوسط وقضاياه، تضيئه كلمة «نوجّهكم» التي تشير إلى طرفٍ يقدم النصيحة السياسية بالتواصل مع القوى والشخصيات الفاعلة سعياً إلى تحقيق «المصالح المشتركة»، وتنتهي الرسالة الرسمية «بإخلاص، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط»، والمرسل له مثقف يدعى «الرفيق رشيد مرعي» ينتظر جواباً من مسؤول أميركي مرموق تربطه علاقة وثيقة بمدير مركز «جسور الحوار» للدراسات السياسية في عمّان، هو رشيد مرعي نفسه.

الثقافة بلا سياسة هي أقرب إلى اللهو والتجارة.. والسياسة السائبة تنتهي إلى كلمات متقاطعة

المتابع لكتابات بعض الصحافيين المعروفين في الشرق الأوسط يقرأ بلا جهد ما يَرِد في الرسائل بين مدير «معهد جسور الحوار» والمسؤول الأميركي، كما لو أن خالد سامح قد قرأ «المستور» إلى العلن، وكشف عن عينة ثقافية تمارس الكتابة في زمن الفساد. ساعد على ذلك عمله الصحافي الطويل وممارسته الأدبية، فهو كاتب قصة قصيرة منذ زمن، ودرس العلوم السياسية في الجامعة الأردنية، ولديه معرفة نافذة بالأوساط الثقافية.

سجّل سامح ما يبدو راهناً منذ أكثر من عقدين من الزمن، وتابع بنبرة غاضبة أمراضاً كتابية معروفة الاسم والعنوان في زمن انطفاء الحياة السياسية إلى حد الإمحاء. مع ذلك، وبعيداً عن عدمية اعتنقها بعض المثقفين، تناول عالم المثقفين بصيغة الجمع، واقتفى «بُقيا» زمن «يتلاشى» فيه الحد بين الثقافة النقدية وجدلية الفعل السياسي، مدركاً أن الثقافة بلا سياسة هي أقرب إلى اللهو والتجارة، وأن السياسة سائبة تنتهي إلى كلمات متقاطعة، ولهذا تناول نماذج من المثقفين متعددة، بعضها جاد لكنه آثر الانزواء، وآخر رثى نفسه وهو يرثي انطفاء الأحزاب والعمل الثقافي لأسباب كثيرة.

سؤالٌ أخير لامسه خالد سامح برهافة ونباهة: مَن المثقف الذي سوّق لثقافة سياسية ثم آثر مصلحته الخاصة؟ وما المرجع الاجتماعي الذي يعيد «تصنيع المثقف» أكثر من مرة؟ ووصل الروائي بلا افتعال إلى ما يدعوه علم الاجتماع الثقافي «المثقف الريفي» بالمعنى النظري الخالص، لا بالمعنى الاجتماعي، فهذا المثقف، وفي مجتمع فقير الثقافة، له صفات محددة: اختصار الثقافة في شكل من الشهرة والتميز، واعتبار التميز الثقافي طريقاً إلى السلطة، ففي «الدراسات المصطنعة» ما يقيم علاقة بين المثقف والسلطة التي تؤثِر المديح على النقد الاجتماعي، وإن كانت العلاقة الأخيرة تُفضي إلى الشهرة، بحق أو من دونه، فإن فيها درباً إلى التسويق الذاتي وإلى أبواب «السفارات»، وتَحوُّل الشهرة «الدبلوماسية» إلى قوة وتجارة تكفلان حياة موسرة وتمنعان النقد المسؤول.

أكد خالد سامح في روايته الأولى «الهامش» أخلاق المسؤولية، وصيّر الرواية وثيقة اجتماعية عن القمع والخراب، وبرهن في روايته الثانية على جمالية وأخلاقية الإتقان، إذ الكتابة نقد ينشد الإصلاح، ويجدد الرواية، وهو في الحالين بدا روائياً مختلفاً يجدد الرواية العربية ويتجدد بها.

أخيراً، فإن الروائي خالد سامح يود أن يقول في روايته «بازار الفريسة»: إن كتابةً في السياق العربي الراهن لا تُسيِّس العلاقات الاجتماعية جميعاً، هي كتابة نافلة ولا ضرورة لها، تستجيب لمطالب سوق الكتاب المتداعية، وتعبث بتقاليد الكتابة الوطنية الممتدة من غسان كنفاني إلى غالب هلسا.

* ناقد فلسطيني


مقالات ذات صلة

هدر المال الثقافي في العراق

ثقافة وفنون شعار مهرجان المربد

هدر المال الثقافي في العراق

يتصور بورديو أن «رأس المال الثقافي يشتغل كعلاقة اجتماعية داخل نظام تداولي، يتضمن معرفة ثقافية متراكمة تمنح سلطة ومكانة»

أحمد الزبيدي
ثقافة وفنون ملف الطالب طه حسين... حقبة غير معروفة

ملف الطالب طه حسين... حقبة غير معروفة

عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، صدر كتاب «وثائق ملف الطالب طه حسين» للباحثة د. جيهان أحمد عمران.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون أوهام العالم الرقمي

أوهام العالم الرقمي

تتأمّل رواية «الحياة السريّة لمها توفيق» (منشورات المتوسط - ميلانو) مراوحات التأرجح الإنساني بين قطبي الحياة بواقعيتها من جهة وافتراضيتها «الرقمية» من جهة أخرى

منى أبو النصر
كتب توماس ديكسون

الانفعال بين علم النفس والأدب

كتاب صغير عن موضوع كبير. ففي نحو 150 صفحة من القطع الصغير، تحت عنوان «تاريخ الانفعالات: مدخل بالغ الإيجاز»

د. ماهر شفيق فريد
كتب غلاف موت صغير

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

كان لترجمة الدكتورة، مارلين بوث، رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» دور في تقوية اهتمام صغير لديّ؛ الاهتمام بتغيّر، أو ضياع العناوين الأصلية لبعض الروايات العربية

د. مبارك الخالدي

هدر المال الثقافي في العراق

شعار مهرجان المربد
شعار مهرجان المربد
TT

هدر المال الثقافي في العراق

شعار مهرجان المربد
شعار مهرجان المربد

يتصور بورديو أن «رأس المال الثقافي يشتغل كعلاقة اجتماعية داخل نظام تداولي، يتضمن معرفة ثقافية متراكمة تمنح سلطة ومكانة» تشتغل على نسق مؤسساتي يسعى إلى إضفاء «الشرعية والأصالة» بدلاً عن القيمة الجمالية. وأمر كهذا تقوده السلطة، حسب ميشيل فوكو، بوصفها ذات علاقة تبادلية مع المعرفة، بحيث إن إنتاج المعرفة يفهم كتشابك مع أنظمة السلطة، أي أن المعرفة مكوّنة داخل سياق علاقات، وممارسات لتساهم السلطة لاحقاً في تطوير وصقل وانتشار التقنيات الجديدة لها.

ومن هذا المنطلق يتبلور النتاج المعرفي والثقافي في نسق خطابي، ينتج ويحدد مواضيع المعرفة بأسلوب واضح، وتتمثل فاعلية السلطة في قدرتها على تسويغ الخطاب الثقافي بما ينسجم مع توجهاتها وأهدافها؛ وعلى وفق ذلك لنتفحّص أسلوب السلطة العراقية في تعاملها مع الملف الثقافي في العراق، مع الإشارة إلى الاختلاف الكبير بين التصور الفلسفي للسلطة، برؤية تجريدية، الذي مر بعضه في مقدمة المقال، وبين دلالة السلطة كحكومة وإدارة للبلد. وكاتب السطور معني هنا بالتصور الثاني لغياب المنهجية الفلسفية والمؤسساتية في العراق بما لا يتيح مجالاً للجدل والنقد في ضوء التصور الفلسفي!

في العام الماضي، أعلنت رئاسة الوزراء العراقية عن دعمها للنشاطات الثقافية بأموال طائلة، وما زالت تؤكد ذلك في أكثر من مناسبة! لكن وهنا المفارقة، من دون أن تعلن عن «خططها» العلمية والمنهجية لكيفية استثمار الأموال استثماراً يحقق «ربحاً» معرفياً أو فائدة ثقافية، بمعنى أننا لم نعرف السياسية الثقافية أو التخطيط الثقافي وكيفية صرف الأموال بما يتوازن مع رؤية الدولة وفلسفتها. وتالياً فإن غياب الرؤية وعدم وضوح الهدف أدى إلى هدر مالي ناتج عن هدر ثقافي. فمثلاً دعمت الحكومة مهرجان المربد الذي أقيمت فعالياته بمحافظة البصرة في فبراير (شباط) الماضي، وانتهى بمعارك «طائفية» بين بعض الشعراء بسبب قصيدة أُوّلت على أنها تنتقص من «الحشد الشعبي»، ثم أقيم بعد ذلك «مهرجان أبي تمام» في مدينة الموصل وانتهى بتقاذف طائفي مماثل وصل إلى المحاكم والقضاء، والمعركة مستمرة وسيل الشتائم متواصل، ولم نعرف ما القصائد التي ألقيت وما البحوث التي شاركت؟!

من جهتي، كنت قد شاركت ببحث نقدي في مهرجان المربد، وحرصت على إعداده وفق أعراف النشر ومعاييره السائدة، وكنت أتصور أن البحوث والمشاركات النقدية ستكون بين دفّتي كتاب، يطلع عليه الآخرون، ويصبح تأريخاً دالاً على فعاليات المهرجان. ثم تبين لي لاحقا أنها لن تنشر!

إذن، لماذا الدراسات أصلاً إذا كانت النية مبيتة بعدم النشر؟ ولماذا لم تراقب اللجان المختصة هذا الهدر؟! فقد دُعي الناقد وكلّف الحكومة وخزينتها أجور النقل والسكن بأفخم الفنادق، وإذا به يجلس لعشر دقائق ويتحدث كما يتحدث العشاق؟! أيعقل أن تقوم الحكومة ومن ورائها الدولة بغدق الأموال الطائلة من دون أن تعرف نتائج صرفها؟ ما القيمة الثقافية والمعرفية وراء هذه «الشفاهيات البدوية؟!».

يبدو لي أن السؤال الأهم الذي يجدر طرحه، مفاده: ما الحاجة الملحة التي تدعو إلى تبذير كل هذه الأموال على مهرجانات ينتهي أثرها مع إطفاء الميكرفون على المنصة. أليس الأولى أن تحدد سياسة الدولة، ومن ثم تحدد الرؤية الثقافية التي تدعمها الحكومة، وتكون هذه الرؤية منسجمةً مع فلسفة الدولة؟!

لا شك في أن الفراغ المؤسساتي الثقافي كبير جداً ومتصحّر، من حيث الإمكانات المادية والإدارية أو من حيث الرؤى والخطط الاستراتيجية، ومن ثم غياب التخطيط والتنظير وغياب رسم الموازنة الثقافية، فليست لدينا دور نشر تضاهي «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، ولا يمكن المقارنة بين نتاج «المركز القومي للترجمة» و«دار المأمون»؛ ليست لدينا مسارح غير التي بنيت في النظام الدكتاتوري، والتي كانت منبراً إشهارياً للسلطة. والقوانين السلطوية ما زالت قيداً وعائقاً أمام نشر الكتاب وتوزيعه وتصديره، ولم تسع الحكومات المتعاقبة إلى إلغاء القوانين التي تخص الثقافة والطباعة، وهي الصادرة عن مجلس قيادة الثورة أيام الحكم البعثي.

بأسف واختصار شديد أتساءل: أيمكن أن يدلني أحد على صرح ثقافي مهم بنته الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال؟!

انتهى «مهرجان المربد» في البصرة بمعارك «طائفية» بسبب قصيدة أُوّلت على أنها تنتقص من «الحشد الشعبي»، واختتم «مهرجان أبي تمام» في الموصل بتقاذف طائفي مماثل وصل إلى المحاكم والقضاء

لا أدري إن كانت الحكومات المتعاقبة، بعد الاحتلال، تعني هذه السياسة العبثية؟ فهي من نتاج نسق قبلي وبدوي قديم يسعى إلى التقرب من الشاعر الحطيئة كي لا يهجوه؛ أو لعلها سياسة الخليفة الذي يقطع لسان الثقافة بالمال! لنتذكر كيف كان النظام الدكتاتوري يغدق بالأموال الهائلة والتبذيرية على الثقافة أيام الحرب العراقية - الإيرانية بما يتماشى مع حربه حتى حوّل المثقف العراقي الحرب إلى «نزهة إلى الجنة»، وكيف أصبح الأديب المثقف العراقي قادراً على تصدير ثقافة الدولة إلى المحيط العربي؛ وحين انتهت الحرب وبدأ الحصار الدولي أبان عقد التسعينات من القرن الماضي ما عاد الدكتاتور بحاجة إلى دعم الثقافة واكتفى بسد رمق «اللسان» فيلتقي بين الحين والآخر بالشاعر والناقد والعالم والأستاذ، ويبارك زيارتهم بحزمة من النقود يضمن بها مدحهم له ولا ينتظر منهم خطاباً جمالياً ولا رؤية معرفية يمتدان لخارج الحدود، لأن المثقف العربي قد ضمن معرفته بكذبة العروبة عند القائد، وصار الدعم محلياً بنقود مطبوعة؛ لا خير فيها ولا ثراء يرتجى منها وتشبه تماماً الخطاب الثقافي المحلي.

بتقديرنا، إن دعم الثقافة يتأتى من خلال إنقاذ ملف الطاقة، والاهتمام بالتعليم، وبناء المستشفيات، ورصانة المؤسسات، وفرض القانون حتى لا يلتفت المواطن إلى الوراء خوفاً من رصاصة طائشة، وأن يكون الحكم بيد نظام الدولة، وليس بيد الأحزاب، فهذا هو الدعم الرئيس للمثقف، وهذا هو البناء الرصين للثقافة العليا أو السَنية القادرة على خلق خطاب معرفي واضح يجسد هوية الدولة وفلسفتها على وفق مرجعياتها المختلفة.